ملاحظات أساسية حول حوكمة القطاع الصحى
بات من المسلم به أن النظم الصحية الجيدة ما هى إلا وسيلة إلى غاية تتمثل فى الاستجابة بطريقة فعالة وإنسانية لحقوق واحتياجات المواطنين من خلال العمل على تحسين حالتهم الصحية (والتى يمكن أن تقاس بمتوسطات الأعمار، ومعدلات الوفيات للأطفال، ووفيات الأمهات والحوامل)، والعمل على حمايتهم الصحية والاجتماعية من الأعباء والأضرار التى تنتج عن المرض من عجز وخلافه. وما من سبيل لتحقيق هذه الغايات إلا بتحرى الحوكمة أو الحكم الرشيد فى أى تنظيم للقطاع الصحى.
يشير مفهوم الحوكمة أو الحكم الصالح إلى مجموعة مركبة من العمليات والهياكل العامة والخاصة على حد سواء، والتى يتم من خلالها التوفيق بين المصالح المتعارضة والتوصل إلى حلول توافقية. والحوكمة مفهوم أوسع من الحكومة. فهو يشمل تفاعلات الجهاز الحكومى بجانب عناصر غير حكومية فى المجتمع كما يشمل علاقاتهما سويا بالاقتصاد والسياسات العامة.
وقد أثبتت الدروس السابقة فى معرض إصلاح منظومة الحوكمة الصحية أنها لا يمكن أن تستقيم دون إرادة سياسية وقيادة واعية ومُلهمة تؤمن بالحقوق الإنسانية عامة وبالحق فى الصحة على وجه خاص، بما يجعلها تبدع فى وضع السياسات وإقامة المؤسسات الفعالة وتبنى التشريعات العادلة وتأخذ الإجراءات السريعة لتحقيق تلك الأهداف المشار إليها فى المنظومة الصحية.
فى هذا الإطار نراجع مفاهيم الحوكمة فى القطاع الصحى فنشير إلى عدة ملاحظات:
أولاً: بزغ وتطور هذا المفهوم فى أروقة الهيئات والجهات الدولية المانحة للبلدان الآخذة فى النمو (مثال البنك الدولى وغيره) منذ ثلاثة عقود على الأقل تحت مسمى good governance أو الحكم الرشيد. وكان الاهتمام آنذاك ينصب على الأبعاد الفنية والمالية للحوكمة وعلى رأسها مراقبة إنفاق الأموال التى تقدم للبلدان الأفقر وفق ما وضعت لها من أهداف. وقد عاب هذا المنظور عدم تعرضه للأبعاد السياسية والاقتصادية الأعمق للحكم على نحو ساهم فى التغاضى عن فساد واستبداد النظم السياسية الحاكمة ومن ثم دعمها من الناحية العملية. ولا شك أن محل الإشكال كان قصر الرؤية للتنمية على مجرد النمو الاقتصادى من منظور حرية الأسواق كمحرك لهذا النمو.
ثانيا: ظل المفهوم فى هذا الإطار الضيق الذى يحقق أهداف تلك الجهات المانحة، ومتسما بالغموض حول ماهية ابعاده الاقتصادية والسياسية المطلوب من الدول القيام بها لتحقيق الدرجة المرجوة للحكم الرشيد والصالح.
فتطبيق الأجندات المالية وحدها يتم فهمه بأنه محاوله لتدعيم النظم السياسية القائمة من خلال معالجة الخلل فى الأوضاع التى قد تؤدى لعدم الاستقرار، فى حين أن أجندة الحوكمة السياسية قد يكون هدفها استبدال النظم القائمة برمتها كما أشارت إلى ذلك بعض المنظمات التنموية الدولية مثل برنامج الأمم المتحدة الإنمائى UNDP، والتى تنظر إلى الإنسان كغاية للتنمية ووسيلة لتحقيقها أيضا مما يعنى انسجاما كاملا بين الحفاظ على الكرامة والحقوق الإنسانية والتنمية، ذلك ما جعل الأجندتين غير متوءمتين لا نظريا ولا تطبيقيا.
ثالثا: ومع تصاعد مركزية حقوق الإنسان والتنمية البشرية والمساواة النوعية برزت أطر أكثر ديمقراطية وإنسانية للحوكمة، ووضعت مؤشرات التقييم الكمية والكيفية لها عبر المراكز البحثية المهتمة بإدارة نظم إدارة إنسانية رشيدة، وعلى رأس هذه المؤشرات المشاركة الشعبية والمساءلة الاجتماعية والشفافية وسيادة القانون ومكافحة الفساد والاستجابة والعدالة والمساواة. وينسحب مفهوم الحوكمة على مستويات الحكم المختلفة من الحكومة المركزية إلى الإدارات المحلية والمحافظات إلى الوحدات البيروقراطية التنفيذية الأصغر، إضافة إلى مؤسسات المجتمع المدنى، والقطاع الخاص، التى تشكل فى مجملها ثلاثية أطراف الحكم.
