مستقبل نقابة الأطباء بعد الإخوان*

7 يناير 2014

تأسست نقابة الأطباء عام 1949 وتقزمت أمامها الجمعية الطبية المصرية (المنوط بها متابعة أداء المهنة وأخلاقياتها) لتصبح غرفة أو اثنتين داخل مقر النقابة (دار الحكمة)، وتضخمت النقابة عبر ثلاثة عصور متتالية لتضم فى عضويتها (قرابة 200.000 طبيب) منهم الطبيب صاحب المستشفى، والطبيب الذى يعمل فى نفس المستشفى مثل سائر النقابات المهنية، بما يعنى أنها كيان يشمل فى عضويته صاحب العمل، والمهنى الذى يعمل لديه، فى تضارب للمصالح، لا يجعلنا ندرك عن أية مصالح تدافع النقابة.

والواقع أن الهدف من انخراط الأطباء فى هيئة طبية جامعة (هذا الكيان يسمى فى بريطانيا مثلا المجلس الطبى البريطانى G.M.C)، هو تنظيم مزاولة المهنة والحفاظ على هيبتها وأخلاقيات ممارستها ومنح التراخيص وتجديدها، من خلال إطار علمى مقنن لتنمية المهنة، والحفاظ عليها. وذلك إلى جانب عدة كيانات أخرى مستقلة، كالروابط أو الهيئات الطبية التى يكون الانخراط فيها اختياريا للدفاع عن مصالح الأطباء، وحمايتهم ماليا وقضائيا فى مواجهة قضايا التعويضات بسبب الأخطاء المهنية، ومن أجل الحفاظ على مصالح الأطباء فى مواجهة أصحاب العمل، سواء فى الحكومة أو القطاع الخاص أو الأهلى (كحركة أطباء بلا حقوق).

وقد صدر قانون ينظم عمل النقابة (قانون 45 لسنة 1969)، الذى ينص فى مادته الثانية على أهداف للنقابة، تتجاوز خمسة عشر هدفا، تكاد تجمع كل الأهداف المتخيلة لإدارة المنظومة الصحية، وربما تتجاوز أهداف إنشاء وزارة الصحة ذاتها، وهو ما يجعل هذه الأهداف مجرد بنود على ورق، لا يعنى شيئا واقعيا وحقيقيا فى مجال ممارسة المهنة، كما أصدرت النقابة لائحة مختصرة عن آداب المهنة فى عام 1974 (دورها الأساسى، الذى لا تقوم به)، تنص فى مادتها الأولى على أن مهنة الطب تميزت بين المهن، منذ فجر التاريخ، بتقاليد كريمة، وميثاق شرف، وقَسَم جرى العُرف على أن يؤديه الطبيب الجديد قبل أن يبدأ مزاولة المهنة، واستمرارا لهذه التقاليد فإنه يجب على كل طبيب قبل مزاولة المهنة أن يؤدى القسم أمام نقيب الأطباء أو من ينوب عنه.. إلخ.

•••

تقول سيلفيا شيفولو، فى كتابها الرائع، «بناء الهوية المهنية والمشروع الطبى»: «إن محمد على وكلوت بك هما الآباء الشرعيون لمهنة الطب الحديث فى مصر، وعندما فارق محمد على الحياة سنة 1849، كانت بمصر مدرسة عليا للطب، وكانت الإشكاليات والعثرات، وبالمجمل أزمة تشكيل الهوية المهنية، التى واجهتها هذه المهنة، تعبر تعبيرا أمينا عن أزمة التجربة التى أنشأتها»، وواجهت المهنة من جديد إشكاليات وعثرات أخرى، حينما دخلت فى تجربة ثانية، فى ظل العصر الناصرى وقد نلمح قاسما مشتركا أدى إلى إخفاق التجربتين، والارتداد عن توجهاتهما بمجرد زوال بطليهما من مسرح الأحداث، وقد حاولت الدولة الناصرية إعادة تشكيل المجال الصحى، ورعاية المرضى كجزء من تلبية معظم احتياجات الشعب، وأخذت الدولة على عاتقها مهمة توفير رعاية صحية شاملة فى متناول الجميع، إلا أن هذا التوجه صادف الكثير من العقبات.

