متوحشة ــ منفلتة ــ ظالمة.. هل من زر لتفكيك الرأسمالية المفرطة؟
ثمانى دقائق و46 ثانية.. هو الزمن الذى استغرقه جورج فلويد، الأمريكى من أصل إفريقى تحت ركبة ضابط الشرطة حتى لفظ أنفاسه الأخيرة. ثم انفجر العالم غضبا لمدة عشرة أيام على إثر حادث هو أبعد ما يكون عن النادر. فهو الـ44 من نوعه فى ولاية مينياپوليس وحدها، ومتكرر فى كل أنحاء الولايات المتحدة.
لماذا أثار هذا الحادث بالذات كل هذا التعاطف مع المظلومين حول العالم على اختلاف قضاياهم؟ لماذا ذكرنا بالسوريين المطرودين من بلادهم، والفلسطينيين تحت الاحتلال الاسرائيلي؟ لماذا ذكّر الأوروبيين بالعنصرية المتصاعدة فى فرنسا وإنجلترا وألمانيا؟
لماذا اليوم، فى قلب جائحة غير مسبوقة؟ لماذا يتوجه العنف والتخريب من أقلية من المتظاهرين ضد ممتلكات الشرطة والمحلات الفاخرة؟
جاءت حادثة فلويد فى لحظة الجائحة والحظر يضرب كل الفقراء وكل من فقدوا أعمالهم، وكل من يعانون من نقص العلاج وغياب الحماية الاجتماعية. ثمانى دقائق و46 ثانية لخصت مظالم النظام العالمى الحالى.
الظلم الاجتماعى ضد السود فى الولايات المتحدة هو أحد أقصى أشكال اللا مساواة فى عالم اليوم، ولكنه ليس الوحيد. لذا صار هتاف «لا سلام مع الظلم» هتافا موحدا بين الغاضبين على جانبى الأطلسى، وأبعد من ذلك.
رأسمالية الكوفيد
فاجأ الكوفيدــ19 الترامبيين والبولسوناريين ومن على شاكلتهم. أولئك المستفيدون من النظام العالمى الحالى والراغبون فى إطالة تلك الاستفادة إلى الأبد، مهما كان الثمن، رافضين ونافين لكل نداءات أصحاب العلم والفكر بأن النظام الحالى غير قابل للاستدامة وتكلفته الإنسانية باهظة. ويحاول أولئك الاستمرار فى التجاهل، ولوم الآخرين سواء كانوا ملونين أو من ذوى الأديان المختلفة أو المهاجرين أو الفقراء الجهلاء. ألم تمر مرور الكرام كل تلك الحرائق التى اجتاحت ثلاث قارات فى العام الماضى، وسرعان ما نسيها الناس؟
اليوم فى مواجهة الجائحة، ظلت كلمة السر غير المنطوقة هى البقاء للأغنى: لذا سرعان ما انتفضت الحكومات تعلن عن دعومات سخية للشركات الكبرى وللبنوك. ففى أمريكا على سبيل المثال، سارعت إدارة ترامب مثلا بإقرار حزمة مساعدات بلغت 6 تريليونات دولار، كانت ثلاث أرباعها من نصيب الشركات الكبرى والبنوك. ولا يختلف الحال فى معظم الدول التى يمكن متابعة أخبارها.
كما تم تفعيل مناعة القطيع كلما كان السبيل إلى ذلك ممكنا: دع الفقراء يموتون على جنبات الطريق إلى العمل، كما أن صفوفهم طويلة لا ينضب مدادها. فعلى سبيل المثال، شهدت صناعة الدواجن فى أمريكا انخفاضا كبيرا فى الطلب (بسبب إغلاق المطاعم والفنادق)، ومع ذلك ظلت المصانع مفتوحة، بكامل طاقتها، حتى تفشى المرض وأصيب خمسة آلاف من العاملين فيها، ومعظمهم من الملونين والمهاجرين، وزاد عدد الموتى.
يربط الكوفيد رغم أنف جميع الناكرين بين الرأسمالية المفرطة وانتهاك البيئة وغياب الحماية والعدالة الاجتماعية.
فأزمة فيروس كورونا هى تجلٍ لأزمة الرأسمالية، من حيث أن الأخيرة هى المسببة لها ومن حيث أن الفيروس كشف عوراتها. فقد توحشت الفيروسات وانتقلت من الحيوان إلى الإنسان بسبب التعدى المستمر للشركات على الغابات والموائل الطبيعية للحيوانات البرية، بحثا عن تعظيم الربح. ومن حيث أن الرأسمالية المنفلتة التى نعيشها لا تمانع أن يدفع ثمن هذا السلوك الأقل قدرة على الدفع، فيموت الأفقر. فى الولايات المتحدة نموذج واضح.
نجد أن الأمريكان من أصل إفريقى أكثر عرضة للموت بسبب الكوفيد من البيض. ففى ولاية لويزيانا، حيث ثلث السكان من السود، إلا أنهم يمثلون 70٪ من الوفيات بسبب الفيروس. وفى مدينة نيو يورك، تبلغ نسبة الوفيات من الفيروس بين السود واللاتين ضعف النسبة بين البيض. لا يرجع ذلك لأسباب چينية مرتبطة بالأعراق. ولكنه الفقر والعوز والظلم الاجتماعى المصاحب لهما. وما يدعو للتفكير هو أن ذلك ليس قسرا على الأمريكان، لكنه منتشر فى أركان العالم الأربعة، وينشر معه الإحباط والغضب.
