حوار المحليات المسكوت عنه

16 يناير 2019

منذ أن أصدر المجلس الأعلى للقوات المسلحة المرسوم بالقانون رقم 116 لسنة 2011، بحل المجالس الشعبية المحلية، وبتشكيل مجالس محلية مؤقتة، مازال هذا الوضع المؤقت على حسب وصف المرسوم بقانون قائما، بالرغم من مرور عشر سنوات عليه. وحتى بعد صدور الدستور المصرى عام 2014، الذى نص فى مادته رقم 208 من نظام الحكم على: «على الهيئة الوطنية للانتخابات، هيئة مستقلة، تختص دون غيرها بإدارة الاستفتاءات، والانتخابات الرئاسية، والنيابية، والمحلية، بدءًا من إعداد قاعدة بيانات الناخبين وتحديثها، واقتراح تقسيم الدوائر، وتحديد ضوابط الدعاية والتمويل، والإنفاق الانتخابى، والإعلان عنه، والرقابة عليه، وتيسير إجراءات تصويت المصريين المقيمين فى الخارج، وغير ذلك من الإجراءات حتى إعلان النتيجة، وذلك كله على النحو الذى ينظمه القانون». وقد بقيت هذه المادة دون تفعيل، نظرًا لاشتراطها الإشراف عليها من قبل الهيئة الوطنية للانتخابات التى لم تكن شكلت بعد ــ إذ أصدر الرئيس عبدالفتاح السيسى، قرارًا جمهوريًا بتشكيل مجلس إدارة الهيئة برئاسة المستشار لاشين إبراهيم، نائب رئيس محكمة النقض، فى أكتوبر 2017 ــ إضافة إلى الحاجة إلى قانون منظم جديد فى ضوء الدستور.
وأضف إلى ذلك أن هناك مشروعا بقانون للإدارة المحلية قد تقدمت به الحكومة «كالعادة» إلى مجلس النواب فى دور الانعقاد الثانى، وانتهت لجنة الإدارة المحلية بمجلس النواب من المناقشات الخاصة به وإعداد تقريرها حوله خلال دور الانعقاد الثانى للبرلمان، لكن لم يتبق وقتًا لمناقشته فى الجلسة العامة، ليتم تأجيل مناقشته لدور الانعقاد الثالث المنعقد حاليًا.
ولابد فى هذا السياق أن نؤكد على ما جاء بالدستور المصرى، حيث تنص المادة 242 من دستور 2014 على: «يستمر العمل بنظام الإدارة المحلية القائم إلى أن يتم تطبيق النظام المنصوص عليه فى الدستور بالتدريج خلال خمس سنوات من تاريخ نفاذه»، هذا ما يعنى ضرورة إنجاز انتخابات المحليات خلال عام 2019 على أقصى تقدير.
***
وإذ إن هذا الأمر قديم فى مصر، فلابد وفى سياقه تماما أن نذكر بمقولة زكريا عزمى رئيس ديوان رئاسة الجمهورية، والتى قالها تحت قبة مجلس الشعب المصرى آنذاك «الفساد فى المحليات للركب»، واستكمالا لتاريخ الفساد فى دوائر المحليات قال رئيس لجنة الإدارة المحلية بمجلس النواب الحالى، النائب أحمد السجينى، وذلك حسب ما نشره موقع المصرى اليوم بتاريخ 4 / 6 / 218 أن «الفساد كان ولا يزال فى المحليات لكنه لن يظل، وإذا انصلح حال المحليات ستنصلح حال الدولة المصرية»، جاء ذلك خلال مناقشة طلبات إحاطة حول الفساد، فيما قال النائب عبدالحميد كمال إن «الفساد يحتاج وقفة حاسمة للحد من هذه الظاهرة التى تأكل التنمية»، مشيرا إلى أن «آخر تقرير حكومى بشأن الرقابة على أدائها تضمن أرقاما خيالية فى ضياع أموال المصريين بواقع 2 مليار و23 مليون جنيه مخالفات».
