ذاكرة المؤسسة الصحية والفرص الضائعة
إن أى نظام صحى فى العالم ما هو إلا محصلة نهائية لحزمة السياسات الاقتصادية والاجتماعية الحاكمة للواقع، وأنه مهما كانت هذه السياسات وفقا لدراسات خبراء اقتصاد الصحة والعبء المرضى، فثمة معادلة أساسية لعبء المرض مؤداها أن 40% من المواطنين يُعدون من الأصحاء فقط، وأن هناك 40% آخرون يُعدون أصحاء مع عوامل الخطر، والباقى وهو نسبة 10% يعانون من الأمراض المزمنة المعوقة، و10% يعانون من الأمراض الحادة والطارئة، وهذه هى المعادلة الحاكمة والأساسية لفهم رؤية الفقه الصحى وتحديد أهدافه وآليات تمويله، وذلك بهدف الحصول على التغطية الصحية الشاملة لجميع القطاعات السكانية، دونما تمييز فى الخدمة أو الجودة والكفاءة المطلوبة لضمان استدامة خدمة التأمين الصحى.
وفى هذا السياق نرصد ما حدث فى ذاكرة المؤسسة الصحية المصرية منذ بداية سنوات الانفتاح الاقتصادى – العشوائى الطابع – والذى تسبب فى العديد من المشكلات التى تواجه النظام الصحى المصرى، أهمها:
• التصاعد المستمر للإنفاق الذاتى من جيوب المواطنين المباشر للحصول على الخدمات الصحية والدواء، مع التراجع المستمر للإنفاق العام على الصحة، أدى إلى خروج قطاع كبير من المواطنين خارج نطاق النظام الصحى العام خاصة الشرائح الأفقر والمهمشة والبعيدة عن أطر العمل الرسمى، إضافة إلى تزايد العوائق المالية والجغرافية المؤدية إلى عدم إتاحة الخدمات الصحية والدوائية، مع استمرار التردى فى جودة الخدمات المتاحة والمعتمدة فى القطاعات الصحية العامة فى إطار هش للمناخ التشريعى الذى ينظم هذه القطاعات، الأمر الذى يزيد من عشوائية الممارسات الصحية بما يؤدى إلى إهدار للموارد المالية والبشرية.
• فى سنة 1995 صدر تقرير عن لجنة الصحة بمجلس الشورى ــ الموجود حينها ــ خرج بنتيجة فحواها ضرورة إصلاح القطاع الصحى والسياسات الواجب تبنيها لتحقيق التغطية الصحية الشاملة من خلال نظام شامل للتأمين الصحى الاجتماعى.
• فى سنة 1997 انخرطت الدولة فى موجة إصلاحية لمحاولة إصلاح النظام التأمين الصحى عبر تنفيذ توصيات ودراسات علمية لبرنامج شامل وأفقى لإعادة هيكلة المنظومة الصحية والتأمين الصحى.
• وشهدت أعوام 2000 و2004 و2007 و2010 عدة محاولات ومشاريع لإصدار قانون جديد وشامل للتأمين الصحى يهدف إلى إصلاح المنظومة وضمان العدالة الاجتماعية، والتغطية الصحية الشاملة، ففى عام 2000 / 2001 قدم الوزير مشروعا للحوار مع اتحاد عمال مصر، والذى رفضه بسبب زيادة نسب اشتراكات المشمولين به. وفى مشروع 2004 / 2005 وافق اتحاد العمال على الزيادات المقررة بنسب محدودة، ولكن تغيير الوزير المسئول قبل وصول المشروع إلى مجلس الشعب حال دون التنفيذ، وبقدوم حكومة رجال الأعمال تقدمت بمشروع جديد سنة 2007 شملت مقدماته قرارا من مجلس الوزراء بتحويل الهيئة العامة للتأمين الصحى إلى شركة قابضة للرعاية الصحية، وقد تصدى المجتمع المدنى لذلك من خلال تبنيه لدعوى أمام محكمة القضاء الإدارى، والتى صدر فيها الحكم بتاريخ 4 ديسمبر سنة 2008 بوقف تنفيذ قرار رئيس مجلس الوزراء رقم 637 لسنة 2007 بإنشاء الشركة القابضة للرعاية الصحية.