فلا يستطيع الفقراء تحمل رفاهية البقاء فى المنزل، ولا منازلهم تسعهم إذا ما حظروا أنفسهم. لذا يمرض الأكثر الأفقر ويضحى الأكثر عوزا بحياته من أجل أن يقدم طعاما لمن يعولهم. وكلما كان الإنسان فقيرا، كان من الصعب عليه أن يتحمل تكلفة الرعاية الصحية اللازمة، ومن ثم إذا مرض صار أكثر عرضة للوفاة.
قد يتحمل الناس الظلم طالما يجدون ما يأكلونه وما يسليهم. ولكن إذا ما جاءت الجائحة، فأخذت منهم ذلك، وحياة من يحبون، فلا تنتظر منهم لطفا أو تفهما. وهى أبعد ما يكون عن أن تكون قضية «أقليات».. هى قضية عامة، هى «القضية».
مع تفشى الكورونا، صار ربع القوى العاملة فى أمريكا يطالب بتعويضات البطالة، نتكلم عن أكثر من ثلاثين مليون بنى آدم فقد عمله. وحول العالم تقدر منظمة العمل العالمية أن ما يقرب من 2 مليار بنى آدم معرض لأن يفقد قوت يومه بسبب آثار الكوفيد.
كما تقدر أن عدد ساعات تقدر بـ 300 ألف وظيفة دائمة قد فقدت جراء الكساد العالمى الناتج عن الحظر الضرورى لمواجهة الفيروس.
ويقدر البرنامج العالمى للغذاء أن يتفاقم الجوع بسبب الجائحة. حيث من المتوقع أن يتضاعف عدد من يعانون من الجوع الحاد إلى 265 مليون إنسان بنهاية العام الحالى.
وضع الكوفيدــ19 حياة البشر فى مقابل أرباح الشركات، على نحو سافر وغير مسبوق. ويطرح ذلك أسئلة عن ماذا بعد.
الأزمات واللا مساواة والعنصرية
عادة ما تثير الأزمات الكبرى أسئلة كبرى عن النموذج الحاكم ومدى صلاحيته للزمان الحالى وللمستقبل القريب. انقضى عقدان من القرن الحالى فى تقلبات اقتصادية وبيئية وسياسية، ليسير العالم من سيئ إلى أسوأ. هذه ليست دعوة للتشاؤم، ولكن للتفكر. هل بعد عامين، حين تنحسر الجائحة ــ وسوف تنحسر ــ سيعود العالم إلى ما كان عليه؟
رد فعل الحكومات تجاه الجائحة جاء على شكل 3 موجات: الأولى التنسيق من أجل مواجهة الأزمة الصحية. الثانية من أجل تخفيف آثارها الاجتماعية والاقتصادية، والثالثة سوف تكون إعادة إحياء عجلة الاقتصاد.
يدافع الأغنياء فى الأزمات والأوبئة عن وضعهم بشراسة، كما يلاحظ توماس بيكيتى فى كتابه الجديد، حيث قدم كبار الملاك تبريرات أيديولوجية دفاعا عن ملكياتهم الشاسعة للأراضى وحتى للبشر (العبودية)، خوفا من أسئلة إعادة التوزيع. ولم يغيروا من مواقفهم سوى بسبب النضالات الشعبية والحروب العالمية.
يدرك عموم الناس فى الأزمات أن الاقتصاد ليس قدرا، بل هو بنيان من صنع الإنسان، وأن بوسع الإنسان إعادة تركيبه. ويفتح ذلك أبوابا للأمل وللنضال من أجل اقتصاد ومجتمع أكثر عدلا.
وهنا يشير يانيس فاروفاكيس، الاقتصادى اليسارى ووزير المالية اليونانى الأسبق، إلى وجوب إعادة النظر فى الرأسمالية، وفى دور قطاع التمويل، التفكير فى كيفية عمل الاقتصاد ولصالح من ومن ثمّ فى ضرورة خلق مؤسسات دولية قادرة على إعمال نظام اقتصادى عالمى أكثر عدلا. ولا يقتصر الأمر على اليسار، حيث تنادى مديرة صندوق النقد الدولى، كريستالينا جيورجيڤا، بعالم ما بعد كوفيد «أخضر، أذكى وأكثر عدلا».
ويطالب كلاوس شواب مؤسس منتدى الاقتصاد العالمى (منتدى الشركات والبنوك العملاقة) بأن تنقذ الرأسمالية نفسها بأن يعمل اقتصاد ما بعد الكوفيد على أن يخرج من الأزمة صوب استثمار لا يعتبر الاعتداء على البيئة آثارا جانبية. وعلى أن يعكف المستثمرون على أن يستفيد جميع العاملين من ثماره بشكل عادل، وأن تساهم الثورة الصناعية الرابعة القائمة على التكنولوجيا فى إنتاج السلع العامة (مثل الصحة والبحث العلمى التى تفيد الجميع) وفى حل الأزمات الاجتماعية.
الاستقطاب اليوم على أشده بين من يملكون ويحكمون من ناحية ومن لا يملكون ولا صوت لهم من ناحية أخرى. فإلى أين يصل هؤلاء الذين يمشون فى الشوارع غضبا وهؤلاء الذين يتمنون لو اختفى الغاضبون، كيف ستتلاقى طرقهم؟ يخبرنا التاريخ بأن اللا مساواة طالما جلبت معها العنصرية والطبقية والاستبعاد، وأن الأزمات الاقتصادية والأوبئة طالما مثلت فرصا لتجاوز الأنظمة الرديئة المولدة للا مساواة.
نشر هذا المقال علي موقع الشروق بتاريخ ٥ يونيو ٢٠٢٠