نحو منظور شامل لإصلاح القطاع الصحي يكرس مبادئ العدالة الاجتماعية

4 مارس 2012

في السطور التالية مقال وتعليق عليه، المقال الأول يتناول وضع القطاع الصحي في مصر، وسبل إصلاحه، وهو من تأليف الدكتور/ علاء حامد منسق التنمية البشرية بالبنك الدولي بالقاهرة، وفيه يعرض رؤية هي تقدمية بالفعل قياسا لموقف وموقع البنك الدولي لتحديات القطاع الصحي في مصر، وسبل إصلاحه بما ينعكس على حال الفقراء، وهم الكثرة الغالبة من المصريين، والأكثر تهميشا في إطار النظام الحالي. ثم يلي هذا مقال آخر من الدكتور/ علاء غنام مسئول ملف الصحة بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية يعلق فيه على الأول، ويقدم رؤية شاملة للإشكال والحلول المنتظرة.

المقالات تجسيد للجدل الدائر حول السياسات العامة ومقتضيات الفعالية والعدالة الاجتماعية عند الإصلاح فيما بعد الثورة، ويعكس كذلك فرصة للاشتباك مع خطاب وخطط المنظمات المالية الدولية، وخاصة البنك الدولي، وأجندتها التنموية، ومدى ملاءمتها وإدراكها لقدر التغير الواقع والمتوقع حدوثه مستقبلا لمجال السياسات العامة بعد أكبر ثورة شعبية في تاريخ البلاد الحديث، كما أن التفاعل بين المقالين فرصة للكشف عن أبعاد الجدل القديم والمتجدد بين دوري الخبراء في مقابل الساسة في صياغة سياسات عامة في مجالات اجتماعية كالصحة وكذلك كالتعليم والإسكان والضمان الاجتماعي، وهي كلها مجالات تنطوي على جوانب فنية جنبا إلى جنب مع قضايا سياسية تمس توزيع وتخصيص الموارد بين فئات وشرائح المجتمع المختلفة.
 
وتكتسب متابعة ومراجعة وتقييم ما تصدره المؤسسات المالية العالمية من إستراتيجيات وتقييمات للوضع الحالي في مصر أهمية خاصة لأسباب عدة يأتي على رأسها أن هذه المؤسسات هي الفاعل الوحيد على الساحة الذي يملك تصورا حول مسار التنمية والتحول الاقتصادي في مصر في ظل عدم وجود حكومة أو رئيس منتخبين، وفي ظل عدم وضوح رؤية اقتصادية محددة للأغلبية البرلمانية، وغياب أي ترجمة بعد لمطالب الثورة بالعدالة الاجتماعية إلى سياسات عامة تتبناها الدولة. وإذا أضفنا إلى هذا احتياج البلاد الآني للتمويل الدولي في صورة قروض ومنح لمواجهة أزمات السيولة والعجز في الموازنة ونقص العملة الصعبة فإن هذه المؤسسات العالمية على غرار البنك وصندوق النقد الدوليين والبنكين الأوروبيين للاستثمار والتنمية وهيئة المعونة الأمريكية سيكون لها كلمة مؤثرة ومسموعة في صياغة وتطبيق السياسات الاقتصادية العامة وخاصة المالية والنقدية في المستقبل المباشر، وهو ما يضيف بعدا آخر لأهمية قراءة ما يصدر عن تلك المؤسسات من وثائق في التوقيت الراهن.

تحسين مخرجات صحة الفقراء
بقلم: الدكتور علاء حامد 
(منسق التنمية البشرية البنك الدولي القاهرة. ترجمه بتصرف دكتور علاء غنام)

تقاس مخرجات الصحة – عادة - من منظور قدرة النظم الصحية على تطوير تحسينات في المحاور الآتية:

- الحالة الصحية للمواطنين
- الحماية المالية لهم من عبء المرض
- الحفاظ على كرامتهم ورضائهم عن ما يقدم لهم من خدمات رعاية صحية

وترتبط التحديات التي تواجه تنفيذ هذه المحاور بمدى الاهتمام ووضع الأولويات والموارد اللازمة لصالح الفقراء أو الذين يتعرضون للقفر بسبب العبء المرضي، كما تعكس تطور أجندة العدالة الاجتماعية في المجتمع ككل.

