مشروع قانون التأمين الصحى: ما له وما عليه
لم يكد مجلس الشعب الجديد يعقد أولى جلساته حتى طرح على جدول أعمال لجنة الصحة مشروع قانون التأمين الصحى الاجتماعى. وقد أثارت مسودة القانون جدلا جديدا قديما حول إصلاح التأمين الصحى فى مصر. وجدير بالذكر أن هذا المشروع قد جرى تقديمه للمناقشة عدة مرات من قبل خلال العقد الماضى انتهت جميعا إلى لا شىء لعدم توافر الشروط اللازمة لضمان تنفيذه بنجاح وهو ما جعل المشروع دوما مجرد بناء فوقى نظرى فى الهواء الطلق لا يستند إلى بنية صلبة تتسم بالجودة والكفاءة تسمح بالتنفيذ فى محاور التنظيم والإدارة والتمويل وتقديم الخدمات، وهى محاور أساسية يجب ترسيخ دعائمها أولا قبل السعى لمناقشة قانونها الفوقى الحالم.
ومما يزيد الأمور تعقيدا أن طرح القانون الآن أمام البرلمان والرأى العام يأتى فى غيبة دستور دائم، وفى ظل مناخ سياسى واقتصادى يتسم بالاضطراب وعدم التوافق حول الحد الأدنى من المبادئ العامة التى ستحكم إعادة بناء الوطن، إلى جانب تصاعد مظاهر العنف وتضاؤل فرص خلق منظومة للتضامن المجتمعى تسمح بتمويل مثل هذا النظام التأمينى المهم، والذى يعد بمثابة دستور للمنظومة الصحية يتم من خلاله تحديد الحقوق والواجبات المنوطة بجميع المواطنين دون إقصاء أو تمييز.
ومع أخذ كل ما سبق فى الحسبان فإن هذا المقال يسعى لتقديم قراءة متزنة لمشروع القانون تظهر ما فيه من إيجابيات وسلبيات باستخدام منهجية حقوقية تنظر إلى الصحة كونها حقا إنسانيا أساسيا جامعا، واجب الاحترام والحماية والنفاذ عبر معايير قابلة للقياس والتقييم. وذلك كإسهام فى النقاش الدائر، وأملا فى تعديل اتجاهات العمل الرامية لإعادة بناء المشروع الوطنى على أساس من الحكم الديمقراطى القائم على التنمية البشرية واحترام حقوق الإنسان، وهو الأمر الذى من شأنه أن يضع أطرا قانونية للقطاع الصحى بشكل خاص عن طريق إصدار ــ على سبيل المثال لا الحصر ــ قوانين للصحة العامة وللتأمين الصحى وللمساءلة الطبية ولحقوق المرضى وللتنمية البشرية الصحية، تشكل فى مجملها منظومة قانونية حاكمة لا يستقيم النظام الصحى بدونها.
فأما عن إيجابيات المشروع المقدم فأولها وجود مقدمة لبعض المفاهيم والمصطلحات المتعلقة بالقانون، وإن كان ينقصها الإشارة الواضحة للمبادئ العامة الحاكمة لفلسفة القانون كمفاهيم التضامن والمساواة والحق فى الصحة والعدالة والإنصاف، والمحددة أيضا لأهدافه الأساسية كشمول الحماية والتغطية التأمينية والكفاءة فى استخدام الموارد وتوزيعها.
ومن الإيجابيات أيضا النص على إلزامية القانون لجميع المواطنين ــ دون إقصاء ــ ما يعُد جانبا ايجابيا لتدعيم مفهوم التضامن بين شرائح المجتمع المختلفة (من أغنياء وفقراء، شباب ومسنين إلخ) وما يسمح بتمويل النظام عبر ما يسمى بالدعم المتبادل Cross Subsidy بين القادرين وغير القادرين، بالإضافة إلى النص على إسناد مهام وخدمات الصحة العامة والوقاية والكوارث الطبيعية والوبائية والإسعاف لوزارة الصحة بهدف توفير تلك الخدمات ذات الصبغة العامة دون مقابل مادى عند الحاجة إليها لطبيعتها العامة.