• ما بعد ثورة يناير 2011:
تشكلت لجنة من ممثلى الحكومة والمجتمع مشبعة بالروح الينايرية عملت على إجراء تعديلات جوهرية فى القانون استجابة لمتطلبات المجتمع وإعمالا لما جاء بحكم محكمة القضاء الإدارى فقامت بإجراء العديد من الحوارات المجتمعية وأثمر ذلك عن تعديلات عديدة وصلت 42 تعديل على مسودة قانون 2010. وخلال عامى 2012 و2013 استمرت اللجنة فى عملها على مسودة القانون المطروح على مجلس الشورى، إلا أنه شمل تعديلا طفيفا فى الاسم من التأمين الصحى الشامل إلى الضمان الصحى الشامل، ولم يمس جوهر التعديلات السابقة.
• الفترة من 2013 حتى الآن:
لأول مرة تتولى حقيبة وزارة الصحة أستاذ فى الصحة العامة، والتى تولت بنفسها رئاسة لجنة القانون، وأضافت إلى عضويتها عددا من ممثلى التيارات المجتمعية المختلفة، واستعانت بالعديد من الخبراء، وقد عملت هذه اللجنة على إتمام هذا المشروع قرابة الخمس سنوات، عقدت خلالها ما يزيد عن 30 حوارا مجتمعيا، واستجابت للعديد من الملاحظات والإضافات الموضوعية، وانتهت اللجنة إلى مشروع قانون متكامل لتحقيق أهداف الإصلاح الصحى والتغطية الصحية الشاملة تدريجيا وذلك بتاريخ 17 / 11 / 2016.
ويعد الموجز السابق عرضا لذاكرة المؤسسة الصحية والفرص الضائعة حول مشروع هو الأهم فى التاريخ المصرى المعاصر للصحة، فماذا يجرى الآن حول هذا المشروع الحلم منذ ذلك التاريخ؟
سؤال يتردد على ألسنة المواطنين والخبراء الذين شاركوا فى إنتاج هذا العمل بكل ما دار فى كواليسه، وملخصه: أين القانون؟
فهل مازال فى أروقة اللجنة أو الحكومة؟ وهل هناك من يحاول تعطيله أو إجهاضه؟ تحت ستر وقناعات مختلفة مثلما يحدث بعد تحرير سعر الصرف، وتأثير ذلك على الكلفة الإجمالية لهذا المشروع، ومنها من يطالب بإصلاح المنظومة الصحية أولا قبل الشروع فى تنفيذ مشروع التأمين الصحى، ومنها ما يعتقد أنه مجرد مشروع يسعى نحو خصخصة القطاع الصحى مثلما كان الوضع قبل يناير 2011.
كل هذه الدوافع والمبررات التى تسوقها أجنحة وتيارات من ذوى المصالح الخاصة والقناعات المختلفة والتى تصب جميعها فى اتجاه تعطيل عجلة الإصلاح الصحى.
وتعرضنا لبعض هذه الدوافع يجعلنا نؤكد أنها متغيرات لا ترقى لمستوى الثوابت التى من المفترض أنها لا تؤثر سلبا على التوجه الاستراتيجى الأساسى، الذى يمثل الحل الأوحد والأمثل لإنقاذ الأوضاع الصحية المتفجرة، فمثلا لا يمكن مواجهة الآثار المترتبة على تحرير سعر الصرف إلا بالتضامن المجتمعى عبر التأمين الصحى لتمويل هذا النظام، فالقانون فى جوهره يعد شبكة أمان اجتماعى وصحى للفئات الأفقر وأداة حاكمة للإصلاح الهيكلى، وأن من يتشدقون بمقولة الخصخصة لا يدركون أن الوضع الحالى ما هو إلا خصخصة فعلية لقطاع الصحة بغض النظر عن القانون الذى يهدف إلى الحد منها.
إن هذه المتغيرات تبدو حقائق يراد بها باطل، وهو إجهاض هذا الحلم فى العدالة الاجتماعية فى الصحة ممثلة فى قانون عادل وشامل وإلزامى يضمن شمول التغطية جغرافيا وسكانيا، ويضمن علاج جميع الأمراض وفقا لما ورد بالدستور المصرى، كما أنه يحمل الخزانة العامة لخدمة علاج الفئات غير القادرة وفق أسس وآليات منضبطة وغير منحازة.
تم نشر هذا المقال عبر منصة الشروق الإلكترونية بتاريخ 2 فبراير 2017