سمات عدم الإنصاف واختلال العدالة:
فمن منظور الحالة الصحة: يمكن رصد وملاحظة سمات عدم الإنصاف واختلال العدالة في الفروق المتعلقة بمعدل وفيات الأطفال تحت سن المدرسة (الهدف الإنمائي الرابع  في إعلان الألفية) والمتعلقة بوفيات وصحة الأمهات والحوامل (الهدف الخامس) فيما بين المناطق جغرافيا ( شمال/ جنوب/ ريف/ حضر) وفيما بين الشرائح الاجتماعية المختلفة (الأفقر/ والأغنى). كما تتضح من زيادة معدلات وانتشار التقزم بين الأطفال في الفئات الأفقر، مع زيادة معدلات الأمراض غير المعدية والمعدية مثل انتشار الأمراض الكبدية (التهاب الكبدي  بي و سي) وعبء الأمراض المتزايد بين الفقراء والذي يؤدي إلى مزيد من الفقر بينهم .

ومن منظور الحماية المالية من عبء المرض:
يتضح جليا غياب الحماية المالية من عبء المرض في التأثيرات المفقرة للإنفاق الطبي على الأمراض الكارثية في وجود 50% من المواطنين - هم الأفقر- بلا أية غطاء تأميني صحي أو اجتماعي. وفي عدم الإنصاف لإتاحة موارد العلاج على نفقة الدولة، وفي أن أكثر من 72% من الإنفاق الكلي على الرعاية والخدمات الصحية هو إنفاق ذاتي مصدره من جيوب الأفراد والأسر, وهو  لا يعكس القدرة بقدر ما يعكس الحاجة والاضطرار.

وأما من منظور رضاء المواطنين واستجابة النظام لحقوقهم الصحية تتبدى معدلات الاستخدام المرتفعة غير الفعالة لعدم الرضاء عن الخدمة  – كظاهرة محلية وعالمية – وتتبدى زيارات مقدمي الخدمة في القطاع الخاص المتزايدة، ومعدلات عدم الثقة والاستخدام المنخفض لمرافق الصحة العامة كمؤشرات لعدم الرضاء ولضعف استجابة النظم العامة. ويتضح ذلك أكثر ما يتضح بين الشرائح الأفقر من المجتمع حيث تمثل معدلات الاستخدام النسبة الأقل رغم أنهم الفئة الأكثر احتياجا لمرافق الصحة العامة من الأغنياء ما يؤكد عدم الإنصاف.

وتتقاطع التحديات التنموية مع ما سبق وتؤثر على مخرجات الصحة ما يجعلها محلاً للاهتمام مثال:  معدلات الخصوبة، ارتفاع وزيادة نسب الأمية بين الفقراء، وتدني مخرجات التعليم وزيادة معدلات البطالة خاصة بين الشباب وعلى وجه الخصوص الشابات – منهم - وتدني معدلات التغطية للصرف الصحي، وتوطن الوبائيات (أنفلونزا الطيور) وافتقاد شبكة الأمان الاجتماعي بين الفقراء.

ومن المؤشرات الاجتماعية والثقافية الأخرى المتوقع تصاعدها وتأثيرها السلبي عدم تمكين النساء، ما يؤكد عدم الإنصاف والتمييز السلبي فيما يخص حقوق الفئات الأكثر حرماناً وتهشيما بين القطاعات المختلفة.

إن وضع العدالة الاجتماعية في عقل وقلب أجندة إصلاح القطاع الصحي هي ترجمة لشعارات الشعب التي رفعت من ثورة 25 يناير 2011 وفي سياقها سوف تتحدد والخطوات اللازمة لتحقيقها  في الخمس سنوات القادمة من إستراتيجية المرحلة الانتقالية الصحية.

وهذه الخطوات سوف تسعى لتحسين المخرجات الصحية للفقراء باعتبارهم الشرائح الأكثر احتياجاً  في المجتمع تأسيسا على مبادئ عدالة التوزيع من خلال الوفاء بشروط المساواة وعدم التمييز وتقديم الفرص العادلة للجميع وتوفير الدعم والمزايا للفئات الأكثر احتياجا في المجتمع. بفعل الدافعية الأخلاقية الإنسانية التي تزودنا بالاحترام المتساوي للأفراد مهما كانت قدراتهم على الدفع المالي ولتنفيذ ذلك، فالمواطنين الأكثر احتياجاً في المجتمع يجب أن يتم دعمهم عبر إعادة توزيع الموارد والمصادر أكثر من الأغنياء بهدف تحسين حالتهم الصحية ما يتيح لهم فرص متساوية للمنافسة على العمل واكتساب الدخل.

