البعد الغائب فى مسألة فيروس «سى»

4 نوفمبر 2014

فى ظل تصاعد الجدل بشأن صفقات الدواء التى تستهدف علاج فيروس سى، تغيب عن المناقشة استراتيجية قومية لمكافحة المرض على كل الأصعدة من السيطرة على معدلات انتشار المرض، إلى محاولة تشخيصه مبكرا، إلى تبنى سياسة علاجية ملائمة والتعاقد على أحدث الاكتشافات العلمية فى مجال صناعة الدواء. يغيب عن الجدل بشأن صفقات الدواء المطروحة للمناقشة طبيعة أزمة المنظومة الصحية فى مصر سواء من حيث التمويل ونسبة الانفاق على الصحة إلى طبيعة الترتيبات المؤسسية التى ساهمت فى وصول نسبة الإصابة بفيروس سى إلى هذه النسب المخيفة.

•••

تشهد مصر أعلى معدلات عالمية لانتشار العدوى بفيروس سى (14،7%) إلى جانب قرابة 10% من السكان يحملون العدوى فى الشريحة العمرية من (15 : 59) سنة، كما يعد التحدى اﻷخطر لانتشار المرض فى أسباب تحدث نتيجة ممارسات داخل المنظومة الصحية ذاتها. مثل التدخلات الصحية التى تحدث نقل العدوى. من خلال تدخلات طبية غير مؤمنة بإجراءات مكافحة العدوى (بما يشمل اﻷجهزة الطبية كالقساطر والمناظير وغيرها وممارسات الحقن ونقل الدم غير اﻵمن)، إلى جانب بعض الممارسات المجتمعية اﻷخرى، التى تؤدى إلى العدوى. وذلك ما يعد التحدى اﻷخطر ﻻستمرار انتشار العدوى بالمرض بمعدلات تهدد سلامة وإنتاجية المجتمع.

هذه المخرجات للنظام الصحى، تعد مرآة للوضع الصحى والوبائى الذى تمر به البلاد، ورغم التحسن النسبى فى معدل وفيات اﻷطفال والنساء والحوامل والعمر المتوقع منذ الميلاد، والتصاعد النسبى لعبء الأمراض غير المعدية، قياسا إلى اﻷمراض المعدية، إلا أن معدلات انتشار العدوى بفيروس سى وغيرها من التحديات الرئيسية التى تواجه القطاع الصحى فى مصر، أصبحت معروفة بجلاء. وبعد مرور قرابة عقدين من البدء فى محاولات اﻹصلاح الصحى الذى (أطلق بتقرير صادر فى سنة 1995 عن لجنة الصحة بمجلس الشورى) الذى حدد فى شمول التحديات التى تواجه النظام وتعوق أداءه بكفاءة وإنصاف، منعكسا بالسلب على مخرجاته الصحية، فيما يتعلق بالحماية من أعباء المرض دون تمييز، وفيما يتعلق بمؤشرات تحسن صحة الفئات اﻷكثر تأثرا بالمرض (كاﻷطفال واﻷمهات والحوامل). حيث أشار التقرير إلى أهمية مبدأ المساواة فى إتاحة الرعاية الصحية، باعتباره من القضايا اﻷساسية. وذلك ما أشارت إليه أخيرا «ورقة إستراتيجية»، صادرة (أغسطس 2014) عن وزارة الصحة، ومنظمة الصحة الدولية المكتب اﻹقليمى فى مصر وممثلو المجتمع المدنى، تحت مسمى الورقة البيضاء (دليل استرشادى للإصلاح)، عرفت المساواة فى الناتج الصحى أو المخرجات الصحية، وفى تحمل عبء اﻹنفاق على الرعاية الصحية.

حيث شددت الورقة على أهمية المساواة واﻹنصاف فى الصحة كتوجه إستراتيجى، يمكن أن يكسر حلقة الفقر الناتج عن المرض، ومن ثم يستهدف أحد اﻷسباب الجذرية للظلم اﻻجتماعى، الذى انتفض الشعب المصرى للتخلص منه، ومن نظامه فى الخامس والعشرين من يناير 2011.

