صناعة القانون فى مصر بين سلطتين 1 - 3

31 يوليو 2016

من العجيب والمثير للدهشة أن تكون صناعة القانون فى مصر من الصناعات المتأخرة، والتى لا تحظى باهتمام القائمين عليها منذ زمن بعيد، فالمتابع للأمر منذ ثورة يوليو على أقل تقدير سيجد أن هذا الموضوع على الرغم من خطورته ــ ودقته ــ على صالح الدولة والمواطنين على حد سواء به الكثير من المغالطات، أو بمعنى أكثر علمية يبعد كثيرا عما تتطلبه البنية التشريعية السليمة من شرائط وأصول.
وفى بادئ الأمر نؤكد أن أى بنية تشريعية سليمة يجب أن تنطلق أساسا من احتياج المجتمع لإصدار قانون يعالج موضوعا معينا، ويجب أن يصدر هذا القانون وفقا لرؤية مجتمعية حقيقية، وأن يصدر من الجهة صاحبة الاختصاص الأصيل لهذه المهمة وهى البرلمان «على اختلاف تسميته من وقت لآخر، وأن اللجوء لفكرة التشريع الاستثنائى الذى يصدر عن السلطة التنفيذية يجب أن يكون فى أضيق النطق، وباشتراطات دستورية قوامها الضرورة والاستعجال».
ولكن بمتابعة الدساتير والإعلانات الدستورية المصرية منذ قيام ثورة يوليو نجد أن المدونات الدستورية قد أعطت صلاحيات واسعة للسلطة التنفيذية فى إصدار قوانين سواء فى غياب السلطة التشريعية أو فى حالة قيامها، وقد بدأ ذلك تاريخيا فى حدود الحقبة التى تلت ثورة يوليو سنة 1952، منذ صدور الإعلان الدستورى الصادر عن القوات المسلحة بتاريخ 17 يناير لسنة 1953 والذى جاء فى مادته التاسعة أن يتولى مجلس الوزراء سلطة التشريع، ثم تلا ذلك أن تضمنت الدساتير المصرية نصوصا تجيز لرئيس الجمهورية ممارسة مهمة التشريع فى ظل وجود البرلمانات، وليس فقط فى حالة الغياب أو عدم الانعقاد، وقد بدأ ذلك منذ دستور سنة 1956 الذى أجاز فكرة التفويض التشريعى من البرلمان لرئيس الدولة لمدة معينة وفى موضوعات معينة (136 دستور 1956 )، وقد سارت على هذا النهج الدساتير المصرية المتعاقبة حتى دستور مصر لسنة 1971، كل هذا بخلاف ما تبنته هذه الدساتير من سلطات واسعة للسلطة التنفيذية متمثلة فى رئيس الدولة، منها قدرته على حل البرلمان، وإعلان حالة الطوارئ، كل هذا يجعل التشريعات تسير بشكل متوازٍ ما بين السلطة صاحبة الاختصاص الرئيسى وهى البرلمانات، والسلطة التنفيذية.
ثم يأتى الدور الثانى أو الدور السياسى فى سيطرة الحكومات على الكتل النيابية بداخل السلطة التشريعية ذاتها، سواء كان ذلك عن طريق الحزب الحكومى «الحزب الوطنى نموذجا» أو فى البرلمان الحالى ما يسمى بـ«كتلة دعم مصر»، هذا بخلاف السماح لأعضاء السلطة التنفيذية بدخول البرلمان، وهو ما يسهل أمر الاستحواذ على مصير التشريع بداخل البرلمان.
ومن هنا يكون الدور الأول فى أن تأتى الصناعة التشريعية وفقا لإملاءات السلطة التنفيذية، وليس وفقا لاحتياجات الشعب، ولو على أقل التقديرات وفقا ــ نظريا ــ للسلطة التشريعية الممثلة له عن طريق الانتخابات، وبفرض حيادية الانتخابات.
ولما كان الأصل هو أن السياسة التشريعية تعنى مسلكا أو خطة الجهة المختصة بالتشريع نحو تطبيق السياسة العامة العليا بمجالاتها المتنوعة كالسياسية والاقتصادية والاجتماعية من خلال التشريعات التى تضعها. فالسياسة العامة العليا يصعب فرض تطبيقها دون وضعها فى تشريع تتميز قواعده القانونية بخصائص تجعل تطبيق هذه السياسة ملزما، وهذا يعنى أن التشريع المكتوب هو الأداة التى بواسطتها يتم تطبيق السياسة العامة العليا فى مجالات مختلفة، وأن السياسة التشريعية هى فى حقيقتها انعكاس للسياسة العامة العليا، ووجوب أن تكون هذه السياسات العامة تسعى دوما لتحقيق حقوق وحريات المواطنين والحفاظ عليها، وهو ما يعنى أن يكون الهدف الأساسى من التشريع هو ذلك الأمر، ولكن فيما بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير، قد تم الاستحواذ على المقدرات التشريعية بشكل شبه كامل من السلطة التنفيذية، متمثلة فى الإعلانات الدستورية المؤقتة، والتى منحتها مهمة التشريع بشكل كامل، وهو الأمر الذى انعكس على عمل السلطة التشريعية الحالية، والتى انحسر معظم دورها على إقرار ما صدر قبل انعقادها من قرارات بقوانين أصدرها الرئيس المؤقت، والتى قاربت الأربعمائة قرار بقانون أقرها جميعا البرلمان فيما عدا قانون الخدمة المدنية، والتى تقوم السلطة التنفيذية بتعديله ومحاولة تمريره عن طريق كتلتها البرلمانية هذه الأيام، وبعدها لم نر للبرلمان المصرى بصمات تشريعية حقيقية خلال ما يقارب دور انعقاد كامل.
وهذا الأمر بذاته هو ما يجرنا إلى محاولة مناقشة الصياغة التشريعية أو الصناعة القانونية لهذه القرارات بقوانين، ومدى توافقها واختلافها مع الأسس الحقيقية لكيفية صناعة القانون، وهو ما سوف ننجزه فى مقال قادم. تم نشر هذا المقال بموقع جريدة الشروق الإلكترونية بتاريخ 29 يوليو 2016