إن تحسين مخرجات صحة الفقراء (وفيات الأطفال - وفيات الحوامل والأمهات - معدل العمر المتوقع للحياة) سوف يساهم في تحسين مخرجات مصر الصحية العامة وتحسين المؤشرات الاجتماعية التنموية بها. ولأن ضعف أداء النظام الصحي يتبدى في المناطق الأكثر فقرا  فأن وضع مستهدفات الإصلاح يجب أن يمر في إطار الخطوات التالية:

تحسين الوضع الصحي للفقراء في مناطق محددة مثال: الصعيد بمصر (سوهاج، أسيوط) والمحافظات الحدودية أو في المراكز العشوائية الحضرية، وحماية السكان خاصة الفقراء منهم من التأثيرات المفقرة للمرض علاوة على تحقيق رضاء المرضَى الأكثر احتياجاً وعلاجهم بما يحفظ كرامتهم. كما أن الدعوة والتحفيز في هذا الاتجاه سوف يدفع النظام الصحي إلى مستويات أفضل بما يمثل استمراراً للجهود المبكرة لإصلاح القطاع الصحي التي بدأت من على 1996 متطلعين إلى تطابق ذلك بشكل أكثر تحديدا مع حقوق الفقراء في الرعاية الصحية.
 

نحو منظور شامل لإصلاح القطاع الصحي يكرس مبادئ العدالة الاجتماعية
بقلم دكتور/ علاء غنام

من المعروف أن النظام الصحي المصري قد مر بمراحل تاريخية متعددة أبرزها كانت مرحلة تأسيس نظام للتأمين الصحي الاجتماعي والتي بدأت في منتصف الستينات من القرن الماضي, حين صدر القرار الرئاسي رقم 209 لسنة 1964 بتأسيس الهيئة العامة للتأمين الصحي ثم صدرت عدة قوانين تالية لتنفيذ تغطية صحية تأمينية كان هدفها المعلن وقتها هو كفالة الحق في الحماية الصحية التأمينية لجميع المواطنين في عشر سنوات (وهو ما لم يتحقق حتى اليوم  لأسباب يطول شرحها).

ورغم مرور أكثر من نصف قرن على هذه البدايات إلا أن الهدف النهائي لهذا النظام لم يتحقق بعد. فما زالت التغطية التأمينية والحماية الصحية من أعباء المرض لم تصل إلى الفقراء من المواطنين فأغلب الذين يتمتعون بهذه الحماية هم من العاملين في القطاعات الحكومية والرسمية للعمل وسكان الحضر.
 
وفي الأعوام الأخيرة قدمت الدولة عدة مسودات لقانون جديد للتأمين الصحي ( في إطار برنامجها لإصلاح القطاع الصحي) والذي مر بدورتين (الأولى بداية من عام 1997 – 2002) ثم  من (2006– 2010) كانت الدورة الأولى مبشرة بالنجاح لأنها وضعت نموذجاً للتأمين الصحي في إطار تجريبي لفصل تمويل الخدمة عن وحدات تقديمها, وأنشئت وحدات جديدة لصحة الأسرة (400 وحدة) في ثلاث محافظات استرشادية (الإسكندرية, المنوفية, سوهاج) وإدارات صندوقاً مالياً تأميناً لصحة الأسرة (صندوق صحة الأسرة  Family Health Fund-FHF) يقوم بالتعاقد مع مقدمي الخدمات الصحية في وحدات صحة الأسرة بناء على مؤشرات الأداء والجودة.

إلا أن المحاولة الأولى تم إجهاضها بفعل متعمد بداية من المرحلة الثانية  للإصلاح (عام 2006 - 2010) حيث جمد برنامج الإصلاح تحت دعاوى ضرورة إحداث نجاحات سياسية سريعة للوزير (quick wins)لتمرير مشروع التوريث فتم التركيز على قطاعات أخرى كالإسعاف وخدمات الطوارئ ومواجهة أزمة أنفلونزا الطيور والخنازير وعقد المؤتمرات الدعائية الدورية لمناقشة خطط الإصلاح والبدء في تجربة استرشادية جديدة في محافظة المنوفية أولاً اعتمادا على شركة عالمية تسمى ماكينزي انتهت بالفشل ثم في محافظة السويس انتهت بالفشل أيضاً نظرا لعدم الاعتماد على الجهود السابقة والدراسات التي شملت المرحلة الأولى.

