فكرة حقوق الإنسان والدولة
فى مؤلفه فكرة حقوق الإنسان كتب تشارلز أر بيتز، ترجمة / شوقى جلال، الصادر عن سلسلة عالم المعرفة: «إن كل شخص هو موضوع اهتمام كوكبى، ليس مهما الموقع الجغرافى للشخص أو الفصيل السياسى أو الفريق الاجتماعى الذى ينتمى إليه، إذ كل امرئ له حقوق إنسانية وعليه مسئوليات حماية هذه الحقوق واحترامها، الأمر الذى من شأنه أن يتسع ويمتد عبر الحدود السياسية والاجتماعية». ويمثل انتشار هذه الفكرة وذيوعها أحد عناصر تراث الحرب العالمية الثانية، بحيث أصبحت حقوق الإنسان واقعا عالميا. وتدور الفكرة المحورية فى حقوق الإنسان الدولية، حول أن الدولة مسئولة عن الوفاء بشروط معينة عند تعاملها مع شعوبها، وأن حالات الفشل الفعلية أو المتوقعة فى تحقيق ذلك يمكن أن تبرر شكلا ما من العمل العلاجى أو الوقائى من جانب المجتمع العالمى، أو من يقومون بهذا الدور، ونجد هذه الفكرة متضمنة فى بنود ومواد حقوق الإنسان الواردة فى ميثاق الأمم المتحدة: «إن معاملة أى دولة مواطنيها بمقتضى هذا العصر الحديث هى شأن دولى».
***
وحقوق الإنسان ليست فى حالة ثابتة ساكنة، بل دائما ما تكون قابلة للتطور ومفتوحة على مساحة واسعة من المكتسبات الجديدة، و«إعلان العام 1948 هو البذرة الأولى، لكن لا هو، ولا العهود الدولية، يصنعان حدودا لمدى ومحتوى حقوق الإنسان. كذلك فإن الاتفاقيات المعنية بالتمييز العنصرى، والتمييز ضد المرأة، وحقوق الطفل بخاصة تمثل توسعا موضوعيا لضمانات حقوق الإنسان». فالاتفاقية المعنية بالتمييز العنصرى تطالب الحكومات بحظر ومعاقبة مظاهر التعبير العام عن «أفكار مؤسسة على التفوق العرقى أو الكراهية العرقية، وتؤكد اتفاقية المرأة على تعديل أنماط السلوك الاجتماعى، فيما تؤكد اتفاقية الطفل أن التفكير الأولى، فى السياسات العامة التى تؤثر فى الأطفال، ينبغى أن يستهدف أفضل مصالح الطفل. وتوضح هذه المواد التوسع الموضوعى لمبدأ حقوق الإنسان واتساع مداها». وتمثل فكرة حقوق الإنسان حمايات مؤسسية ضد أخطار معيارية تتهدد مصالح ملحة وعاجلة. والخطر المعيارى هو خطر يمكن التنبؤ به عقلا فى ظل الظروف الاجتماعية حيث الحق المستهدف يجرى تطبيقه. والحقوق الواردة فى المبدأ الدولى ليست فى الجانب الأعظم منها مفهومة على أحسن وجه باعتبارها عوامل حماية غير مقيدة أو شاملة للمصالح الملحة العاجلة. مثال ذلك أنه ليس معقولا فى ظاهر الأمر اعتبار حق الحياة حماية للمصلحة فى الأمن البدنى ضد جميع الأخطار التى يمكن تصورها، ونجد بالمثل أن الحق فى الرعاية الصحية ليس حماية للمصلحة فى التمتع ضد الأخطار.
ولما كانت الدولة تحكمها ثلاث سلطات السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية وتلك السلطات هى التى تعتبر مسئولة عن تنظيم حقوق الأفراد وتشريع وتنفيذ قوانين حماية حقوق الإنسان، كما أن تلك السلطات الثلاث هى التى تنظم علاقة الفرد بتلك الحقوق وأيضا علاقة الفرد تجاه الدولة ما له وما عليه من واجبات وحقوق، وتقوم تلك السلطات الثلاث بتلك الأمور عن طريق سن القوانين الملزمة للآداب العامة، ومنع التعرض للأذى وعن طريق التربية والتوعية بين الرعايا والمواطنين وعن طريق الإرشاد ونشر المعرفة والثقافة بين الشعب، ومن الجدير بالذكر أن حقوق الإنسان ومعاييره هى مقياس عالمى تقاس به كل دولة على حدة على ما تقدمه من حقوق لمن هم تحت رعايتها، وإن كانت تكفل لهم الحماية والأمن والأمان والتعليم والمأكل والمشرب أى أبسط الحقوق، ويتم مقارنتها مع باقى الدول الأخرى التى تحذو نفس حذوها.
