خواطر صحية عابرة حول حوكمة النظام الصحى
فى حوار قريب مع زميل باحث فى مجال الصحة، اتفقنا على وجود مشكلة أمام الباحثين فى مجال الصحة تتمثل فى أن آخر مسح صحى سكانى DHS كان منذ خمس سنوات لبيانات صحية بالطبع ترجع إلى قبل ذلك بعامين على الأقل (يعنى قرابة سبع سنوات). (آخر مسح صحى سكانى بتاريخ 2015)، وإن آخر حسابات قومية للصحة (N.H.A.)، كذلك فى هذا التوقيت تقريبا، وذلك يعنى ببساطة أن الباحثين الجادين فى التخطيط والسياسات الصحية ليس أمامهم كمصدر للمعلومات غير تصريحات بعض المسئولين التى يثير الكثير منها الدهشة والاستغراب، فبعضها مغرق فى التفاؤل إلى حد يثير القلق (كالقضاء التام على فيروس س مثلا)، فى حين أن المتاح فعليا لتقرير ذلك لا يؤدى لهذا المعنى وليس هناك ما يثبته بشفافية فعلية، (ولمثل هذا التصريح يجب أن تكون نسبة الإصابة بالمرض أقل من 1 % من السكان).. وبالطبع الشفافية والدقة وتوفر المعلومات فى وقتها من أعمدة الحكمة الأساسية لحوكمة أى نظام صحى حوكمة رشيدة تسمح بالمشاركة والمساءلة النزيهة.
وفى ذات الوقت قلت لمحاورى إن وجود خطط واضحة يحاسب عليها المسئولون التنفيذيون وتمكن البحث العلمى الأكاديمى من أداء وظائفه فى التقييم المستمر من البديهيات التى لا يجب إغفالها.
وفى سياق هذا الحوار، قلت لزميلى هناك أيضا ما يجب وضعه فى اعتبار العاملين على إصلاح المنظومة الصحية وخاصة فى تجريب التأمين الصحى الشامل الجديد واحتياجنا إلى مقاربة تقييم التكنولوجيا الصحية والتدخلات الطبية والدوائية فى عمليات تقديم الخدمة، فقد أثبتت تقارير منظمة الصحة العالمية أن نسبة الإهدار من الإنفاق على الرعاية الصحية خاصة فى البلدان متوسطة الدخل فى بلد مثل مصر يتراوح ما بين 20 % إلى 40% وذلك نتيجة إلى:
ــ عدم الاستخدام الرشيد والأمثل للأدوية irrational use of medicines
ــوإلى التوزيع غير المنصف والرشيد للموارد المالية والبشرية.
ــ وأخيرا إلى ضعف آليات حوكمة النظام خاصة فى أداء وظائفه الرئيسية.
***
وذلك السياق الذى جعلنا نتحدث حول ما يتردد عن تغيير وزارى قريب فقلت له: أنا لا يشغلنى كثيرا ما يتردد عن تغييرات فى وزارة الصحة يترقبه البعض (بعد انطلاق قطار تنفيذ التأمين الصحى الشامل والحملات الصحية الرأسية المختلفة)، وربما يحزننى فشل ثانى سيدة تتولى هذه الوزارة الهامة، وما يشغلنى أكثر هو أهمية بناء قوائم النظام الجديدة الآن وليس غدا، على أساس من الحوكمة الرشيدة، بمعنى تفعيل دور الوزارة الجديد كمنظم، والهيئات الثلاث الجديدة المنوط بها تشغيل نظام التأمين الصحى وفق ما خطط له، إضافة إلى عنصر هام مازال غائبا وهو مشروع لتأسيس مجلس أعلى للسياسات والتخطيط الصحى الاستراتيجى، كان قد قدم منذ سنوات خمس سابقة إلى الحكومة، وكنا ومازلنا نعرضه دوما بإصرار لأهمية وجود عقل مركزى استراتيجى للنظام، فلا يمكن ترك كل هذه التحديات الصحية الهائلة لفرد واحد مهما كانت درجة الثقة فيه أو ولائه.
