فى أخلاقيات النظم الصحية وحقوق المرضى
تُعد منظومة الخدمات الصحية وسيلة إلى حزمة من الغايات يسعى أى مجتمع ــ مهما كانت توجهات السلطة فيه ــ إلى تحقيقها كجزء من ضمان شرعية هذه السلطة لأنها منظومة متعلقة بالحق فى الحياة واﻻنتاجية. حتى فى أعرق الدول الرأسمالية المعتمدة على حرية الأسواق. ففى القرنين الماضيين ومع بدايات نشوء الدول القومية الحديثة وتبلور مفهوم الأمة الخالصة فى تماسكها (ألمانيا مثلا فى عهد بسمارك) من عام 1883 سعت إلى توفير شبكة للحماية اﻻجتماعية والصحية والتعويضات لطبقتها العاملة التى تحملت أعباء الحروب وصعود برجوازيتها القومية، فأسس بسمارك أول نظام صحى تأمينى يغطى كل المواطنين فى نهاية الأمر، فماذا يمكن تسمية الخلفية الأخلاقية التى استند إليها هذا النظام الصحى؟
كذلك فى بريطانيا وعقب انتهاء الحرب العالمية الثانية بعدما كان تشرشل ــ وفى أتون الحرب الضروس ــ يقول لشعبه عبر اﻷثير: «أنا ﻻ أعدكم سوى بالدم والدموع» جاءت بعد الحرب حكومة كان أول ما انجزته لتعويض الشعب البريطانى هو تأسيس النظام الصحى البريطانى (N.H.S) المبهر والذى تحملت أعباء تمويله الخزانة العامة البريطانية عبر موارد أساسية تأتى من الضرائب التصاعدية على الدخل والذى يقدم خدمات صحية شاملة وذات جودة لتحقيق مبدأ الإتاحة المتساوية للجميع بغض النظر عن مستوى دخولهم، فماذا يمكن أن نسمى الخلفية الأخلاقية لهذا النظام الرأسمالى العريق فى موقفه من النظام الصحى.
***
أما فى مصر ومنذ عهد محمد على والذى «قيل عنه إنه المستبد المستنير فى الشرق» كان تأسيس جيشه مصحوبا بتأسيس نظام صحى حديث اعتمد على البعثات الخارجية لأوروبا وعلى الخبراء القادمين من وراء البحار أمثال كلوت بك وغيره وكان هذا النظام يسعى لحماية صحة الجنود القادمين من الريف المصرى ــ هؤلاء الفلاحون المصريين البسطاء الذين تحولوا إلى مقاتلين فى جيش إبراهيم باشا الذى وصل حتى حدود الأناضول من الامبراطورية العثمانية الآفلة وكان بحاجة إلى نظام صحى حديث لمواجهة الكوارث الصحية الناتجة عن الحروب والأوبئة المنتشرة فى ذلك الوقت، وكان الباشا يمول هذا النظام بالطبع من موارد دولته الوليدة فماذا كانت دوافعه الأخلاقية من وراء ذلك؟
فى هذا السياق كانت البحوث حول الخلفية الأخلاقية لأى منظومة صحية تضعنا أمام الغايات الكبرى لها المتمثلة فى تحسين المؤشرات الصحية للمواطنين (سنوات العمر المُعاشة بلا عجز ومعدلات الوفيات للأطفال والنساء)، وفى رضاء المرضى عن المنظومة وتخفيف العبء المالى الكارثى للمرض المكلف والمفقر. والبحث فى هذا المسار يضعنا أمام ثلاث مدارس وفلسفات أخلاقية أساسية كلها تسعى إلى الغايات الجوهرية السابقة.
ففى الإطار التحليلى الأخلاقى تبرز الفلسفة النفعية بجانبها الموضوعى والذاتى والتى تدور حول أن المنفعة مرتبطة بالتكلفة وأن محاكمة السياسات تتم بناء على نتائجها، فهى تعطى قيمة للنتائج بواسطة فحص آثار قرار ما على المجموع الكلى لرفاهية الفرد فى المجتمع.
وأما المدرسة الثانية لأخلاقيات النظم الصحية فهى الليبرالية المساواتية التى تركز على الحقوق والفرص المتساوية وهى تعتمد على فكرة من أين يبدأ الناس وليس إلى أين ينتهون وهذه رؤية تدور حول أن المواطنين يمتلكون حقا فى الرعاية الصحية أو حتى فى الصحة ذاتها وهى تضع الجميع على قدم المساواة من إتاحة الرعاية عبر تمويل عادل يدفع فيه الأغنياء ــ الأكثر تضامنا مع الفقراء ــ عبر صناديق تأمينية لتحقيق مبدأ التضامن والدعم المتبادل.
هذا الدفع التأمينى ليس الوسيلة الأخلاقية الوحيدة وإنما إلى جانبها أيضا التبرعات الخيرية من قبل الأغنياء لإراحة ضمائرهم بإنشاء مستشفيات أو عيادات خيرية أو ملاجئ أو جامعات وهذا ما تم فى مصر مثلا (عند تأسيس قصر العينى ومستشفى الدمرداش وأيضا جامعة فؤاد الأول جامعة القاهرة الآن).
أما المدرسة الثالثة فى التحليل الأخلاقى لهذا النظام فهى المدرسة المجتمعية الكلية التى حاولت الصين مثلا إرساء أركانها سابقا، وحاولت التجربة الناصرية إرساءها فى مصر حيث سعت لتأسيس علاج مجانى فى الريف المصرى عبر شبكة رعاية أساسية ووحدات صحية مجمعة) ثم سعت بعدها إلى تأسيس نظام مدينى للتأمين الصحى على العمال لإصابات العمل والعلاج. فماذا كانت دوافعهم الأخلاقية إجمالا من وراء ذلك؟
***
الخلاصة أن أى نظام صحى كُفء ﻻ يخلو من خلفية أخلاقية إلا فى نظم الخدمة الصحية الخاصة التى ﻻ تخضع للرقابة وتعتمد على التسليع المطلق الذى ﻻ يعترف بأية مسئولية اجتماعية مهما كانت، وهذا ما أصبح عنصرا متصاعدا للأسف فى نظامنا الصحى فى العقود الأخيرة وهو ما نهدف إلى التحذير من استشرائه على مستقبل النظام ونؤكد على أهمية النظر إلى الخلفية الأخلاقية للخدمة الصحية باعتبارها من الأولويات الكبرى خاصة ونحن مقبلون على محاولة جديدة لتأسيس نظاما للتأمين الصحى الشامل يسعى لغلق فجوة العدالة اﻻجتماعية فى الرعاية الصحية.
فتسليع الخدمة الصحية وسيادة قوانين العرض والطلب فى الخدمة ورفض آليات تسعير الخدمة اﻻسترشادية ومراقبة جودتها كلها مخاطر تهدد كفاءة وشرعية النظام الصحى ومن ثم شرعية النظام السياسى ذاته، مما يجعل أية محاوﻻت للتنمية المستدامة مجرد حرث فى البحر لن يؤدى إﻻ إلى ثمار مُرة جربناها كثيرا وفشلت فى الماضى فهل نتعلم الدرس هذه المرة؟ ونستند إلى خلفية أخلاقية مقبولة فى نظامنا الصحى الحديث؟
تم نشر هذا المقال عبر بوابة الشروق الإلكترونية بتاريخ 30 يوليو 2017