عدالة الفيل الهندي والأخطبوط المصري
ساقني قدري لزيارة محكمة دلهي في الهند، لمدة يوم كامل بصحبة بعض القضاة هناك، وكنت رفقة بعض العاملين بالمجال الحقوقي، ورأيت هناك عدلاً تطبقه المحكمة عن طريق القانون، وشاهدت بعيني معالم تقدم الأمم، وأول ما عاينته كان المبنى الذي يقع على يمين مبنى المحكمة، وهو مكون من أربعة طوابق ومخصص بكامله للأساتذة المحامين، وبه مكاتب صغيرة خاصة بكل أستاذ، وفي مبنى المحكمة لا يوجد استغلال في الطرقات من أحد.
أما عن سير العدالة فهناك قاعة مخصصة للأطفال، لا تشبه قاعات المحاكم، ولكنها تتناسب وسنهم، وبها ألعاب وعصائر، ولا يُسمح بدخولهم قاعات التقاضي، بل على القاضي أن يذهب إليهم في تلك القاعة، حتى لا يتم تشويه نفسيتهم.
ثم كان بكائي على مرأى ممن كانوا بصحبتي، حينما دخلنا إحدى قاعات المحكمة، وكانت مخصصة لجرائم سرقة التيار الكهربائي، وللعلم فعندنا حتى تنتهي مثل هذه القضية، ليس أمام المتهم إلا أن يذهب لشرطة الكهرباء والتصالح وسداد المبلغ المحرر به المحضر دونما تحقق من حقيقته، وصدق محرر المحضر فيه من عدمه، وإلا الحبس. ولكن حينما دخلنا القاعة وجدت القاضي يجلس ليس على المنصة، ولكن على مكتب صغير أمام المنصة عليه جهاز حاسوب «كومبيوتر»وأمامه كرسيين يجلس عليهما شخصان، فسألت عنهما فقيل لي أن أحدهما هو المتهم، والآخر هو مندوب شركة الكهرباء، فعجبت لماذا يحضر مندوب الشركة، فأخبرني المستشار الذي كان يصحبنا أنه لابد من حضوره حتى يتم التفاوض معه على المبلغ الذي يستطيع المتهم سداده، وكذلك طريقة السداد، وكان المحضر محرر بمبلغ 35000 ألف روبية، وهو مبلغ بسيط، ولكن بعد تفاوض القاضي مع مندوب الشركة تم تخفيضه إلى 11000ألف روبية، ويتم سدادها بالتقسيط.
ثم كانت المفاجأة، حينما رأيت موظفة تأتي من الخلف تعطي القاضي بعض الأوراق، فسألت عن ذلك، فقيل له أنه الحكم، وقام القاضي ببصمه بخاتم معه، ثم قام بإعطاء كل طرف نسخة للعمل بها، وتنفيذ ما تم الاتفاق عليه، وهنا تذكرت حالنا وما وصلت إليه أحوال المحاكم عندنا من أمور بسيطة تؤدي إلى ضياع معنى العدالة الحقيقي بأيدي من يعملون لتحقيقها، فأنت من أول دخولك لباب المحكمة عليك أن تجهز حالك بالاصطباحة ،المتعارف عليها، والتي يتم إجبار بعض الأفراد عليها بداية من حراس الباب الرئيسي، وإذا أردت استخراج صورة من حكم فعليك الانتظار فترة طويلة من الأيام قد تمتد إلى ما يزيد على شهر، ولا تستطيع أن تستخرجها إلا بعد مزيد من التوقيعات على طلب، سواء من رئيس القلم أو رئيس النيابة، ثم المرور بعد أن تعطي مجبراً لأمين السر مبلغ، حسب طبيعة الحكم، ويتم بعده التصوير، ثم قلم الصور، ثم رئيس القلم للختم.
أما إن تحدثت عن حال المتهم الموجود محتجزاً حتى ينهي القاضي الجلسة، وبعد أن ينصرف القاضي، فيتم استغلاله بطريقة بشعة، لسداد ما يسمى بالمصاريف، والحلاوة لأمين السر، والحرس، والحاجب.
وبعد أن عقد ذهني هذه المقارنة وجدت نفسي أبكي أمام المرافقين، على حالنا وما وصلت إليه أحوال العدالة في مصر من ضياع وتأخير على أيدي معاونى القضاء، الذين وصل بهم الحال إلى ما يمكن أن نطلق عليه تجارة العدالة، والفقير الذي لا يملك يلاقي من التعنت من هؤلاء ما يفيض عن الصبر، ولا يستطيع الحصول على ما يطلبه إلا بعد مرار طافح، ومعوقات لا قبل لأحد بها. وكأنك تطلب المستحيل.
ونحن في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين لا نملك حتى ميكنة المحاكم، ولم نصل إلى السهولة الإجرائية التي تعمل على تحقيق مقومات العدل، وليس العدل، لكون تحقيقه يتطلب أمورا أخرى تبدأ من المعاونين، مروراً بالنيابة والقضاء، وصولاً إلى المنظومة القانونية التي تحكم الموضوع برمته.
ولكن هل تحقيق هذه الأدوات عصي علينا، وقد حققته دول أحدث من مصر حتى من حيث الوجود؟ مثلاً في قطر الأمور تسير أيسر مما تتخيله العقول المصرية، فهل هناك ما يمنع من أن نحقق هذه الخطوة البسيطة والمهمة في مشوار تحقيق العدالة للجميع؟ فكل محكمة تتطلب عددا بسيط جداً من أجهزة الحاسوب «الكمبيوتر»، وتسهيلاً في بعض الإجراءات الروتينية، والرفق والتعامل بإنسانية مع المتقاضين، فإزالة هذه الحواجز وغيرها لا تتطلب سوى إرادة من الإدارة العليا فقط، يعقبها بعض الإجراءات البسيطة التي قد تقي رداء العدالة مما علق به، ولكننا نتعامل مع الموضوع بتفاهة وكأنه صار أمراً واقعاً، لا مفر منه، ونقول لبعضنا القول المأثور «إنت شايفني هندي، رابط الفيل في العامود».
تم نشر هذا المقال عبر منصة المصري اليوم بتاريخ 19 سبتمبر 2016