رؤية حول السياسات الدوائية وتسعير الدواء

16 ديسمبر 2018

فى مقال أخير ممتاز نشرته جريدة «الشروق» الغراء، تعرض الأستاذ مدحت نافع إلى تجربته الشخصية فى دراسة إشكالية خاصة بأثر اتفاقية «التريبس» على صناعة الدواء فى مصر، وعلى آليات تسعير الدواء ومشاكله بشكل عام، واتسم المقال بالكثير من الفائدة رغم بعض الملاحظات المفاهيمية البسيطة، مثل مفهوم الدواء المثيل والبديل والأصلى والمقلد وهى مفاهيم مختلفة فى أدبيات الصحة العامة، ورغم ما ذكر عن أننا ننتج محليا أدوية لعلاج السرطان بنسب تصل لـ 80% إلى آخره.

وفى هذا السياق نتعرض إجمالا للقضية المتعلقة بالسياسات الدوائية وتسعير الدواء، فالمعروف فى منهجية اقتصاد الصحة والدواء أنه ينظر للخدمات الصحية والدواء نظرة خاصة باعتبارها من السلع العامة التى لا يجب أن تخضع فقط لقواعد العرض والطلب للسوق، ففى إطار خصوصية الحق فى الصحة والحق فى الدواء يجب أن تحدد التزامات الدولة من أجل الوفاء بهذه الحقوق الشاملة والمعيارية ما يقتضى عدم تركها لقوانين السوق المطلقة أو آليات العرض والطلب، وينبغى أن تخضع آليات شراء الدواء والحصول على الخدمة عبر القطاع الصحى المتكامل الموحد وليس عن طريق الأفراد مباشرة، ويتحمل القطاع الصحى مسئولية التعامل مع عبء تحريك الأسعار بدلا من المواطنين وفقا لقواعد مرنة تلتزم بالشفافية واﻻستجابة لمختلف القوى التى تساهم فى تلك العمليات كما تتحمل الدولة المسئولية المهنية والأخلاقية عنها.

***
من هنا يتم النظر إلى قرارات التسعير الأخيرة سواء قرار 373 لسنة 2009 أو قرار 499 لسنة 2012 باعتبارهما حلقة فى سلسلة حلقات من منظومة الدواء ككل. والجدير بالذكر أن دول العالم إجمالا لديها نظم مختلفة للتسعير الدوائى باستثناء بعض الدول مثل الولايات المتحدة الأمريكية كما أن تسعير الدواء ﻻبد أن يبنى على دراسات تجرى على المستوى الوطنى وتكون غاية فى الخصوصية وتشمل أسعار الدواء المتوافر فى السوق بالقياس إلى مستويات الدخول فى القطاعات الأكثر احتياجات إليه من المرضى، هذا بالإضافة إلى قياس توفر الدواء عبر المناطق الجغرافية المتعددة داخل الدولة الواحدة. وفى معرض نقدنا لقرار التسعير 499 مع مجموعة من الخبراء وجدنا أنه يستند فى ديباجته إلى القانون الذى تم إلغاؤه وهو قانون 230 لسنة 1989 والذى كان يعطى رئيس الوزراء حق تسعير بعض السلع الهامة ومنها الدواء وتم استبداله بقانون اﻻستثمار رقم 8 لعام 1997 والذى ﻻ يستثنى أى سلعة من التسعير كما أنه (أى القرار 499) يبنى تقديراته للتسعيـر علــى مرجعية سعـر البيـع للجمهـور فى العالم مطبقا نظـام المرجعيــة الخارجيـة للتسعيرExternal Reference Pricing والمقصود به اﻻستناد إلى أسعار الدواء فى دول أخرى من أجل تحديد أسعار الدواء محليا أو من أجل التفاوض عليه ويشمل القرار قائمة من 36 دولة مرجعية للاسترشاد بها فى الحصول على سعر بيع المستحضرات الدوائية للجمهور على الرغم من أن القرار ﻻ يلتزم بها بالضرورة، إذ يعجل مرجعية التسعير مفتوحة لتشمل جميع الدول ويؤخذ على نظام المرجعية الخارجية للتسعير ضعف الأساس النظرى له إذ إنه يفترض أن سعر الدواء مثالى فى دول معينة وعلى الدول الأخرى الاحتذاء بها، ومن ثم فقد أدى هذا القرار إلى تفاقم أزمة ارتفاع أسعار الدواء عموما وزيادة معاناة المواطنين بسبب عدم قدرتهم على تحمل أسعار الدواء فى سوق مفتوحة لا تراعى الأبعاد الاجتماعية لهم وﻻ يضمن حماية صحية عبر نظام صحى متكامل تأمينى.
***
وبناء على ما سبق طرحنا فى رؤيتنا خريطة الطريق التالية:
أهمية وضع سياسة دوائية وطنية شاملة مبنية على أسس تنموية ومتوازنة تتسم بالشفافية واﻻتساق مع التزامات الدولة بالقوانين الدولية لحقوق الإنسان، كما تقوم تلك السياسات بتحديد أدوار الجهات الوطنية المختلفة المعنية بالدواء ولتوضيح كيفية التنسيق بينها، كما يجب أن تشمل تلك السياسة رؤية شاملة وبعيدة النظر لقضايا الدواء فى مصر، ومنها على سبيل المثال: الرقابة على الدواء فى السوق المصرية والبحث والتطوير وتسعير الدواء ومستقبل الصناعة الدوائية الوطنية بما يضمن تدعيم هذه الصناعة والحفاظ عليها كأحد أعمدة اﻻقتصاد الوطنى وتشجيع الاستثمار بها ليس فقط بتصنيع الأدوية الجنيسة (المثيلة) ذات المكونات الواردة من الخارج، كما هو معتاد بل عن طريق تيسير سبل اﻻبتكار والبحث العلمى كى يتم تخليق المركبات داخل المصانع المصرية، إلى جانب أهمية تأسيس مجلس أعلى للدواء مستقل عن وزارة الصحة يتسم بالحياد ويضم جميع الأطراف العاملة فى قطاعات الصيدلة والدواء ويضم ممثلين عن المجتمع المدنى والمواطنين يشرفون على وضع السياسات واﻻستراتيجيات الدوائية التى تحمى حق المواطن فى الحصول على الدواء، هذا المجلس سيتولى أيضا القيام بأحد الأدوار المفتقدة أﻻ وهو التنسيق بين الجهات العديدة المعنية بالدواء أو التى يمس عملها قطاع الدواء بأى مستوى مع وضع وتوفير قاعدة بيانات ومعلومات حول عناصر التسجيل والتسعير والرقابة وخطط اﻻستيراد والتصدير تتسم بالشفافية والتحديث.

