تعديلات قانون العقوبات.. التوسع التجريمى.. وقرينة البراءة
فى الأصل العام تقوم كل الفلسفات القانونية العقابية على أساس افتراض البراءة، وأن التجريم وحظر الأفعال هو الاستثناء، كما استقرت جميع التشريعات العقابية شرقا وغربا على أصل مهم يتضافر مع تلك الأصول التشريعية، وهو مبدأ عدم جواز معاقبة غير المتهم، وهو المبدأ الذى استقرت عليه معظم التشريعات الجنائية، وأقرته كذلك مجموعة من الاتفاقيات الدولية المعنية بحقوق الإنسان،
وقد سبقت الشريعة الإسلامية الأنظمة الوضعية بعدة قرون فى تأكيدها على مبدأ شخصية العقوبة، فقد جاء النص عليها فى القرآن الكريم، والذى يمثل أصل التشريع الإسلامى فى قول المولى سبحانه: «ولا تزر وازرة وزر أخرى»، وهو ما أُطلق عليه اصطلاحا مبدأ «شخصية العقوبة» وهو ما عبرت عنه العديد من الأحكام بقولها: الأصل فى الجريمة أن عقوبتها لا يتحمل بها إلا من أدين بها كمسئول عنها، وهى بعد عقوبة يجب أن تتوازن وطأتها مع طبيعة الجريمة موضوعها، مؤدى ذلك. شخصية العقوبة وشخصية المسئولية الجنائية، تلازمهما.
***
وقد فوجئ المهتمون بالشأن العام والشأن القانونى بوجه خاص بموافقة مجلس النواب المصرى على تعديلات طالت قانون العقوبات المصرى، أهمها فى هذا الصدد ما جاء فيها بأنه: و«يعاقب بالسجن كل من علم بارتكاب أى من الجرائم المشار إليها فى الفقرتين الأولى والثانية من هذه المادة ولم يبلغ السلطات قبل اكتشافها، وتقضى المحكمة فضلا عن العقوبة المنصوص عليها فى الفقرتين الأولى والثانية من هذه المادة بمصادرة محل الجريمة ووسائل النقل المستخدمة فى نقلها والأدوات والأشياء المستخدمة فى ارتكابها وذلك كله دون الإخلال بحقوق لغير حسن النية».
وهذا النص يؤكد على معاقبة غير المتهم بالفعل المجرم، تحت مظنة العلم بالجريمة، وأهم ما قيل نحو تبرير هذا التوسع التجريمى هو ما جاء على لسان رئيس مجلس النواب المصرى ــ حسب موقع المصرى اليوم ــ بأنه: «نحن أمام اعتبارات تفرضها الصياغة التشريعية التى سار عليها المشرع المصرى فى العقوبات وكان يحمى الفروع ولكن الواقع له واجهته ولا يمكن إغفاله من المشرع». وقال النائب محمد أبو حامد إن «فلسفة المادة هى القضاء على البيئة الحاضنة للعناصر الإرهابية حتى لو لأقرب الناس إليهم» مضيفا: «هذه الفقرة تقضى على العناصر الإرهابية، لأن الأب الذى يتستر على ابنه يفتح مجالا لسقوط عدد كبير من الضحايا». وكذلك ــ وحسب نفس الموقع ــ ما قاله رئيس اللجنة التشريعية بمجلس النواب أن اللجنة رأت أن هذه التعديلات جاءت متفقة مع النصوص والمبادئ الدستورية التى تحمى أمن وسلامة الوطن واتساقا مع الظروف القائمة والتحديات التى تواجهها الدولة المصرية، بضرورة تشديد العقوبات حتى تتناسب مع حجم الجرم المنفذ.
وإذا كان التشريع الجنائى يقوم على مبدأ شخصية العقوبة امتدادا للأصل العام هو شخصية المسئولية الجنائية والجرائم لا يؤخذ بجريرتها غير جناتها، وأن العقوبات لا تنفذ إلا فى نفس من أوقعها القضاء عليه، وهذا النهج هو ما أكده الدستور المصرى الأخير، فقد جاء نص المادة الخامسة والتسعين فى صدارته على أن «العقوبة شخصية» وهو ما يعنى عدم جواز توقيعها لزوما على غير مرتكب الفعل المُجرم، ومن زاوية ثانية فإن ذلك المبدأ ينعكس على كيفية التجريم، إذ لا يجوز أن تتم حصر أفعال فى نطاق تجريمى بغير مبرر ولا ضرورة مجتمعية، وأن عقاب تلك الأفعال يجب ألا يتعدى نطاق أو حدود مرتكبيها.