وقد حملت هذه التحولات فى مفهوم الحوكمة الهيئات المانحة والمقرضة إلى تبنى تصور متكامل للحكم الرشيد وحقوق الإنسان، وذلك كوسيلة للخروج من الإطار الضيق لمشروطية المساعدات الدولية، والتى كانت تقدم تصورات جزئية عن الإصلاح المالى فقط، واستبداله فى المقابل بإطار أوسع لحوكمة الشعوب فى مختلف القطاعات بما فيها القطاع الصحى وغيره وصولا إلى الحكم الرشيد الديمقراطى سياسيا واجتماعيا واقتصاديا.
تقضى الحوكمة الصحية بصياغة وتنفيذ سياسات تتحرى الحق الإنسانى فى الصحة كما تضع معايير تكفل إدارة الموارد وتوفير الخدمات بكفاءة ودون تمييز كإطار عام وأساسى لمجمل أركان المنظومة. ويقع احترام هذه المبادئ والمعايير جميعا على عاتق قيادة المنظومة الصحية.
فأين القطاع الصحى المصرى من الحوكمة؟ الملاحظ فى القطاع الصحى المصرى أن ثمة غيابا للمفهوم لدى القيادات الصحية. فلا يزال النموذج البيولوجى الطبى لفهم المرض والذى نشأ عقب اكتشافات لويس باستير للميكروبات هو الغالب. ويقوم النموذج البيولوجى على التعامل مع الصحة بطريقة سلبية محضة باعتبارها غيابا للمرض أو من حيث هى حالة من الاكتمال الفيزيائى فقط دون النظر للأبعاد الاجتماعية لظاهرتى الصحة والمرض. ويقابل التصور البيولوجى للصحة مفاهيم الصحة الاجتماعية. وهو مقاربة تهدف إلى دراسة الأبعاد السياسية والاجتماعية للمرض والنظر اليه كجزء من السلوك الاجتماعى، إضافة إلى علاقات المريض داخل المؤسسة العلاجية، والسياق التنظيمى لعلاقات المرض عامة، ودور الطبيب فى التأويل والفهم الاجتماعى للمرض. بيد أن هذا المفهوم لا يزال خارج اهتمامات مجموعات القوة المسيطرة. وما زال من الصعوبة بمكان اقناع السياسيين والبيروقراطيين بأهمية الفوائد طويلة المدى للتدخلات والحماية الاجتماعية عند صنع السياسات ووضع منظومة الحوكمة الصحية، وفى المقابل تنصب كل اهتمامهم على التدخلات البيوطبية التى تعكس مصالحهم الضيقة فى المدى القصير.
كما تميل القيادات الصحية إلى تجاهل أبعاد ومؤشرات العدالة الصحية. والتى تعتمد على محددات اجتماعية للصحة أكثر اتساعا وشمولا وعمقا، وتتطلب إجراءات وأفعال ضرورية تقع خارج القطاع الصحى كتوفير المياه النقية والصرف الصحى والغذاء المتوازن والسكن الملائم. كما تتطلب تنسيقا بين قطاعات مختلفة. وهو الأمر الذى تعد من السهل الإشارة إليه وإن كان من الصعب تنفيذه بكفاءة فى بلد كمصر لحاجته إلى تناغم بين العديد من اللاعبين متعارضى المصالح أحيانا، كما أنه يستدعى دورا أكبر للقطاعات المجتمعية المختلفة التى لا تهدف إلى الربح فى مجال الصحة. ويفترض دورا للدولة الحديثة الديمقراطية التى يجب أن تلعب دورا كحارس أمين ومنظم جيد وقوى للمصالح المتضاربة بما يضمن الالتزام بحقوق الإنسان وبالتنمية البشرية باعتبارها ضمن الأسس الركينة لشرعية الدولة الحديثة.
فهل هذا ما يحدث لدينا فى هذه المرحلة الدقيقة من التحول الذى يمر به المجتمع ؟ أشك كثيرا أننا نسير فى هذا الاتجاه فلدينا فرص تتمثل فى قوى الدفع الثورية التى أحدثتها ثورة يناير، تنتظر التبلور فى منظمات مدنية فاعلة تعبر عن حقوق واحتياجات الجموع التى خرجت مطالبة بالعدالة والكرامة. كما أننا نواجه مخاطر ومعوقات تتمثل فى هيمنة قوى الثورة المضادة على مفاصل الدولة واستيعاب ذلك الزخم الثورى الذى أحدثته الثورة وتحويل مساراته باتجاه ديماجوجية الشعارات الدينية والعسكرية وبين هذا وذاك ومازالت القوى النخبوية تفتقد الإرادة والقدرة على تأسيس منظومة حوكمة رشيدة على مستوى السياسات عامة، وفى المجال الصحى على وجه الخصوص.
* نشر في جريدة الشروق 3 يوليو 2012.