فالولاء الحقيقى يجب أن يكون للمؤسسية الحقيقية المتميزة بالفاعلية والاستمرارية والكفاءة، وليأتى من يأتى وزيرا بعدها ولا يهم، فهو سيكون منفذا لسياسات استراتيجية يضعها المجلس الأعلى للصحة تمثل الأطراف الفاعلة المختلفة فى المجتمع بلا تمييز لطرف بعينه ولمصالحه.
المجلس الأعلى للصحة وحوكمة النظام
أبرزت استراتيجية التنمية المستدامة 2030 لمصر التزاما حكوميا لوضع وتطبيق إطار فعال للحوكمة والحكم الرشيد للمنظومة الصحية فى مصر، ويشمل هذا وضع آليات لاتخاذ القرار بشكل مبدئى على البراهين والمساءلة والشفافية وإشراك المجتمع، واللا مركزية. ولتقييم ذلك بغض النظر عن التغييرات الوزارية المرتقبة، تحدد أولويات الحوكمة ضرورة إشراك المعنيين بالأمر وحكم القانون وتفعيله دون تمييز والشفافية فى الإعلان والتصريحات والاستجابة لردود الأفعال ومشاركة المجتمع المدنى وبناء التوافق المجتمعى.
وبعد مراجعة ذلك مع مجموعة من خبراء الإصلاح والباحثين وجدوا أن الإطار الحالى للحوكمة مازال يفتقر بشكل كبير للسياسات الواضحة والأطر التنظيمية التى تضمن تحقيق هذه المحددات بشكل عام وفى المنظومة الصحية بشكل خاص. مما يدفعنا للتأكيد على أهمية إنشاء مجلس أعلى صحى، فبغير ذلك هناك تهديد بشكل أساسى لتبديد المجهودات الهادفة إلى تطوير وإصلاح المنظومة الصحية والتى لا يمكن ضمان استدامتها وفعاليتها والاستخدام الأمثل لمواردها دون توفير قاعدة للمعلومات وإشراك المجتمع فى عملية صنع القرار الصحى.
وهذا ما يطرح علينا جميعا تساؤلا جذريا هل نريد حقا إصلاحا حقيقيا للمنظومة الصحية مستداما بصورة تحقق وتضمن حقوق المصريين فى الرعاية الصحية وهل نود بمسئولية وجدية أن نجد مسارا مختلفا يحد من هدر الاستثمارات العامة، ويمنع تضارب السياسات ويحقق تكاملها ويوفر سبلا أكثر فاعلية فى إتاحة الخدمة الصحية بجودة لمختلف المواطنين بدون تمييز فى ربوع البلاد؟
***
لقد حان الوقت لنعترف بأنه لا سبيل لهذا ما لم نمتلك رؤية استراتيجية تنبع منها خطط محكمة يصيغها المعنيون وفق مشاركة حقيقية وتمثيل واقعى متوازن بين أصحاب الحق والمكلفين بتحقيقه، رؤية تلتزم الدولة بجميع أجهزتها بتنفيذها وخطط نلمس لها واقعا فعليا وجداول زمنية محددة لا تتوقف بسبب تغيير القيادات.
فلا بد من قيادة تضع هذه الرؤية الاستراتيجية أو بالأحرى تجمع مدخلاتها من المعنيين وتصيغها فى صورة سياسة دولة وتوجه عام.
هذه القيادة مهمتها أن توجه مجمل المنظومة الصحية صوب تحقيق هذه الرؤية التى يتفق عليها المجتمع وتوضع بمشاركة واسعة من مختلف أطيافه.
ومن ثم هناك ضرورة لتأسيس مجلس أعلى صحى، بالإضافة إلى إجراء البحوث والدراسات فى وقتها ليتسنى للمخطط الصحى وضع خططه التنفيذية بدقة، وإتاحة قواعد البيانات للباحثين بشفافية تامة وبشكل دورى.
نشر هذا المقال علي موقع الشروق بتاريخ ١ ديسمبر ٢٠١٩