هوية طبيب الأسرة والرعاية الصحية الأساسية
ارتبط نموذج طبيب الأسرة الحديث فى نظام التأمين الصحى الشامل الجديد بمستوى الرعاية الأساسية من الخدمة الصحية (الذى ترسخ عالميا منذ إعلان ألما آتا الشهير فى عام 1978) والذى اختار المؤتمرون فيه الرعاية الصحية الأساسية كمدخل لتحقيق هدف الصحة للجميع فى عام 2000، وفى هذا المؤتمر المهم وجَّه ماهلر نائب المدير العام لمنظمة الصحة العالمية سؤالين للحاضرين: هل أنتم مستعدون للدخول فى تحديات سياسية للتغلب على الصعوبات الاقتصادية واﻻجتماعية والمقاومة المهنية لتبنى الرعاية الصحية الأولية؟ وكان السؤال الثانى هل أنتم مستعدون لاستخدام التكنولوجيا الملائمة بديلا عن النظام النخبوى الغربى للطب والعمل مع العاملين الصحيين لصحة المجتمع بديلا عن أصحاب التخصصات الدقيقة لتحسين نوعية الحياة؟ هل أنتم مستعدون للربط بين الصحة والتنمية؟
وكنا فى مصر قد عرفنا هذا التوجه للرعاية الأولية خاصة فى الريف مبكرا وباعتبارنا دولة زراعية تاريخيا على يد طبيب نابه كان عائدا من بريطانيا بعد دراسته وتعيينه وزيرا للصحة (عبدالواحد الوكيل 1942)، حيث بدأ فى اهتمامه بما سمى الصحة القروية وتأسيس مجمعات صحية قروية تخدم عدة قرى متجاورة. وترسخ هذا التوجه على يد طبيب آخر نابه (الدكتور نبوى المهندس 1962) بتوجه اجتماعى صحى، حيث سعى لتأسيس وحدات صحية فى كل قرية من ربوع البلاد ما أسهم فى إنشاء أهم شبكة للوحدات الصحية الأولية فى العالم الثالث إلى جانب مساهمته القوية فى تأسيس نظام للتأمين الصحى العام فى الحواضر والمدن مع تنامى ظاهرة التصنيع فى ذلك الوقت والخطط الخمسية 1964 والتى أكدت مسئولية والتزام الدولة المصرية الحديثة بالحماية الصحية التأمينية لجميع مواطنيها دون تمييز.
***
وجرت مياه كثيرة فى النهر منذ نهاية السبعينيات من القرن الماضى أدت إلى تدهور كل هذه الإنجازات الرائدة اجتماعية الطابع، ومع منتصف التسعينيات فى عام 1996 بدأت كثير من المراجعات لما حدث خاصة مع تنامى القطاع الطبى الخاص والأهلى رغم تنامى عدم قدرة المواطنين على تحمل سوء الأداء الصحى العام أو فاتورة العلاج فى القطاعات الخاصة من الخدمة. ومن ثم بدأ برنامج أفقى كبير للإصلاح الصحى اعتبر أن مدخله الأساسى لتقديم الخدمة وإتاحتها هو الرعاية الأولية (الأساسية) بإعادة وإحياء وإنشاء تلك الوحدات الصحية تحت مسمى «نموذج طب الأسرة فى الريف والحضر على السواء» وبتأهيل عدد من الأطباء الشبان عبر برنامج لزمالة طب الأسرة للعمل فى هذه الوحدات التى وصل عددها المعتمدة فى عامى 2003 و2004 إلى قرابة 1000 وحدة صحة أسرة بها فرق مؤهلة ومدربة لدعم مستوى الرعاية الأساسية التى نستطيع من خلالها مواجهة 70% من المشاكل الصحية التى يعانى منها المواطنون. حيث يستطيع طبيب الأسرة (حارس البوابة الصحية Gate Keeper) تقديم حزمة من الخدمات تشمل رعاية الطفل والأم الحامل ومواجهة الأمراض غير السارية (السكر والضغط)، والأمراض السارية المعدية، ويلعب دورا عضويا فى التوعية الصحية والتأثير المجتمعى وتنظيم الأسرة والحد من أسباب العدوى ومراقبة جميع محددات الصحة اﻻجتماعية بمفهومها الشامل.
