تحديات هيكلة القطاع الصحى وإصلاحه

3 نوفمبر 2019

من أعقد التحديات التى تواجه تطبيق نظام التأمين الصحى الشامل الجديد هى تحديات إعادة هيكلة القطاع الصحى برمته وفق ما نص عليه القانون وتحديد الأدوار الجديدة للهيئات الثلاث الجديدة ووزارة الصحة ومستويات القيادة والإشراف ومسارات العلاقات بينها أو ما يسمى اختصارا إطارا جديدا لحوكمة المنظومة، فوزارة الصحة مثلا من الآن ومستقبلا عليها أن تعيد هيكلة تنظيمها للعمل كمنظم عام وكمسئول دستورى عن الصحة العمومية ــ فقط ــ والعمل على مكافحة الأوبئة ومراقبة التغذية والآثار الضارة على الصحة العامة للمواطنين بيئيا وغذائيا وغيرها. وتتخلى عن أدوارها الأخرى كممول ومشتر للخدمة، أو مقدم للخدمة أو مراقب لجودتها. فتلك الوظائف سوف تنتقل تدريجيا إلى الهيئات الثلاث الجديدة.
فمثلا: هيئة الرعاية الصحية من المفروض أن تؤول إليها كل مستشفيات ووحدات وزارة الصحة للخدمة تدريجيا، وكذا مستشفيات ووحدات الهيئة العامة للتأمين الصحى الحالى، والسؤال الصعب هنا هو كيف سيحدث ذلك. ومن سينظم هذه العملية الإدارية والتنظيمية الكبرى بكل تعقيداتها المالية والبشرية؟
هل وزارة الصحة؟ أم خبراء من الجهاز المركزى للتنظيم والإدارة لإعادة الهيكلة؟
وهناك أيضا، هيئة التأمين الصحى الشامل الجديدة والتى يديرها مجلس إدارة تم تشكيله بقرار رئيس الحكومة وبرئاسة وزير المالية فى المرحلة الانتقالية الحالية (ورغم أن ذلك يعد نوعا من تضارب المصالح ربما يتم فضه عند اكتمال المنظومة مستقبلا)، فإلى متى يستمر هذا الوضع، وما طبيعة علاقة هذه الهيئات الجديدة المستقلة بشخصيتها الاعتبارية والمالية وموازنتها ومواردها الحالية والمستقبلية من مصادرها المعروفة، وما طبيعة علاقتها الإدارية والتنظيمية والمالية بهيئة التأمين الصحى الحالية التى لها رئاستها أيضا ومواردها الحالية والمستقبلية وقوانينها المختلفة.
وهناك أيضا هيئة الرقابة واعتماد معايير الجودة بمجلس إدارتها وتنظيمها الجديد ودورها الحيوى وتبعيتها لرئاسة الدولة كهيئة محايدة لإقرار منشآت تقديم الخدمة ومنحهم شهادة للتعاقد على العمل داخل المنظومة فى جميع مستوياتها وفق معايير تحددها لجودة الخدمة وكيف ستنظم علاقتها بالوزارة مثلا والأطراف الأخرى الممولة والمشترية للخدمة والأطراف المقدمة لها.

