الشفافية والتجربة الهندية ومكافحة الفساد

22 يناير 2017

جمعنى لقاء مع سيدة فى دلهى كان نضالها من أجل إقرار قانون للشفافية على كل مستويات الصرف المالى الحكومى سببا رئيسا فى إقرار هذا القانون، وكان مجمل حديثها يدور حول أن المجتمعات الصغيرة والفقيرة يجب أن تعى جيدا قيمة إقرار مثل هذه القوانين، ولا يتأتى ذلك إلا بإعلامهم القيمة الحقيقية والضرورية لوجود مثل هذه القوانين حتى يعلموا أين تذهب الأموال المخصصة لهم فى موازنة الدولة.
تطبيقا لهذه الجلسة القيمة سافرت أنا والمجموعة المرافقة لى إلى إحدى القرى الفقيرة والموجودة على حدود الهند مع دولة باكستان، وشاهدت تطبيقا وتفعيلا حقيقيا وعمليا لمعنى الشفافية، حيث رأيت على جدران الوحدة المحلية لهذه القرية لوحات مكتوبا بها القيمة الكلية للموازنة المخصصة لهذه الوحدة، وكيف يتم توزيعها بما ينفع المجتمع المحلى، وكيف يتم صرفها وإنفاقها فيما ينفع الناس، بمعنى أنه يجب أن يعلم كل فرد أين تذهب مخصصاته المالية.

ثم كان لى أن قمت بمراجعة الدستور الهندى الأخير، وبخصوص موضوع الشفافية المالية فلم أجد أن به ما يوحى أو يؤدى إلى وجود عدم رقابة على الأوجه المالية جميعها بكل الأقاليم الهندية أو الحكومة المركزية، ولا وجود لما يسمى بالرقم الواحد فى الموازنة لأى هيئة من الهيئات، أو خروج أى جهة أيا ما كانت من الخضوع للرقابة المالية، والتى لابد لها أن تمر من خلال المراقب المالى ومراجع الحسابات العام، واللذين يقدمان تقريرهما السنوى لرئيس الدولة، والذى بدوره يحيله إلى البرلمان الهندى بمجلسيه للمناقشة الجادة والرقابة على كل أوجه الصرف الخاص بدولة الهند دونما استثناءات لأى جهة أو أى مصروف مالى يخص الشعب. فعلمت لماذا تتقدم الدول، وتعلمت مفهوم الرقابة الشعبية الحقيقية، وكيف أن الحكومات لا تمثل نفسها، بل إنها تعد ممثلة لجميع القطاعات الشعبية، وبالتالى وجب أن تكون هذه القطاعات رقيبة على كل الأوجه المالية التى تخصهم.

حزنت لكوننا فى بلادنا ما زلنا نضرب المثل بالهند فى الجهل والتخلف، ويزداد حزنى لما أجده من غياب لمفاهيم الشفافية الحقيقية، والرقابة الشعبية الفعلية على المال العام المصرى. كما هالنى استثناء وضعية الموازنة العامة الخاصة بالقوات المسلحة كما جاء بنص المادة 203 من الدستور المصرى الأخير من تحديد الجهة المعنية بها وهى مجلس الدفاع الوطنى، وحسب نص الدستور «وتُدرج رقما واحدا فى الموازنة العامة للدولة»، وأن أمر مناقشة هذه الميزانية خاص بمجلس الدفاع الوطنى، على أن ينضم إليه رئيسا لجنتى الخطة والموازنة والدفاع والأمن القومى بمجلس النواب. وحاولت أن أتوصل لسبب حقيقى أو علمى لحجب هذه الموازنة عن الرقابة الشعبية ممثلة فى مجلس النواب، فلم أجد سوى احتمال سرية التعاقدات على الصفقات الخاصة بالتسليح. ولكن كانت دهشتى أن وجدت نفسى أرد على ذلك بأن الدول المتعاقد معها لها موازناتها وأجهزتها الرقابية، وهى بالفعل من طراز الدول المتقدمة التى تضع حق الشعب فى الرقابة على كل صغيرة وكبيرة كأحد أهم الأمور. كما أنه من الناحية الواقعية فإن الصحف المصرية أو الأجنبية ووكالات الأنباء تنشر ما يدور حول هذه الصفقات إن لم يكن من مصادر مصرية فهو من المصادر الإعلامية الخاصة بالدول المتعاقد معها.

