الفقر ليس حجة*
التمويل هو أبرز مفاتيح تشغيل أى نظام صحى، وهو أحد أبرز المحددات لكفاءته. وما يصنع نجاح المنظومة هو قدرتها على تعبئة القدر الكافى من الأموال، وإدارتها على نحو رشيد، وتوزيعها بعدالة كمستحقات ومدفوعات لمقدمى الخدمات، بما يغطى كلفة الخدمات المتصاعدة، كل هذا إلى جانب مفاتيح التحكم الأخرى كالسياسات الرشيدة، والتشريعات الضامنة للإتاحة والجودة، والتنظيم علاوة على سلوك المستفيدين من النظام.
السؤال إذن عن كم الأموال المتاحة، ومن يتحملها؟ ومن يتحكم فيها، وما هو الوعاء الذى يتحمل كلفة مخاطر المرض، وهل من الممكن السيطرة على هذه الكلفة cost containment. وما هى معايير اتاحة الخدمة، وتعيين من تغطيهم مظلة الحماية التأمينية ضد غوائل المرض وتجشم كلفة علاجه، وكل هذا يفضى إلى نواتج تحدد الحالة الصحية للسكان كهدف أخير لأداء المنظومة.
بالطبع لا يوجد حل سحرى لمشاكل تمويل الخدمات الصحية! وواقع الحال أن الأموال المُجمعة عبر أى أسلوب تمويلى، سواء أكانت ضرائب أو اشتراكات أو رسوما للخدمة أو عبر سداد مباشر من جيب المواطن مستخدم الخدمة تتحدد وفق قرارات على المستوى القومى، الذى يحدد الأساليب والمصادر التى يجمع بها التمويل وحجمه وذلك وفقا لتصور عن ظروف الناس الاقتصادية والاجتماعية. فإذا كانت نظم الضرائب ــ التى تشكل موردا كبيرا لبلد ما ــ عادلة فى سبل فرضها، ومحكمة فى تحصيلها فإن تمويل النظام الصحى بالكامل من الخزانة العامة للدولة سيكون ممكنا. ومن منظومة عامة للتمويل ستتوافر خدمات صحية للمواطنين تتمتع بالجودة دون تمييز وتشمل أغلب ما يحتاجونه من خدمات، وهذا على سبيل المثال ما نراه فى بلد مثل المملكة المتحدة عريق فى نظامه الديمقراطى السياسى ومنظومته الضريبية وكذلك فى نظامه الصحى الذى يتسم بقدر كبير من العدل والكفاءة.
وإذا كانت نظم التأمينات الاجتماعية مستقرة وقوية وتجمع من خلالها كل أطر العمل عامة وخاصة وحتى هامشية، وتحصل اشتراكات تأمينية مدروسة لضمان الاستدامة، ويُخصص نصيب كاف منها للخدمات والرعاية الصحية، يمكن فى هذه الحالة (كما فى فرنسا والمانيا) أن يوضع نظام يمول من اشتراكات المواطنين المدفوعة مسبقا لقاء الخدمة الصحية.
دمج المهمشين فى التأمين الصحى: هل من سبيل؟
وإذا عرجنا على الحالة المصرية، فإن الوضع فى السنوات الأخيرة بات أكثر تعقيدا مع تصاعد عاملين مهمين:
أولا: الخفض المستمر لمعدل الإنفاق العام على الرعاية الصحية مع تصاعد معدل الإنفاق المباشر من جيب المواطن (OPP) (لنلاحظ أن الأمر اضطرارى فالمريض مجبر على الحصول على الخدمات الصحية من كشف وتحاليل وأشعة وجراحات ودواء وغيرها متى احتاجها من منافذ الخدمات المختلفة الخاصة والأهلية والعامة).
العامل الثانى وهو الأكثر دلالة وأهمية يتعلق باتساع حجم القطاع غير الرسمى من الاقتصاد، وهو قطاع من الاقتصاد الموازى يدور خارج الأطر المنظمة لتحصيل الضرائب والتأمينات الاجتماعية. يضم شرائح واسعة من السكان تدير أعمالا صغيرة، وتسهم بما لا يقل عن 60% من الناتج المحلى الإجمالى وفقا لدراسات البنك الدولى! والعاملون فى هذا القطاع ليسوا مدمجين ضمن أنظمة الصحة العامة والتأمين الصحى.
