النمو الاقتصادى بين التبعية والاستقلال
«لو كان هاملتن وزيرا للمالية فى بلد نام، لرفض صندوق النقد الدولى أو البنك الدولى إقراض بلده، بل لتكتلا داعين إلى إبعاده عن منصبه»، وردت هذه العبارة نصا فى كتاب يحمل عنوان «السامريون الأشرارــ الدول الغنية والسياسات الفقيرة، وتهديد العالم النامى» وهو من تأليف ها ــ جوون تشانج، وترجمة أحمد الشافعى، أما عن أسباب كتابة المؤلف لتلك العبارة عن شخص هاملتن، فقد كان هاملتن أول وزير للمالية الأمريكية سنة 1789، وقد قام برفع تقرير إلى الكونجرس الأمريكى سنة 1791 مفاده أن بلاده فى ذلك الوقت كانت بحاجة إلى حماية صناعاتها الوليدة ــ بحسب وصف المؤلف ــ من المنافسة الأجنبية، فاقترح فى هذا التقرير سلسلة من الإجراءات لتحقيق التنمية الصناعية فى بلده، من بينها التعريفات الحمائية وحظر الاستيراد والدعم وحظر تصدير المواد الخام الأساسية، وتحرير استيراد المدخلات الصناعية وتخفيض تعريفاتها الجمركية، وفى المجمل فقد قدم هاملتن برنامج عمل إصلاحيا للسياسات الاقتصادية الأمريكية فى ذلك الحين، كان الهدف منه هو تحقيق نهضة أمريكية تعادل على الأقل ما كان فى معظم البلدان الأوربية فى ذلك الحين، حتى إنه قد أُطلق على ذلك الرجل فى معرض أقيم عنه حديثا 2004 : 2005 أنه الرجل الذى خلق أمريكا المعاصرة.
هكذا صنعت أمريكا اقتصادها الحديث، وكذلك غيرها من بلدان العالم المتقدمة، وأيضا كل بلدان الدنيا الآخذة فى النمو أو ما يطلق عليها بلدان العالم النامى، إذ لم تفتح كل هذه الدول الباب على مصراعيه لسياسات غريبة عنها تُفرض على أراضيها، ولم تخضع إلا لمعايير ناتجة من واقعها الداخلى، وبحسب التنظيرات الاقتصادية، فإن هذه الدول لم تركن إلى سياسات السوق جملة، أو تتخذ من الخصخصة سلوكا وحيدا، أو أن تتخلى الدولة عن المعادل الاقتصادى مرة واحدة، وتترك الساحة كلية للسياسات الليبرالية، أو ما استجد وأُطلق عليه التوجهات النيوليبرالية، بل تجد أن معظم هذه البلدان قد أنتجت مزيجا من كل تلك السياسات، بما يتناسب مع وضعها الاقتصادى، وحالتها التنموية، واتخذت منهجا خاصا بها، فلم تترك نفسها أسيرة لبلدان أكثر منها تقدما، وتستورد كل احتياجاتها، بما لا يسمح لها بأن تأخذ دورا فاعلا نحو تحقيق نموا فى تلك الصناعة، وتكتفى بأن تكون مستوردا، ولو كان بأسعار أقل من غيرها.
وقد استزادت تلك الدول فى الانكفاء الذاتى على نفسها حتى يتحقق لها ما ترنو إليه من نمو وتكامل فى صناعات قد سبقتها فيها بلدان غيرها، بأن فرضت سياسات جمركية عالية على بضائع تلك البلدان، وسهلت للشركات الداخلية دخول هذه السوق، بل وتعاونت الدولة مع معظم تلك الشركات أو المصانع الساعية لخدمة الاقتصاد القومى، ولم تترك السوق لحالها إلا بعد أن حققت كفايتها من النمو وحققت ما يزيد على حاجة سوقها الداخلية، وبعدها ــ وعلى حسب تعبير الاقتصاديين ــ فإن معظم تلك الدول لجأت فيما بعد تحقيق طفرة نموها، إلى ما يسمى بسياسة «ركل السلم» وهذا بالنسبة للبلدان الأقل منها نموا أو تلك التى بحاجة إلى هذه الصناعات أو غيرها، بأن تحالفت معظم تلك البلدان على أن تجعل من هذه الدول سوقا لمنتجاتها، وأن تستمر تلك البلدان فى حاجة دائمة لمنتجات الدول المتقدمة، وذلك بأن تروج للأساليب أو النظم الاقتصادية التى لم تكن سببا فى نهضتها، وتروج على أنها كانت هى السبب الحقيقى لما طالها من تقدم ورقى، وأخص بالذكر فى ذلك السياسات السوق المفتوحة ورفع القيود على الاستيراد، والتوجه إلى نمط النيوليبرالية، بحسبه النموذج الأمثل للتقدم والرقى على غير الحقيقة، وذلك حتى تضمن بقاء هذه الدول سوقا مفتوحة لمنتجاتها، وكذلك تبقى موردا دائما للمواد الأساسية أو المواد الخام.
