الجوع في بر مصر
في قصيدة الشاعر العراقي الكبير محمد مهدي الجواهري «تنويمة الجياع» يقول:-
نامي جياعَ الشَّعْبِ نامي،، حَرَسَتْكِ آلِهة ُالطَّعامِ
نامي فإنْ لم تشبَعِي،، مِنْ يَقْظةٍ فمِنَ المنامِ
أعتقد أن الأمور صارت في مصر تحمل هذا المعنى وأكثر، وصار غالبية هذا الشعب المطحون، كما يقول المثل الشعبي «بيكمل عشاه نوم»، ولكن لِمَ وصلنا إلى هذا المستوى من الفقر في عدد محدود من السنوات لم تتجاوز العشر، نعم أعلم أننا لم نكن طوال فترة فاقت نصف القرن من الشعوب الغنية المترفة، أو من الدول المصنفة من ذوات الجودة في الغذاء أو التعليم أو الصحة أو المسكن، وهي أهم مترادفات لمعنى الغنى أو الفقر، وذلك لكونها هي المعبر الحقيقي عن مدى تمتع المواطنين بحقوقهم وحياتهم، ومن ثم فإن عدم توافرها أو ضمانها ولو بالقدر الكافي يؤكد توافر بل توحش معنى الفقر في حياة المواطنين المصريين، ولنا في الطوابير اليومية أمام سيارات القوات المسلحة أو الشرطة للحصول على أي قدر يوفر ولو جنيها واحدا للمواطن كفارق للشراء من خلال هذه المنافذ، كبديل عن السوق العادية والتي ارتفعت فيها الأسعار بشكل قاس أمام قدرة المواطنين الشرائية، أو ما في حوزتهم من جنيهات تمثل الدخل الشهري، والذي بمجرد دخوله لجيب المواطن يجد نفسه محل حيرة وتعثر وضياع أمام مفردات الاستهلاك أو الاستحقاقات المعيشية للأسرة المصرية، وذلك في ظل انهيار لقيمة الجنيه، أمام العملات الأجنبية، وزيادة نسبة التضخم، وارتفاع نسبة الدين الداخلي أو الخارجي.
وللعلم فإن لجوء المواطن البسيط لبدائل تتناسب مع مقدرته المالية لتحقيق قدر من الاكتفاء الذاتي لأسرته في مجال الغذاء على سبيل المثال، دونما التحقق من مدى صلاحية هذه السلع التي يشتريها، أو مدى قدرتها على بناء أجساد أطفال صغار حتى يشبوا وهم على مقدرة شبابية لمواجهة أعباء الحياة، وبالتالي يصبحون أفرادا ذوي نفع للمنظومة الحياتية للمجتمع بأسرة، ولكن يكون همه الأول والأخير هو سد رمق الجوع بالكم وليس بالكيف أو النوعية، وهو الأمر الذي يؤثر بالسلب على بقية الحقوق، التي يأتي في مقدمتها الحق في الصحة، وبالتالي يعود بالسلب على الموازنة العامة للصحة، وتتكلف الخزانة العامة المزيد، ومع اتجاه الدولة لخصخصة المزيد من المستشفيات فسيصبح الحق في الصحة أو التداوي عبئاً إضافياً على موازنة محدودي الدخل.
ولما كان الهدف النهائي لأي نظام اقتصادي هو تحقيق أعلى مستوى من الرفاهية للمواطنين، وليس الوقوف عند احتياجاتهم الأساسية فقط، وأن هذا الأمر يتطلب إشباع أدنى قدر من الحاجات الأساسية بطريقة تتفق وحفظ كرامتهم الإنسانية، كما أنه من البديهي أن نؤكد أن سياسات السوق لا تسهم في التغلب على الفقر بتشجيعها للاستثمار والتجارة والنمو فقط، ولكن لابد من ضمان ألا يكون ذلك الأمر متحيزاً ضد الفقر والفقراء. وكما قالت الدكتورة/ هويدا عدلي في دراسة لها بعنوان «الفقر والسياسات العامة في مصر» إن مراجعة الخصائص العامة للفقر في مصر تكشف عن أن الفقر ظاهرة معقدة ومتعددة الجوانب، فالفقر يعني عجز فئة من الأفراد والأسر عن توفير الدخل اللازم للحصول على السلع الاستهلاكية التي يحتاجون إليها لتحقيق الحد الأدنى من مستوى المعيشة المقبول، وهذا هو اتجاه الرفاهية لقياس الفقر، ومن ناحية ثانية فإن الفقر يعني عجز فئة من الناس عن تحقيق المستويات الدنيا من الاحتياجات الأساسية كالرعاية الصحية والتعليم والغذاء، والقدرة على المشاركة في أعمال إنتاجية مدرة للدخل.
ومن هنا تأتي الحاجة إلى تأثير السياسات الحكومية وتدخلها على أوسع النطق لمحاولة معالجة كل هذه الظواهر، وإيجاد أنماط من الحلول السياسية والقانونية والاجتماعية تكون جميعها مشتركة ومتشابكة ذات قدرة تأثيرية على المعالجة الحقيقية والمؤثرة، ولا أرى أن من بين هذه الطرق العلاجية أن يكون الاقتراض هو السبيل الأغلب لضخ بعض التأثيرات السطحية على المدى القصير، دونما التطرق للحلول الجذرية، وذلك لكون كثرة الاستدانة واللجوء لسياسة الاقتراض يؤثر سلباً على كل ثروات البلاد ومستقبلها، وكذلك سياساتها، ولنا في شروط قرض صندوق النقد الدولي خير مثال على التدخل أو فرض الشروط المجتمعية باهظة الكلفة على المدى القريب، ولكن لابد من الاعتماد على الثروات الطبيعية للبلاد وكيفية استغلالها بالطريقة التي تعود بالنفع على كل المواطنين، ولن يتأتى ذلك إلا من خلال سياسات عامة نافعة وتنقية البنية القانونية من القوانين التي أثرت بالسلب على الحياة الاقتصادية المصرية، ومن خلال الاستفادة من التجارب الدولية القريبة الشبه.
أما إذا ما استمر الوضع على ما هو عليه حتى الآن فأعتقد أننا في طريقنا إلى هاوية لا يعلم مداها أحد، ولنا في تجربة محاولة تغيير منظومة العيش وما تبعها من تغيرات تظاهرية استمرت لمدة يوم، ولولا التدخل السريع للمعالجة الفورية، أعتقد أن الأمور كانت ستتطور.
تم نشر هذا المقال عبر موقع المصري اليوم بتاريخ 13 مارس 2017