***
كلها تحديات هائلة تطرح تساؤلات كبرى مثل من يقود هذه العملية هل رئاسة الحكومة، أم وزير المالية، أم وزيرة الصحة أم من؟
وهل هناك ضرورة لوجود كيان استراتيجى أكبر وأكثر قدرة على التنسيق والفعل التخطيطى المستقبلى والرؤية القادرة على حل التناقضات أو الاشتباكات بين جميع الأطراف الفاعلة الآن. وما هو الطرف الحاكم استراتيجيا (إذا كانت وزارة الصحة ذاتها طرف فى المعادلة وليست كل المعادلة).
ما هو هذا الطرف الحاكم الاستراتيجى الذى تنطوى تحت عباءته كل الأطراف بدلا من الحركة الحالية المشحونة غير المنسقة كما يجب؟
لقد فشلت كثير من التجارب السابقة للإصلاح لسببين أولهما:
أولهما: غياب الإرادة السياسية لتنفيذ حلم الإصلاح وهذا ما نرى أنه متوافر الآن.
وثانيهما: غياب المشاركة المجتمعية الحقيقية التى تضمن ثقة المواطنين فى أهداف الإصلاح بأنها تتم وفق مصالحهم وليس لصالح أحد أطراف المعادلة (القطاع الخاص الذى يلقى بثقله للحصول على أكبر المكاسب من وراء إعادة هيكلة النظام الجديد بغض النظر عن مصالح الأطراف الأخرى المشاركة معه)، وهذا فى الواقع ما نتوجس منه كثيرا عند الحديث عن دور أكبر وأوسع للقطاع الخاص الطبى ممثلا فى احتكارات علاجية كبرى تنشأ، أو عند الحديث عن دور أكبر لشركات الخدمة الصحية الخاصة ونظم العلاج الخاصة أو شركات التأمين الصحى الخاصة، فالواقع أن القانون حسم كثيرا من هذه القضايا بوضوح فالنظام الجديد يجب أن يؤسس على مفاهيم التضامن والإنصاف ولا يسمح فيه بالتمييز السلبى فلا يسمح فيه بأى تمييز داخله، كما أن الشراكة مع القطاع الخاص والأهلى محسومة كشريك على قدر حجمه الحقيقى وعدد الأسرّة والمستشفيات المعتمدة به وأماكن وجودها المطلوبة فى ظل استراتيجية عامة للنظام فالقطاع الخاص غائب مثلا فى المناطق البعيدة والنائية لأنها لا تمثل عنصر جذب له، أما شركات التأمين الخاصة فهى أصول وطنية يسمح لها بتقديم خدمات فندقية لمن يريد أو خدمات تكميلية وتجميلية خارج نطاق ما سيطبقه نظام التأمين الصحى الشامل الجديد دون تمييز.
ومما سبق نؤكد على أهمية وخطورة عمليات إعادة الهيكلة ككل لنظام قديم راسخ، يعاد بناؤه من جديد ويحتاج إلى عقل مركزى قوى لرسم خطط واستراتيجيات العلاقات الجديدة، أو أدوار واستراتيجيات الهيئات الجديدة، ولهذا نعيد إلقاء نظرة على دور المجلس الأعلى للصحة فهو الكيان الغائب حتى الآن فى الهيكل الجديد، فهو بيت للخبرة ولتمثيل المعنيين بوضع السياسات الخاصة بالقطاع الصحى ككل والخطط الخمسية والعشرية لها واعتمادها مجتمعيا، ومراقبة الجهاز التنفيذى فى تحقيقه لها حتى يتكون هذا المجلس بشكل تمثيلى، يمثل مصالح المنتفعين من النظام ومن ممثلى المجتمع المدنى، وأن يكون مستقلا فى عمله وبرئاسة تنتخب من أعضائه من غير العاملين بالجهاز التنفيذى وأن تشمل عضويته جميع القطاعات بتوازن لا يخل بالإنصاف وألا تكون عضويته مصدرا للتربح وأن تكون مدة العضوية محددة. ذلك ما يمثل الضمان الحقيقى لعدم هيمنة طرف واحد بعينه يمثل عنصر قوة على المنظومة الجديدة مما يخل بمبادئ القانون الأساسية.
***
والخلاصة، تلك بعض من أهم التحديات المرحلية التى تواجه النظام الجديد الآن ومستقبلا.
فهل ندرك خطورة ما نحن مقبلون عليه وندرك ضرورة وجود هذا الطرف الحاكم الاستراتيجى الذى ربما يستطيع برؤية ومهمة تعنى بفض جميع الإشكاليات والتناقضات ويقوم بصياغة سياسات صحية دائمة واستراتيجية لا يخرج عنها طرف من جميع الأطراف الأخرى، ذلك ما نظن أنه من الفرائض الغائبة.

نشر هذا المقال علي موقع الشروق  بتاريخ 2 نوفمبر 2019