وعلى الجانب الآخر من النهر كانت منظومتنا الصحية البديعة تسير فى مسارها لإعلاء قيم العرض والطلب وتسليع الخدمات الطبية والتى تمثل فهما معاكسا لما يحاول برنامج الإصلاح الصحى لتأسيسه حول الرعاية الأولية ومستويات الرعاية الثانية والثالثة ونظم الإحالة وتكاملية النظام.. فطبيب الأسرة فى هذا النظام متفرغ (طبيب واحد لمكان واحد) مندمج فى قلب المجتمع وقلب المشكلة الصحية، ويجازى ماليا مقابل ذلك بشكل مرض، على عكس الواقع المزرى لتسليع الخدمة الذى يجعل بعض كبار الأطباء وصغارهم الباحثين عن المكاسب المالية والمكانة اﻻجتماعية الفوقية فقط ما يخل باحترام وقيم المهنة. فلم يعد لدى هؤلاء وقت لفحص التاريخ المرضى لمرضاهم، فهم يقضون أحيانا أقل من خمس دقائق لكل مريض ثم يبادرون بكتابة قائمة طوية من التحاليل والأشعة وغيرها من المدهشات التى يروج لها الطب السلعى بغض النظر عن تكلفة وفاعلية ما يطلبون والذى يقع فى نهاية الأمر على كاهل المريض فى أسوأ حالات الإنسان.
***
من هنا تبرز أهمية الحماية التأمينية الصحية وأهمية الرعاية الأساسية وطبيب الأسرة الذى يقوم بضبط مثل هذه الممارسات ومراجعتها وتحديد تكلفتها الواقعية دون تزيد ودون السماح بخلق الطلب المزيف على الخدمة.
ففى مصر والعديد من البلدان المشابهة ما زلنا نلاحظ مثلا تزايد أعداد المراكز التى تقدم أحدث ما توصل إليه العلم فى مجالات الإنجاب مثلا فى حين تستمر مشكلات تنظيم الأسرة وتنظيم الحمل قائمة محدثة انفجارا سكانيا متصاعدا دون حل، كما نلاحظ تزايد عمليات نقل وزرع الأعضاء، حيث ﻻ توجد مصادر تمويل فى الأساس موجهة إلى برامج تقلل أسباب التدخل الجراحى بالوقاية والرعاية الأولية التى تمنع حدوث الخلل الوظيفى للأعضاء مبكرا.
ونحن بالطبع نعرف أن هذا التوجه للإصلاح الصحى (طبيب الأسرة والرعاية الأولية) سوف يصطدم مع مصالح المهنة التقليدى السلعى بالمعنى النفعى الذاتى، لأن المهنة كهوية رسخت منذ سنوات طويلة اﻻهتمام بالوضع اﻻجتماعى المميز وفقط (حكيم باشي). وبالمميزات المادية له القائمة على الحرفة الفردية (عيادات خاصة وعلاقات مع عملاء من المرضى Clients).. ومن ثم كانت النتائج حرمان كثير من المواطنين من فرص حقيقية لإتاحة علاج ورعاية إنسانية، كما أن مثل هذا المفهوم السلعى للسوق الطبية ذاتها مهددا أيضا بالفشل لأنه فى النهاية لن يخدم سوى شريحة محدودة من القادرين فى المجتمع وهذا ما لا يدركه أصحاب المشروع الطبى الخاص، حيث لن يحل مشاكلهم سوى تكاملهم فى نظام عام تأمينى يحقق لهم ميزات معقولة.
وفى الآونة الأخيرة نجحت الدولة فى اﻻنتهاء من قانون إصلاحى شامل للتأمين الصحى لإعادة بناء المنظومة بكل مستوياتها الثلاثة، وأعلن عن بدء مرحلة تشغيل تجريبية لها فى محافظة بورسعيد تمهيدا للامتداد والتوسع فى باقى المحافظات ولمدة شهرين من الآن ﻻستكمال إجراءات وخطط التنفيذ الفعلى بكامل محاورها من بنية تحتية وقوى بشرية وهياكل أجور تعاقدية عادلة.. وبدء ميكنة هذه المنظومة الهائلة عبر مستوياتها الثلاثة تنظم عمليات الإحالة ويتم فيها تسجيل الأسر على الوحدات والمراكز وعمل ملفات أسرية طبية وكروت للتردد. وفى هذا السياق من التجريب التشغيلى يهمنا فى هذه المرحلة التركيز على أهمية الرعاية الأساسية فيها والدور اﻻجتماعى الصحى لطبيب الأسرة والفرق المعاونة له.
وفى الخلاصة سوف نجد أن طبيب الأسرة (حارس النظام) يعيد صياغة تاريخ مهنة الطب بالمفهوم الحديث، مثلما قام من قبل عبدالواحد الوكيل فى عام 1942 بإنشاء مجموعات صحية والنبوى المهندس فى عام 1962 بإنشاء وحدات رعاية أساسية فى الريف وقام برنامج إصلاح القطاع الصحى فى عام 1996 بإنشاء وحدات طب الأسرة فى محافظات مصر، إنها قصة ممتدة لمحاولة إصلاح النظام الصحى وإخراجه من إطاره السلعى والسوقى إلى اطار المهمة اﻻجتماعية الحمائية لجميع المواطنين دون تمييز وبغض النظر عن تكلفة الخدمات عبر جسر تأمينى صحى قوى عادل ومنصف حارسه أطباء الأسرة.
نشر هذا المقال علي موقع الشروق بتاريخ 21 يوليو 2019