إذ سرعان ما تنافس مع مصالح المهنة التى تهتم بوضعها الاجتماعى، وبالمميزات المادية المرتبطة بها والقائمة على الحرفة الفردية، والعلاقات النفعية مع العملاء من المرضى، وسرعان ما اصطدمت المهنة الطبية مع التنظيم السياسى الشمولى الناصرى، ومع تزايد الضغط على النقابة فى الستينيات من القرن العشرين، أصبحت النقابة ملعبا للصراع السياسى بين الدولة ومهنة الطب، انتهت بهيمنة الدولة الناصرية على النقابة، وتطويق جميع النقابات المهنية الأخرى، وعندما دخلت المهنة منعطف تحول فى السبعينيات، وهى على هذه الحالة، وباختفاء صاحب المشروع العام (موت عبدالناصر)، وتولى السادات الحكم، تراجع المشروع العام برمته فى جميع المجالات، وانطلقت سياسة الانفتاح الاقتصادى، لتطول مهنة الطب، وتطلق العنان للقطاع الخاص فى المجال الصحى. ويواجه التأمين الصحى صعوبات حقيقية للوصول إلى الفئات الأكثر احتياجا، والملاحظ أن القاسم المشترك بين العصرين والتجربتين، هو الاستبعاد الكامل للناس (المرضى والأطباء من المشاركة فى إبداء الرأى أو صنع القرار الذى يخص صحتهم).

وهذا الاستبعاد كان يعنى تغييرا أيضا فى توجهات النقابة الأصلية، المرتبطة بالمهنة وتحسين صورتها وأدائها! وكان يعنى فى النتيجة النهائية، استخدام النقابات فى العمل والتوجه السياسى المباشر، ثم جاء الإخوان ليسيطروا على النقابة فى بداية الثمانينيات، بإشارة خضراء من السادات، باعتبارهم شركاء فى إطار الحكم الشمولى الذى أسسه عبدالناصر، ولكن بواجهة دينية ولحية! واستمروا فى نفس السياسات التى روج لها السادات، فتحولت النقابة إلى غطاء سياسى لتنظيمهم غير الشرعى، وتحولت إلى أداة لخدمات واستثمارات سكنية، ومعارض مرابحة للسلع الاستهلاكية، ورحلات، ونظام علاجى بأجر، وإغاثة دولية، فى توجهات لا تمثل الهدف من النقابة، ولكنها تدعم استثمارات رأسمالية تجارية فى سوق الطب لكبار قادة الإخوان، والمتحالفين معهم اعتمادا على قروض من مصارف إسلامية! وفى النهاية نجح هذا التيار الإسلامى السياسى فى الانخراط فى أنشطة لا تمت بصلة للدور الحقيقى للعمل النقابى المهنى.

•••

وعندما ننظر إلى ما حدث فى انتخابات التجديد النصفى لنقابة الأطباء، التى انتهت فيها المواجهة الثانية بين ما يسمى بتيار الاستقلال، وما يسمى بتيار أطباء مصر، المنتمى إلى جماعة الإخوان وحلفائها. وقد تفوقت قائمة تيار الاستقلال فيما يشبه الاكتساح، وبخاصة فى النقابة العامة وعدد كبير من النقابات الفرعية، وبذلك خرجت نقابة الأطباء من أَسْر وسيطرة جماعة الإخوان الممتدة منذ عام 1982. وبذلك أصبح لهذا التيار الجديد، الذى أعطته الفرصة ثورة 25 يناير 2011 للنمو، والحصول على هذه الأغلبية للمرة الأولى، بما يعنى حصوله على منصب الأمين العام للنقابة، ووكيل وأمين صندوق النقابة، ومقررى اللجان الفرعية بما فيها لجنة الإغاثة، صاحبة التاريخ المريب!

وفى معرض تفسير هذا النجاح ووضعه فى سياقه الحقيقى، يجب الإشارة إلى طبيعة المرحلة، وحجم الاستقطاب السياسى فى البلاد، الذى كان له عامل مؤثر فى الفوز! فالتصويت على الأرجح قد جاء لأسباب سياسية من الجانبين، وإذن فلا علاقة له بالأسباب المهنية الأجدر بالاتباع.

ذلك ما يطرح على الفائزين فى تيار الاستقلال الآن تحديات ومهام جسيمة لإعادة النقابة إلى دورها الأساسى، فى بناء المهنة والحفاظ على أخلاقياتها ومراقبة ممارستها (التى انهارت)، وذلك عبر وضع أطر تشريعية جديدة لقانون جديد للنقابة، وقانون جديد لتطور المهنة وتنميتها، فهذه الأدوار الطبيعية لنقابة تضم فى جنباتها قرابة 200.000 طبيب، مصالحهم متعارضة فى كثير من الأحوال! على أن تنشأ كيانات أخرى مستقلة للدفاع عن مصالح الأطباء فى مواجهة أصحاب العمل سواء فى الحكومة أو القطاع الخاص. فالسوق الطبية تعانى انفلاتا واسعا، والمهنة تعانى فقدان احترامها وعدم الثقة فيها، وتحتاج إلى إطار ومبادئ حاكمة لأخلاقيات ممارستها. فهل نحلم بعودة الدور الحقيقى بعد مرور ثلاثة عصور على النقابة، تزايدت فيها الأعداد وغابت فيها المقاصد والأهداف.

*منشورة في صحيفة الشروق يوم ٤ يناير ٢٠١٤