يتكامل مع البعدين المشار اليهما حقيقة وجود شبكة قديمة للرعاية الأساسية تملكها الدولة جرى تحديثها ببطء شديد مع بداية برنامج الإصلاح الصحى المصرى (عام 1997)، (لدينا 5102 وحدة رعاية صحية) تم الانتهاء من 2500 وحدة منها. وهى وحدات ظلت تمول خدماتها من خلال موارد الخزانة العامة للدولة (ضرائب وموارد سيادية أخرى)، ونمت إلى جانب مظلة التأمين الصحى الاجتماعى العام عبر نصف قرن حتى أصبحت تغطى بالحماية التأمينية نظريا نسبة 58% من السكان، وتعانى عجزا ماليا مستمرا، علاوة على سيادة عدم رضاء المتعاملين عن جودة خدماتها. الأمر الذى يدفع مشتركيها للبحث عن الخدمات خارجها مفضلين اللجوء للقطاع الخاص والأهلى، خاصة فى قطاع الدواء بالسعى للحصول على الأدوية من الصيدليات الخاصة التى اتسعت شبكتها حتى وصلت إلى قرابة 120000 صيدلية خاصة تقدم خدمات متنوعة لجمهور واسع من السكان أصبح يمثل 34% من حجم الانفاق الكلى على الرعاية الصحية دون تنظيم محكم يرشد استهلاك الدواء.
السؤال فى هذا الإطار المدهش فى تعقيده! كيف يمكن دمج هؤلاء العاملين لدى أنفسهم فى الزراعة والتجارة وغيرها ضمن الاقتصاد الموازى غير الرسمى فى مظلة التأمين الصحى الوطنية؟، يعود هنا سؤال التمويل للظهور. كيف يمول التأمين على هؤلاء؟ هل يمكن اللجوء إلى أساليب التمويل المجتمعى التى لجأت اليها بلدان مثيلة كالفلبين وسنغافورة ورواندا وغيرها من بلدان تسعى لنفس أهداف اتاحة الخدمة ورفع جودتها.
فعليا، ومع تخلى الدولة عن دورها الطبيعى فى التعليم والرعاية الصحية، انتشرت شبكة أهلية من مقدمى الخدمات الصحية فى المساجد والكنائس وغيرهما من مؤسسات المجتمع، تقدم خدماتها بأسعار اقتصادية فى متناول الفقراء والشرائح الوسطى، ويقوم تنظيمها الذاتى وتدار خدماتها على أساس محلى فى ظل خطط التمويل الصغير غير الهادف للربح أو هامشى الربح.
ورغم جاذبية هذا الأسلوب واستخدامه فى بعض البلدان (سريلانكا وولاية كيرلا فى الهند... الخ) إلا أن أحد القيود المالية المهمة التى تعطله هو السداد المباشر نظير الخدمة، وهو ما يعنى عدم توفيرها ــ رغم رخصها ــ لمن لا يملك رسومها الاقتصادية!
وتشير التجارب الدولية إلى ممارسة يمكن تبنيها ههنا، وهو تحويل هذه الشبكة الأهلية لمكمل لشبكة التأمين الصحى العامة، بالدفع المُقدم / الاختيارى لبعض الشرائح الاجتماعية ــ غير الرسمية ــ من عمال المحاجر مثلا أو الباعة الجائلين عبر حسابات ادخار صحية أو صناديق تأمين صغيرة تصب فى الصندوق التأمينى الوطنى، مع وجود سياسة دعم عامة تخصص له لصالح الفقراء حتى نضمن استدامة عمل هذه الشبكة. ذلك ما قد يمنح قدرا من الحماية ضد مخاطر المرض للمنخرطين فى القطاع غير الرسمى، وبما يمكن لاحقا من دمجه فى الكيانات التأمينية الأكبر.
ومثل تلك المخططات للتمويل المجتمعى Micro Insurance Unit تشكل متحصلاتها فى كل الأحوال قدرا متواضعا من الموارد المالية حيث إن أغلب المشاركين فيها هم من الأسر منخفضة الدخل. ومن ضمانات النجاح أيضا وضع هذا الأسلوب التمويلى ضمن صندوق قومى للتأمين الصحى يمتلك القدرة المالية لدعم هذه المخططات المكملة، وهو أسلوب يسمى إعادة التأمين لخدمة القطاعات المهمشة فى الريف والعشوائيات.
وهذا الطرح الذى نطرحه نستحث به نقاشا مجتمعيا موسعا يبحث فى مخرج لأزمة ندرة موارد تمويل النظام الصحى الشامل، الذى يعانى التعثر منذ سنوات مضت.
*منشور بجريدة الشروق يوم ١٣ مارس ٢٠١٣