***
ومن هنا فإنه يجب على الدولة بغض النظر عن شكل نظام الحكم فيها أن تنظر إلى ملف دعم وحماية حقوق الإنسان كأحد أهم الثوابت الوطنية التى يشكل الالتزام بها أساسا لمجتمع يقوم على مبادئ المساواة والعدل وتكافؤ الفرص بين جميع المواطنين، ولا تدخر جهدا فى سبيل تعزيز احترام حقوق الإنسان، وصون كرامته الأساسية، وتوفير السبل والضمانات اللازمة لتمكين المواطن من التمتع بحقوقه المدنية، والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، وترسيخ الممارسة الصحيحة لحقوق الإنسان فى سلوكيات المواطنين، فى إطار من التزام أصيل بنصوص الدستور، والتزامات الدولة المقررة بموجب المواثيق والاتفاقيات الدولية. ويعنى التزام الدولة باحترام حقوق الإنسان أنه يتوجب على الدول أن تمتنع عن التدخل، بمعنى حظر أى أفعال من جانب الحكومات قد تُقوض التمتع بالحقوق. ففى صدد «الحق فى الصحة» مثلا، يعنى هذا الالتزام أن لا تقيد السلطات الحق فى الصحة من خلال التعقيم الإجبارى، أو التجارة الطبية، وغيرها. أما التزام بالحماية فيعنى، أنه يتعين على الدول أن تحمى الأفراد من التجاوزات التى ترتكبها جهات غير الدولة، كما أنه يعنى أنه يتوجب على الدول أن تتخذ إجراءات إيجابية لتيسير التمتع بحقوق الإنسان الأساسية. وفى صدد «الحق فى الصحة» فإنه يتعين على الدولة إيجاد عدد كافٍ من المستشفيات ومرافق الرعاية الصحية العامة الأُخرى لتوفير الخدمات على قدم المساواة للجميع. وتنبغى الإشارة هنا إلى أن التزامات الدولة بالوفاء والحماية تخضع لما يسمى إلى «مبدأ الإعمال التدريجى». فالحق فى الصحة مثلا لا يضمن حق كل شخص فى الصحة الجيدة، ورغم ذلك، فإنه يُلزم الدول وفقا للقدرات الاقتصادية لكل منها احترام المعايير الدولية الدنيا، وذلك بإنشاء نظام صحى عمومى يستطيع من ناحية المبدأ أن يضمن للجميع إمكانية الوصول إلى بعض الخدمات الصحية الأساسية. أما الغياب الكامل للتدابير الإيجابية لتحسين نظام الصحة العامة أو الاستبعاد المتعمد لبعض المجموعات من الوصول إلى خدمات الصحة قد يشكل انتهاكا للحق فى الصحة.
وهذا المثل يجب أن يُحتذى به فى جميع أنواع الحقوق متنوعة ما بين الحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، إذ إنهما يسيران معا ولا يمكن الفصل بينهما لكونهما يمثلان قوام الحياة كلها.
ويجب أيضا على الدولة التيسير على مؤسسات المجتمع المدنى ومعاونتها فى القيام بدورها فى تعظيم وتفعيل المبادئ الحقوقية، إذا أنه تعد شريكة للدولة فى هذا الصدد، ولا يجب إثقالها بالقيود الشكلية، ويجب إنفاذ القوانين المنظمة لعملها بما يتوافق مع دورها المرسوم فى الاتفاقيات الدولية المنظمة للحقوق، إذ أنه فى نهاية المطاف يتعلق الأمر بالتمكين الذى يستلزم أن يشارك الأفراد فى تحديد حقوقهم وحرياتهم. فبالإضافة إلى دور الرصد الذى يلعبه من أجل احترام حقوق الإنسان واحترام القوانين والحفاظ على السلامة الجسدية وصيانة الأموال المكتسبة بطريقة شرعية، وهى أمور وجودة فى صلب الحماية والتمكين، وتعزيز الضمانات الدستورية فى مجال حقوق الإنسان
نشر هذا المقال علي موقع الشروق بتاريخ 27 اغسطس 2019