نظرة فى تمويل الرعاية الصحية للأمراض الكارثية

3 يوليو 2017

تصاعدت فى الآونة الأخيرة وتيرة الإعلانات الفضائية التى تدعو المواطنين إلى التبرع لعلاج مرضى السرطان والقلب والحروق وغيرها من اﻷمراض الكارثية؛ التى تصنف وفق منظمة الصحة العالمية باعتبارها اﻷمراض اﻷكثر تكلفة ماليا بما يجاوز قدرات المواطنين والأسر حتى الميسورين منهم ماليا على تحمل أعبائها.

كانت تلك الإعلانات فى السنوات الماضية تخرج علينا على استحياء ولكنها تزايدت حتى أصبحت قاعدة واسعة اﻻنتشار؛ خاصة فى مناسبات معينة بالتبرع والزكاة مثل شهر رمضان الكريم، ما يجعلها مثارا للتساؤل لأسباب متعددة منها جودة الإعلان وحرفيته وعرضه المكثف يوميا واستخدامه للأطفال بلا ضوابط أخلاقية، ما يعد انتهاكا لحقوق الطفل وحقوق الإنسان بشكل عام. وهو أيضا ما يجعلنا نتساءل هل التبرع والأعمال الخيرية آلية مقبولة لتمويل الرعاية الصحية خاصة لهذه الأمراض الكارثية التى تصيب قطاعا واسعا من الأسر المصرية فى أعز ما لديها من حقوق وكرامة؟.

هل هناك مشروعية أخلاقية فى ذلك فى ظل تراجع دور الدولة الأساسى فى العقود الأخيرة عن حماية صحة المواطنين تمويلا وتنظيما وتقديما (الإنفاق العام على الصحة فى موازنة هذا العام لم يزد عن 5% من إجمالى الموازنة العامة للدولة). فى مقابل تنامى دور القطاع الأهلى والخاص (بحيث يشكل 70% من الإنفاق الكلى على الصحة).

فى هذا السياق قد نرى أن الاعتماد على مبدأ تشجيع التبرع والأعمال الخيرية من المواطنين لتمويل جزء من الخدمات الصحية المكلفة يمكن قبوله وإدراجه تحت بند التمويل المجتمعى الذى نشجع عليه، ولكنه فى حاجة إلى العديد من الضوابط مثال: توجيهه ومراقبته فى شفافية تامة نحو الاندماج فى وعاء تمويلى منظم وموحد (فى بنك من البنوك العامة الكبرى مثلا) لتلقى تلك التبرعات وغيرها من المصادر مثل الزكاة، أو تأسيس بنك متخصص فقط لهذه الموارد بإشراف يتسم بالشفافية من المجتمع فى تلك المرحلة الانتقالية الحالية التى يمر بها نظامنا الصحى؛ تمهيدا لتحقيق حلم الوصول لنظام متكامل للتأمين الصحى الشامل يضمن حماية الحق فى الصحة للجميع دون تمييز، ويعيد مسئولية الدولة فى الحماية الصحية وفق ما نص عليه دستوريا فى جانب الإنفاق العام على الرعاية الصحية (3% من إجمالى الناتج المحلى فى نفقات الموازنة العامة) ، حيث يقوم هذا الوعاء التمويلى الخاص بالأعمال الخيرية والتبرعات بتوجيه تلك الموارد المجمعة إلى مؤسسات تقديم الخدمة بشكل مدروس وفقا لاحتياجات الخطة الصحية الشاملة للدولة بدلا من الاعتماد على أسلوب عشوائى لتلقى هذه التبرعات ﻻ نعرف كيف يدار ومن يشرف عليه؟ وعلى أى أساس يوزع؟ 