وإذا ما انتقلنا إلى هذا التعديل التشريعى والذى يعاقب غير المتهمين على زعم علمهم بوقوع الجريمة وعدم الإبلاغ عنها، وهو المعنى الذى لا يتوافر معه أى ركن مادى يجوز تجريمه، لعدم وجود أى فعل، حتى ولو افترضنا فكرة العلم بوقوع الجريمة، وهى من الأفكار غير المنضبطة، والتى لن يستطيع أحد إثباتها بشكل قضائى مما يصعب الأمر على القاضى الجنائى فى كيفية إثبات وقوع هذه الجريمة، علاوة على الغلو فى التجريم بغير مبرر، وهو الأمر الذى رصدته المحكمة الدستورية العليا فى العديد من الأحكام، وألقت باللائمة على المشرع فى تجريمه لأمور بمثل هذا الاتساع، ومن أجمل ما قالته المحكمة الدستورية فى ذلك نصها فى القضية رقم 17 لسنة 21 دستورية من أنه لا يجوز لمثل هذه النصوص، أن تُحمل الناس ما لا يطيقون، ولا أن تؤاخذهم بما يجهلون، ولا أن تمد إليهم بأسها وقد كانوا غير منذرين، ولا أن تنهاهم عما ألبس عليهم، وإلا قام التجريم فيها على أساس من الظن والإبهام، ليكون خداعا أو ختالا. وهو ما تأباه النظم العقابية جميعها، وينحدر بآدمية الإنسان إلى أدنى مستوياتها، ليغدو بغير حقوق ــ وعلى الأخص ــ فى مواجهة السلطتين التشريعية والتنفيذية. يؤيد ذلك أمران: أولهما أن الأصل فى النصوص العقابية، أن تصاغ فى حدود ضيقة تعريفا بالأفعال التى جرمها المشرع، وتحديدا لمضمونها، فلا يكون التجهيل بها ــ من خلال انفلات عباراتها وإرهاقها بتعدد تأويلاتها ــ موطئا للإخلال بحقوق كفلها الدستور للمواطنين.
***
أما عن الحجج التى ساقها المؤيدون من البرلمانيين لهذه التعديلات، وأهم ما يمكننا التعرض له منها، ما جاء على لسان رئيس اللجنة التشريعية من أن التجريم هنا يرتبط بالخطورة المجتمعية، وليس بما عليه الحال كشأن عام فى أمور التجريم والذى يرتبط بالضرر، فإنه فى جميع الأحوال فلا يجوز التوسع التجريمى دونما ضوابط، وفى جميع الأحوال يجب على السلطة التشريعية أن تلتزم الحدود الدستورية فى هذا النطاق، وألا تتعدى نطاقها تحت أى مبرر كان عصفا فى ذلك بالحريات الشخصية التى تمثل الأصل العام فى الحياة، حتى ولو كانت المبررات فى هذا السياق تسير فى ركب محاربة الإرهاب، لأن الإرهاب لا يشكل مبررا أو منفذا لكل توسع تشريعى يناهض الحقوق والأسس الدستورية، كما أن هناك قواعد أصولية لكيفية التشريع والعقاب يجب على مجلس النواب المصرى أن يتخذها حدا له لا يتعداها أو يتجاوز نطاقها، وعليه ألا يقع فى مغبة الانحراف التشريعى، والذى يمثل عيبا يلحق بالتشريعات التى تتجاوز فيها السلطة التشريعية الأصول العامة فى كيفية صناعة القوانين، وأن تنحاز إلى موافقة السلطة التنفيذية فى كل ما تسوقه لها من مشاريع قوانين، وكأنها سلطة متفرعة من السلطة التنفيذية، وليست سلطة مستقلة، بل وتعلو على السلطة التنفيذية فى كونها تعد بمثابة السلطة الرقيبة على أعمال السلطة التنفيذية.
وفى المجمل فإنى أرى أن الاتجاه فى التشريعات منذ انعقاد مجلس النواب المصرى يسير فى ركاب السلطة التنفيذية روحة وإيابا، وأنه فى أغلب ما صدر عنه من قوانين تجاوزت الحدود العلمية والقواعد الدستورية فى كيفية التجريم والعقاب، وكأن سلطتنا التشريعية قد وُلدت من رحم السلطة التنفيذية، وليست ممثلة لإرادة جموع المواطنين.
تم نشر هذا المقال عبر موقع الشروق الإلكتروني بتاريخ 25 مارس 2018