من ثم فإنه من الصعب أن تكون هناك مشاركة ديمقراطية فى صنع القرار ورقابة ونضال حقيقى حول حماية وتعزيز الحقوق الأخرى دون توافر الشفافية الكاملة وتشارك المعلومات. فالشفافية تعد أحد أهم مبادئ الحوكمة وتعود هذه الأهمية إلى أنها السلاح الأول لمحاربة الفساد. فغياب الشفافية هو الذى يفتح الباب على مصراعيه لعقد صفقات الفساد، أما مع وجود الشفافية فإنه يصعب حينها إساءة استخدام السلطة لصالح فئة تعمل فى الخفاء.

كما أن تعزيز البناء الديمقراطى فى حياتنا واجب على الفرد والجماعة ويتطلب منح المواطن كامل حقوقه وأهمها حقه فى عملية صنع القرار على جميع الأصعدة وأهم من ذلك اطلاعه بصدق وشفافية على المكونات الرقمية التى تلعب دورا أساسيا فى عملية صنع القرار سواء الاقتصادى أو السياسى أو حتى الاجتماعى.
نحن كدولة مصرية تضرب بجذورها عمق التاريخ نمتلك العديد من الأجهزة الرقابية على المال العام، ونملك كذلك الأدوات التى هى بطبيعتها بسيطة لجعل أمر المشاركة الشعبية والرقابة على المال العام أمرا واقعيا، لكونه سوف يؤدى إلى الحفاظ على كل مقدرات الدولة المالية، وأرى أنه سيكون سببا للخروج من نفق الأزمات المالية والحالة المزرية التى وصل إليها الوضع الاقتصادى المصرى، كما أن وضع الفساد المالى والإدارى على مستوى المحليات يُعد أحد أهم الأسباب لضياع المال العام وتبديده دونما تحقيق الهدف الحقيقى من اللامركزية المرجوة منه.

لذا فلا بديل عن الشراكة الشعبية الحقيقية فى جميع الأمور المالية وتفعيل الدور الرقابى على المال العام وأوجه الصرف على كل المستويات بداية من أصغر الوحدات الإدارية وصولا إلى قمة المركزيات فى الدولة. هذا إضافة إلى أن المنظومة القانونية المصرية فى حاجة ماسة لأن تنالها يد التعديل والتغيير بما يتناسب مع المفاهيم العصرية للشفافية والمشاركة المجتمعية، خصوصا وأن هناك العديد من القوانين التى هى بحاجة للمراجعة بما يسمح بأن يكون هناك تداول حقيقى للمعلومات؛ وهى تلك التى تحجب أو تأطر لكيفية الحصول على المعلومات، وبما يجعل المرجعية الأولى والأخيرة فى الحصول على المعلومات بيد الجهة الإدارية أو السلطة بمفهومها المطلق، فإن شاءت منحت وإن أبت منعت، وكأن الأمر محض منحة، وليست حقا للمواطنين، بحسبهم هم أصحاب الوطن، والمعنيون والمخاطبون، بسياساته وقوانينه، كما أنهم أصحاب الهم الرئيس فى نهضة الأمة والخروج من كبوتها. من زاوية أخيرة فإن التطوير الاقتصادى والنهوض بالأوضاع المالية لن يكون إلا بالمشاركة المجتمعية وإتاحة المعلومات وجعلها فى متناول الأيدى بما يؤدى ويسمح بإجراء الدراسات والسياسات الاقتصادية.

تم نشر هذا المقال عبر موقع الشروق الإلكتروني بتاريخ 21 يناير 2017