فبالرغم من تصاعد التنافس المحموم بين الوكالات والإعلانات وجهات الخدمة الأهلية التى تروج لتقديمها لخدمات مميزة ومجانية ــ بافتراض صحة ذلك ــ فإنها محدودة فى الحجم والتأثير فى النهاية قياسا بالحجم الكلى للعبء المرضى لتلك الأمراض الكارثية مثل السرطان (الذى يشكل 100.000 حالة جديدة سنويا) ، ما يجعل دور هذه المؤسسات لا يزيد ربما عن أنه دور تكميلى محمود لمكافحة المرض وهو ما يجب ألا يجعلنا نتجاهل وضع رؤى وخطط حقيقية لتمويل المنظومة العامة الصحية المتهالكة ككل.
***
إن هذا الملف شديد الأهمية يحتاج لدراسة متأنية لعل بعض الإضاءات التى نشير إليها فى سياقه تضع حلولا وبدائل أخرى لتلك الإشكالية المعقدة لتمويل الرعاية الصحية فى ظل ظروف مجتمعية أقل ما يقال عنها إنها ضاغطة على الجميع.
إن اشكالية تمويل الرعاية الصحية تعد أولى مفاتيح التحكم الأساسية لأى نظام صحى وهى الآلية التى يجب أن نحشد ونعبئ بها الأموال لتحديد أنشطة القطاع الصحى وكيفية استخدامها (بمعنى توزيع هذه المخصصات) وكيف ندفع الأموال فور تجميعها، وأساليب الدفع لمقدمى الخدمات والواقع أن التمويل الصحى يمتلك تأثيرا بالغ الأهمية على أداء أى نظام صحى؛ فهو يحدد كم الأموال المتاح ومن يتحمل العبء المالى؟ ومن يدير هذه الأموال وما هو الوعاء المالى الذى يوزع عبء المخاطر العام Risk pool، وهل من الممكن السيطرة واحتواء تكلفة الخدمات الطبية غير الضرورية والمتزايدة بحكم تسليع الخدمة السائدة. كل هذه العوامل بدورها تساعد على تحديد من يستطيع الوصول للخدمة accessibility ومن يتمتع بالحماية الصحية coverage ضد خطر الإفقار من كوارث نفقات الخدمات الطبية إلى جانب العمل على تحسين المؤشرات الصحية لكافة السكان دون تمييز.
***
فى الخلاصة نعرف أنه ﻻ يوجد إجمالا حل سحرى لمشاكل تمويل الرعاية الصحية عموما. فكل الأموال المجمعة فى التحليل الأخير عبر أى أسلوب تمويلى (عدا المساهمات الأجنبية ) تأتى بشكل مباشر أو غير مباشر من المواطنين أو من موارد الدولة السيادية مثل (البترول والغاز وقناة السويس وغيرها) . وما يجب على أى أمة تقريره فى هذا السياق هو ما هى المصادر التى يجب أن نلجأ إليها وإلى أى مدى نستخدمها وما هى المعايير الرئيسية الحاكمة؟ فتدبر الأمة بذلك مزيجا من أساليب التمويل المعروفة والملائمة لها بأفضل ما يكون من الكفاءة والإنصاف.
هنا أجدنى مدافعا عن موقف ينادى بأن هذا المزيج التمويلى يجب أن يعتمد بشكل كبير على قيم التضامن اﻻجتماعى بين شرائح المجتمع بشكل تأمينى منتظم وعلى أدوات سياسية تشاركية وديمقراطية ملائمة.

لذا فعلينا أن نقرر بشكل واضح استراتيجية التمويل المناسبة وفق الآليات الخمس الأساسية المعروفة للتأمين الصحى مثل: 

الإيرادات العامة للدولة، بزيادة الإنفاق العام على الصحة أو توسيع مظلة التأمين الصحى الشامل أو دمج آليات التمويل الخاص وأخيرا تشجيع التمويل المجتمعى مثل الخيرية والتبرعات أو الرسوم المخصصة للصحة على التبرع ومشتقاته وخلافه والحد من آلية الدفع المباشر للجيب للحصول على الخدمة.
الواقع أن معظم بلدان العالم تستخدم مزيجا من هذه الأساليب فمثلا فى المملكة المتحدة تعتمد على الإيرادات العامة للدولة لتمويل نظامها (ضرائب تصاعدية على الدخل)، ومع ذلك فإلى جانب الإيرادات العامة هناك نسبة تصل إلى 12% تأتى من مساهمات الضمان الاجتماعى، ونسبة تصل إلى 2% فقط هى ما يسمح به كإنفاق مباشر من الجيب.
فى الهند أيضا تعتمد على الإيرادات العامة للدولة ومع ذلك فهى تشكل 20% فقط من التمويل الكلى للرعاية الصحية ويأتى الباقى من جيوب المواطنين. وهذا ما يتشابه إلى حد كبير مع وضع التمويل الصحى لدينا فى مصر ما يعد خللا واضحا فى أسلوب التمويل، وهو ما يشجع انتشار عشوائية التبرع والدعاية له وعدم ضمان دمجه وفاعليته الكلية.
فى النهاية سيظل هناك دورمهم للأعمال الخيرية والتمويل المجتمعى ولكنه ﻻ يجب أن ينفصل عن وضع سياسات صحية عامة تسعى كليا لإحداث وتأسيس نظام تمويلى كلى للصحة جوهره صندوق قومى للتأمين الصحى الشامل تعد بعض موارده هى المصادر الخيرية من التبرعات وخلافه.

تلك بعض الإضاءات السريعة التى ربما ترشد من حمى الإعلانات الصحية وتنظمها فى السنوات القادمة فى شهورنا الكريمة لفاعلى الخير.

تم نشر هذا المقال عبر موقع الشروق الإلكتروني بتاريخ نشر28 يونيو 2017