***
أما إذا ما عدنا إلى القول الأول فى بداية هذا المقال للمؤلف، والمتعلق بصندوق النقد أو البنك الدولى، مدى تأثيرهما على البلدان التى تخضع لسياساته، فلابد أن نلقى نظرة بسيطة على كيفية نشأتهما، إذ مع بداية أربعينيات القرن الماضى، كان النظام العالمى يعانى تفاقم الأزمات الاقتصادية، وتخبُطا فى السياسات المالية، فضلا عن الآثار المدمرة للحرب العالمية الثانية.
كل ذلك دفع القوى العالمية، بقيادة الولايات المتحدة، إلى عقد اجتماع أممى فى عام 1945، ضم 44 دولة، نتج عنه توقيع اتفاقية بريتون وودز، التى تم بموجبها إنشاء صندوق النقد والبنك الدوليين.
وكان الهدف الرئيس من إنشاء صندوق النقد الدولى هو تحقيق النمو الاقتصادى بعد الحرب العالمية الثانية، وتعزيز سلامة الاقتصاد العالمى، إضافة إلى منع وقوع الأزمات المالية، من خلال إلزام الدول الأعضاء باعتماد سياسات اقتصادية سليمة. فى المقابل، يقرض الصندوق الدول الأعضاء المتعثرة ماليا فى حال التزامها بسياسات وأهداف المنظمة، كذلك يقدم البنك الخدمات الاستشارية المتعلقة بتحسين سياسات الدول فى مجال إدارة أسعار الصرف، والتضخم، وغيرها من المتغيرات.
أما فى الوقت الحالى، فقد أصبح صندوق النقد الدولى يضم 185 دولة، ويتحكم بصورة مركزية فى نظام المدفوعات الدولية من خلال ما يقدمه من قروض تقلل من عجز الحساب الجارى للدول، وتعزيز استقرار أسعار الصرف بما ينعكس إيجابا على معاملات حركة التجارة الدولية. وفى خلال ذلك فإنه يعتمد على أسلوب تحرير الاقتصاد بما يضمن تقليص سيطرة الدولة عليه، والانفتاح التجارى بين الدول، وخفض النفقات الحكومية وإلغاء سياسات الدعم الحكومى. وهذا ما يؤكد أن مبادئ صندوق النقد الدولى تنحصر فقط فى التحرر الاقتصادى الذى يعزز الهيمنة السياسية للدول العظمى، وتعظيم مصالح المستثمرين، دون النظر إلى تأثير تلك السياسات على المواطنين العاديين والفقراء، وبغض النظر جملة على ما يصلح فى التطبيق داخل البلد المقترض عن غيره من البلدان الأخرى، وهو الأمر الذى يحرم البلدان النامية من أى فرص للاستقلال الاقتصادى الحقيقى، أو تحقيق تنمية تتوافق وظروفها الداخلية.
ومن خلال ما سبق نستطيع أن نؤكد أن الدول المتحكمة فى سياقات صندوق النقد والبنك الدولى ليس لها أى مصلحة باللغة الاقتصادية فى أن تحقق الدول المقترضة أى فرص للنمو الحقيقى، أو تعديل فعلى لوضعها الاقتصادى، بل تكمن مصلحتها فى بقاء تلك الدول فى حالة من التبعية والعوز الاقتصادى، لضمان أن تبقى سوقا مفتوحة، وأن تظل شعوبها على حالتها دونما فرصة للتطور أو النمو، وهناك العديد من التجارب الدولية التى لا يتسع المقام لذكرها.
***
ويبقى تحذيرى الأخير من أن نتمادى فى التعامل مع هذه السياسات الاقتصادية، دونما النظر إلى خصوصية وضعنا الداخلى، ودونما التطرق لسبل حقيقية لتنمية الصناعات حتى نلحق بركب من سبقنا من تلك البلدان التى صارت شبه متحكمة فى الأسواق العالمية.
نشر هذا المقال في موقع الشروق بتاريخ 3 مارس 2019