وفى جانب سياسات تسعير الدواء ﻻ يجب أن تغفل العوامل اﻻقتصادية واﻻجتماعية فى البلاد وهى ليست بالضرورة سياسات التسعير الإجبارى وإنما تتسم بالشفافية والمرونة، كما يجب أن تكون متوافقة مع مستويات الدخل الحقيقية وليس مع متوسط الدخل المعلن والذى غالبا ما يبعد تماما عن واقع المجتمع المصرى الذى يقع فى قرابة 35% من السكان تحت مستوى اﻻحتياج للدعم، بالإضافة إلى وقوع قطاع كبير من العمالة فى قطاع غير الرسمى ولذلك فمن المهم جدا أن تسبق الدراسات وضع سياسات للتسعير، كما يجب أﻻ نغفل حقيقة أن أنظمة التسعير تختلف باختلاف احتياجات الدولة وأنه على كل حكومة دمج أو مزج الأنظمة التسعيرة الموجودة فى جميع دول العالم من أجل الوصول لأفضل طريقة ممكنة من التسعير مع الحفاظ على القدرة التفاوضية على سعر بيع المستحضرات للجمهور (عبر نظام التأمين الصحى الشامل)؛ لأنها إحدى ضمانات إتاحة الدواء المادية لغير القادرين من المرضى.

ومن المقترح تقسيم الأدوية الموجودة فى السوق إلى شرائح بحسب سعر البيع مع السماح لشركات الدواء بتسعير الأدوية الواقعة فى الشريحة الدنيا واﻻهتمام بتقريب أسعار الأدوية المتماثلة التى تنتجها جميع الشركات، كما يجب التركيز على صناعة الأدوية البديلة لتلك التى يتوقع ارتفاع أسعارها بالتنسيق مع الشركات الوطنية مع بذل الجهد للتفاوض الثنائى بين الحكومة والشركات العالمية لتصنيع الدواء بجميع أنواعه فى مصر، إلى جانب وضع اﻻتفاقيات الدولية فى اﻻعتبار عن تطوير السياسة الوطنية الدوائية خصوصا والتى قد تؤثر بالسلب على الصحة والدواء ويتمثل ذلك على سبيل المثال فى اﻻستفادة من المرونات القائمة فى اﻻتفاقيات التجارية الدولية خصوصا اتفاقية الجوانب المتعلقة بحقوق الملكية الفكرية (التريبس)، ومن أمثلتها اﻻستخدام الحكومى أو الترخيص الإجبارى والتى يمكن للدولة بموجبها الحصول على رخصة لإنتاج المستحضرات الدوائية الواقعة تحت الحماية عند الحاجة إليها فى حالات الأزمات الصحية ومنها الأوبئة والتى قد يندرج تحتها اﻻلتهاب الكبدى سى، أو متلازمة نقص المناعة المكتسب كأمثلة لأمراض علاجها باهظ التكلفة، والجدير بالذكر أن اتفاقية «التريبس» اشترطت عدم التعسف فى حماية حقوق الملكية الفكرية بما يتفق مع الصالح العام اﻻجتماعى واﻻقتصادى، كما جاء إعلان الدوحة بشأن اتفاقية «التريبس» والصحة العامة مؤكدا حق الدول فى حماية الصحة العامة وضمان حصول الجميع على الدواء إدراكا لخطورة تطبيق اتفاقية «التريبس» على الصحة وﻻ سيما فى الدول النامية والدول الأقل نموا، كما شمل الإعلان تأكيدا على حق الدول فى اﻻستفادة الكاملة من المرونات المتضمنة فى اﻻتفاقية من أجل توفير الدواء لشعوبها حال الحاجة إليها ومنها التراخيص الإجبارية لتصنيع الدواء، وتحديد الحالات التى تمنها لها هذه التراخيص وتعريف حالة الطوارئ الوطنية والأوضاع الملحة التى تشمل أزمات الصحة العامة على اختلافها.

وأخيرا ﻻ يمكن حل إشكالية تسعير الدواء إﻻ من خلال العمل على بناء نظام صحى وطنى متكامل تأمينى يدعم صناعة الدواء محليا ويعطى ميزة تفاوضية فى مواجهة اتفاقيات التجارة التى تشمل الخدمات الصحية والدواء والتى من شأنها تطبيق معايير حماية الملكية الفكرية.

نشر هذا المقال في جريدة الشروق بتاريخ 14 ديسمبر 2018