وبالرغم من الحملات التى شُنت خلال الفترات الماضية، التى أسفرت عن القبض على العديد من قضايا الفساد فى المحليات، متمثلة فى قضايا تقاضى الرشاوى لتسهيل الأعمال، والتكسب من خلال الوظائف الرسمية ــ فإن أمر فساد الإدارات المحلية بتاريخه العميق سيظل مطلا على المجتمع المصرى برأسه المخيفة، ودوائره الأخطبوطية المتجذرة داخل أروقة البنايات الحكومية، إلا إذا سعت الحكومة المصرية إلى تحقيق شفافية واسعة النطاق على مستوى الإدارات المحلية.
***
وإذا ما عاودنا الحديث عن انتخابات المحليات التى طال انتظارها، وفى ظل الأداء الوهن لأعضاء مجلس النواب، فهل للمواطن المصرى المتعامل مع المحليات أن يستبشر خيرا، إذا ما فعلت الحكومة المصرية النصوص الدستورية سالفة البيان، وقامت بإجراء هذه الانتخابات فى غضون عام 2019، وهل سيكون هناك بارقة أمل فى ظل وجود هذه الرقابة الشعبية على الإدارات المحلية داخل كل وحدة محلية، أم أن الأمر لن يتعدى مجرد تغيير فى الشخوص الممثلة لما كان عليه الوضع فى عصر ما قبل يناير 2011.
ومن الناحية النظرية تعتبر المحليات من أهم أدوات الديمقراطية، وخصوصا من الناحية اللا مركزية، حيث يتفق الفقه الحديث على تعريف اللا مركزية بأنها استراتيجية تساعد على التقريب بين الدولة ومواطنيها، حيث تسمح البلديات وهيئات الحكم المحلى كما المؤسسات المحلية الديمقراطية للمواطنين بالتعبير عن احتياجاتهم وتطلعاتهم، ووضع استراتيجيات فاعلة لمواجهة المشكلات التى تواجههم وتؤثر عليهم، إلى جانب إدارة موارد الدولة. كما يسهم القرار السياسى المحلى القائم على أساس من الديمقراطية والمشاركة فى زيادة ثقة المواطنين فى مؤسسات الدولة، ومن ثم تساعد فى بناء شرعيتها، وهو ما يعتبر أمرا حاسما فى المراحل الانتقالية. كما أن تعزيز الحوكمة المحلية الديمقراطية تخلق نوعا من المساحة للمواطنين وتتيح الفرصة لتفاعل مجموعة متنوعة من الجهات المحلية الفاعلة مثل الشخصيات الفاعلة فى المجتمع ومنظمات المجتمع المدنى والقطاع الخاص ومسئولى القطاع العام والممثلين السياسيين المحليين وموظفى القطاع الحكومى والأقليات.
لكن فى الوقت نفسه تواجه «اللامركزية» خطر تغلغل «شبكات الزبائنية السياسية» وتفشى الفساد وتهميش الأقليات والفقراء، وذلك فى حال عدم وجود أنظمة مؤسسية وسياسية قوية على المستوى المحلى، وغياب آليات المشاركة والمساءلة التى يستطيع المواطنون من خلالها مراقبة البلديات وهيئات الحكم المحلى ولعب دور أساسى فى تحديد برامجها ونشاطاتها. كما أنه يجب أن تقوم استراتيجيات اللا مركزية السليمة بهدف تحقيق توازن دقيق بين الحكم الذاتى المحلى وبين الدولة المركزية. وتعتبر الحكومات المحلية المنتخبة مكونا أساسيا من النظام، والتى من خلالها يتمكن المواطنون من المشاركة ومراقبة كيفية استغلال الموارد العامة، ومساءلة مسئولى الحكومات المحلية وذلك من خلال الانتخابات وآليات المساءلة الاجتماعية.
ولكن هل سيختلف الواقع المصرى، فى حالة ما إذا تمت انتخابات المحليات فى عام 2019 الذى أوشك على الدخول علينا، وهل ستكون حاضرة فى تغيير الواقع المصرى، أو تغيير الصورة المرسومة فى أذهان المصريين عن المحليات منذ سنوات طالت، وطال معها عمر الفساد، أم أن الصورة لن تتغير أو ستصير أكثر قتامة مما كانت عليه من قبل، ويصير الفساد الإدارى هو الآفة المسيطرة على واقعنا الحياتى.

نشر هشا القال علي موقع  الشروق بتاريخ 20 ديسمبر 2018