ما يعكس عدم وجود إرادة سياسية حقيقية لإتمام الإصلاح ووضع أهدافه المعلن عنها حين ذاك موضع التنفيذ والتي تتمثل في:-
1. حماية الفقراء من عبء المرض عبر تنفيذ مبادئ التضامن بين الفقراء والأغنياء.
2. تحسين صحتهم بتوفير الموارد اللازمة لإتمام تنفيذ نظام التأمين الصحي الاجتماعي  الشامل.
 وتجدر الإشارة إلى أن الإنفاق على الصحة لم يزد في أحسن أحواله عن 4% من إجمالي النفقات بالموازنة العامة، ويتحمل المواطنون خاصة الفقراء منهم ثلثي أعباء وتكاليف الخدمة الصحية  والعلاج بنسبة 72% من الإنفاق الكلى (أنظر الحسابات القومية للصحة لعام 2010).
 
والآن ما هي خريطة الطريق للوصول إلى ذلك في الدورة الثالثة للإصلاح التي يبدو إنها تلوح في المجال العام؟

بداية من المهم تحديد الرؤية حتى لا ننشغل بقضايا جزئيه لإصلاح القطاع الصحي ونسقط في هوة الدائرة السابقة المؤدية إلى الفشل لأنها كانت تعمد إلى إعادة اختراع العجلة (reinventing the wheel):

- إن الواقع الصحي جزء من الكل المجتمعي في تطوره السياسي والاقتصادي والثقافي.
- إن الإصلاح يعني إحداث تغيير شامل وعميق للنظام الصحي الحالي يعتمد على التغيير المجتمعي الديمقراطي والدولة المدنية الحديثة.
- وفي المنهج: الرعايا الصحية حق وليست مجرد سلعة وهو حق معياري يقاس بمؤشرات التوافر والإتاحة المالية والجغرافية والجودة وعدم التمييز.
- إن هذا الحق يجب أن يمثل الإطار الأخلاقي للنظام الصحي ولذا يجب أن يحترم ويحمى وينفذ وفقاً للعهود والقوانين الدولية وفي إطار خطة للتنمية البشرية الشاملة والعادلة تستند إلى تطوير المحددات الاجتماعية للصحة ووضع السياسات والتشريعات الصحية التي تخدم الهدف وإعادة الهيكلة التي تحقق ذلك في محاور تقديم وتمويل وتنظيم الخدمة.

وهناك خمسة مفاتيح تحكم يجب العمل على إصلاحها :-
1. أساليب التمويل
2. القوانين واللوائح
3. هياكل تنظيم الخدمة
4. أساليب الدفع المالي لمقدمي الخدمة
5. سلوك المستفيد (المريض / المواطن)

وينبغي تعيين أن يعتمد النظام الجديد على قيم التضامن الإنساني الذي يوجب مراعاة كرامة الإنسان (بين القادر ماليا وغير القادر وبين الأصحاء والمرضى والشباب والكبار). وهو جوهر فكرة التأمين الصحي لأنه يوفر مجالات للمشاركة المالية في تحميل مخاطر المرض وأعبائه.

خطة العمل التنفيذية (Action plan):

ولتنفيذ ذلك يجب العمل على : -
1) توحيد وإعادة هيكلة أطراف النظام الصحي في نظام موحد جديد هيكله الأساسي والرئيسي مؤسسات عامة لتقديم الخدمة / ونظام إحالة يتكامل بين مستوياته المختلفة.
2) دور فعال وقوي للتنظيم (وزارة الصحة) لوضع السياسات والاستراتجيات والإشراف على برامج الصحة العمومية والتطعيم وخلافه من مقاومة الأوبئة الوقائية منها.
3) تطوير بدائل واقعية لتمويل النظام التأميني الجديد يجمع ما بين الاشتراكات ومساهمة الخزانة العامة. للدولة والضرائب المخصصة للصحة كمساهمة مجتمعية (ضرائب على السجائر والصناعات الملوثة).
4) تطوير هيكل أجور عادل للفريق الطبي في إطار النظام التأميني الجديد.
5) تطوير وإعادة هيكلة التعليم الطبي والبحث وسياسات تنمية القوى البشرية في القطاع الصحي.
6) تطوير ودعم سياسات تحمي حقوق المواطنين في الحصول على الدواء الضروري والأساسي.
7) تمكين مؤسسات المجتمع المدني وحقوق الإنسان من دور فعال على المشاركة في صنع القرار.