وتشمل إيجابيات القانون كذلك إعادة هيكلة القطاع الصحى بنصه على إنشاء هيئة قومية للتأمين الصحى الاجتماعى يكون دورها تمويل النظام من خلال صندوق قومى للتأمين الصحى يقوم بجمع وتدوير وشراء الخدمات من مختلف القطاعات والأطراف التى تقدم الخدمة وفقا لمعايير الجودة المحددة مما يعد خطوة إلى الأمام لتحقيق كل من كفاءة استخدام الموارد وعدالة توزيعها وفقا للاحتياجات الحقيقية إضافة إلى ترسيخ مبادئ المساءلة والحوكمة والمحاسبة. كما يؤسس القانون لمصادر تمويلية مجتمعية واعدة مثل الضرائب المخصصة للصحة على التبغ ومشتقاته والصناعات الملوثة وغيرها من المصادر التى تسمح بتوزيع أعباء تكلفة العلاج عبر وسائل للمشاركة المجتمعية المنصفة.
بيد أن المسودة تعانى العديد من السلبيات يأتى على رأسها النص على تبعية الهيئة القومية للتأمين الصحى لوزارة الصحة، ما يعوق دور الهيئة الأساسى فى تمويل وقيادة منظومة التأمين الصحى الاجتماعى باستقلالية وكفاءة تحت إشراف مجلس أمناء يشمل ممثلى أصحاب المصلحة فى النظام من عاملين ودافعى ضرائب وجماعات مصالح وآخرين، وكان الأحرى أن تسند الإدارة إلى مجلس إدارة محترف قليل العدد وعالى الكفاءة دون هيمنة من وزير الصحة بما يسمح بالمرونة فى اتخاذ قراراته وأعماله، وبما يؤكد استقلال موارده عن ميزانية وزارة الصحة باعتبارها موارد مجتمعية أساسا وليست حكرا على وزارة الصحة، وكذلك ما يحقق شروط الحوكمة الرشيدة لإدارة هذه الموارد التى يشرف عليها مجلس للأمناء يتمتع بالحيادية والاستقلال، وتراجع أعماله من خلال المجلس النيابى المنتخب بنزاهة.
يتسم النص المقدم بعدم الوضوح فيما يتعلق بحزمة الخدمات الصحية التأمينية المقدمة وتركها لما تحدده اللائحة التنفيذية أو النص على ما تقدمه هيئة التأمين الصحى حاليا! وهو ما يعد التفافا على مكونات الخدمة إذا اقتصر النص على ما يقدمه التأمين الصحى الحالى الذى نشأ فى 1964 وكانت التدخلات الطبية وقتها محدودة لا يمكن مقارنتها بالتدخلات العصرية وبالذات أمراض كالقلب والسكر والفشل الكلوى والكبد إضافة إلى الأمراض الكارثية عالية التكلفة كالسرطان وخلافه التى تؤدى إلى إفقار الأسر، ومن ثم كان يجب النص صراحة على تغطيتها.
كما أنه من سلبيات القانون إلغاء بعض التزامات الخزانة العامة للدولة فى تمويل النظام وتحميلها للأسرة. وكذلك يضع القانون مساهمات إضافية على كاهل المرضى بنسبه 10% من قيمة التحاليل الطبية على إجمالها، و20% من قيمة الأشعة على إجمالها، و5 جنيهات لكل عبوة دواء دون حد أقصى وهو ما يعد تجاوزا لدور المساهمات التى لا يجب أن تعوق إتاحة الخدمة بقدر ما تسعى إلى الحد من سوء استخدامها المفرط. وكان من الأحرى جعل المساهمات الإضافية رسوما رمزية بهدف الحد من سوء استخدام الخدمات بلا داع، فى حين لا تستخدم لحالات الدخول إلى المستشفى لأنها اضطرارية وعالية التكلفة وقد تعوق المريض من الحصول عليها.
إن المناخ السياسى والاقتصادى والتشريعى القائم حاليا غير ملائم لطرح مثل القانون المهم الذى يعتبر بحق بمثابة دستور صحى جديد. وكان من الأفضل تمهيد الطريق إليه باتخاذ عدة قرارات عاجلة وضرورية لإصلاح المنظومة الصحية العامة الحالية ثم وضعه فى إطار حزمة كاملة من القوانين المكملة والداعمة لتنفيذه ما يؤلف كيانا تشريعيا متكاملا يسمح بالإصلاح الحقيقى للقطاع الصحى.
أما طرح القانون دون توافر الظروف اللازمة لإنجاحه فيُعد دفعا إضافيا لإجهاض عمليات التغيير والإصلاح الحقيقيين التى تشكل منظومة للحوكمة الجيدة والديمقراطية لأنها تساهم فى هذه اللحظة أكثر من ذى قبل فى إعادة إنتاج النظم القديمة المتسمة بهيمنة البيروقراطية والحكم السلطوى الفاسد.
* نشر هذا المقال في جريدة الشروق 14 مايو 2012.