•••

على خلاف هذه الاهداف المعلنة فإن الخلل والتفتت القائمين فى محاور النظام الصحى يفاقمان من مشكلاته فى عدم كفاءة استخدام موارده المالية والبشرية، وتوزيعها مما ﻻ يسمح بتحقيق تغطية صحية شاملة وعادلة وفعالة لجميع المواطنين، والتى ﻻ يمكن أن تصبح حقيقة واقعة، إﻻ عندما تكون هناك إستراتيجية ورؤية واضحة ﻹعادة هيكلة وإصلاح المنظومة ككل فى كل محاورها. على النحو الذى أشارت إليه التقارير المختلفة الصادرة عن برنامج إصلاح القطاع الصحى المصرى منذ عقدين على اﻷقل.

إدارة وتمويل وتنظيم القطاع الصحى

يواجه القطاع الصحى تحديات التفتت فى محاوره المختلفة (التمويلية والتنظيمية واﻹدارية وتقديم الخدمات).

يشكل اﻹنفاق العام الحكومى نسبة منخفضة، ﻻ تزيد على 1،5% من الناتج اﻹجمالى المحلى (G.D.P) (المصدر: الحسابات القومية للصحة 2009/2008)، أى بمتوسط 33 دولارا سنويّا للفرد، فى مقابل إنفاق ذاتى (O.O.P) يصل إلى متوسط 100 دولار للفرد سنويّا.

تشكل تحديات إدارة وتنظيم الخدمات فيه، اختلالا واضحا لتعدد جهات تقديم الخدمات وجهات إدارة التمويل فى الحسابات القومية للصحة. وتبرز بعض البرامج الرأسية، بتمويل منفرد (مثال البرنامج القومى لمكافحة الفيروسات الكبدية) بلا أدنى تنسيق أو ترابط مع مجمل أعمال المنظومة سواء فى أماكن تقديم الخدمات أو مستويات اﻹحالة داخلها أو مع مجمل موازنة الوزارة أو موازنة الهيئة العامة للتأمين الصحى.

مما يؤكد الحاجة إلى إعادة هيكلة المنظومة الصحية ككل على أساس ضرورة فصل محور تمويل الخدمات عن محور تقديم الخدمة. وتأسيس آليات تكامل بين برنامج اﻹصلاح الصحى اﻷفقى واﻹستراتيجى مع كل البرامج الرأسية القائمة، والعمل على تأسيس صندوق تأمينى قومى مستقل لتجميع مصادر التمويل المختلفة لمواجهة إمكانية توزيع أعباء مخاطر المرض المكلفة، بما فيها العدوى بالفيروسات الكبدية ومضاعفاتها.

رؤية استراتيجية شاملة

إن دمج برنامج مكافحة الفيروسات الكبدية الرأسى فى اﻹطار اﻷوسع ﻹصلاح القطاع الصحى الكلى الذى يهدف إلى تغطية صحية شاملة وعادلة ممولة من صندوق تأمينى فعال وقومى، سوف يسمح بتعظيم الموارد الموجهة إلى مكافحة العدوى. ووفق أسباب انتشار المرض باعتماد معايير الجودة كشرط لتقديم الخدمات الصحية، مما يجفف منابع العدوى التى ترجع للتدخلات الطبية غير اﻵمنة بسبب عدم اعتماد معايير الجودة ونقص التدريب والتعليم الطبى الجيد.

دون ذلك سيظل ﻻنتشار فيروس سى اليد الطولى، ولن تجدى محاولات علاج المرضى فى نهاية سلسلة طويلة من اﻷسباب. وسوف تعجز الحكومة والمجتمع عن تحمل تكلفة اﻷدوية المكتشفة، دائما، التى تحميها اﻻحتكارات الدوائية عابرة الجنسية بالملكية الفكرية، وتغذى بها استمرار مصادر المرض للاستفادة واﻻستثمار فيه على حساب حقوق المرضى اﻷساسية فى الحماية الصحية من أعبائه المادية والبدنية.

تم نشر هذا المقال على بوابة الشروق الإلكترونية بتاريخ 31 أكتوبر 2014