تضاعف الإنفاق الاجتماعي فتضاعف الفقر.. أين الخطأ؟

4 يناير 2020

خلال الأعوام القليلة الماضية، أرادت الحكومة تخفيض نسبة الفقر، وتخفيف الآثار السلبية للبرنامج الحكومي المدعوم من صندوق النقد الدولي. وذلك عن طريق زيادة الدعم الموجه إلى الغذاء وكذلك زيادة حجم الدعم النقدي الموجه إلى الفقراء وزيادة عدد الأسر المستفيدة من برنامجي تكافل وكرامة، حيث أنفقت الحكومة 17,5 مليار جنيها العام الماضي لتضع كل شهر مبلغا بين 323 و450 جنيها، ويزيد المبلغ هذا العام مليارا إضافية كي يصل إلى 3,8 مليون أسرة فقيرة.

بدأ البرنامج عام 2014، وقتها كانت مصر بها 5 مليون جائع بحسب الأرقام الرسمية. ويتركز الفقر والجوع في ريف الصعيد. ومع البرنامج، نشطت أيضا الجمعيات الأهلية، توزع الطعام والملبس، وتساعد في تحسين البنية التحتية.

بعد عامين ونصف، انخفض الفقر في ريف الصعيد إلى 51,6٪ مقابل 56,7٪. والمرجح أن ذلك بفضل البرنامج والنشاط الأهلي. ولكن في المقابل ارتفعت نسبة الفقر في كل المناطق الأخرى في مصر. وزاد عدد الجوعى إلى ٦،٢ مليون مواطن. فالإجراءات الاقتصادية والاجتماعية كانت أسرع وأقسى. ومنذ 2018، أغلب الظن أن نسبة الفقراء زادت مجددا، وإن كان بمعدل أقل من الفترة السابقة.

 

الفقر ظاهرة ديناميكية أي دائمة الحركة، قد تهبط أسرة دون خط الفقر إذا ما أصاب أحد أفرادها مرض مفاجئ، أو إذا فقد عائلها عمله. ثم ترتفع في الأشهر التالية، إذا ما شفا المريض، أو وجد العاطل عملا جديدا.. فلا تصبح فقيرة، ولكنها تبقى على حافة الهاوية، في مخافة وقوع حدث عارض جديد. وإجمالا يقدر البنك الدولي أن نسبة المصريين الذين يعيشون تحت الطبقة الوسطى يبلغ حوالي 60٪ من السكان، أي أنه هناك حوالي 30 مليون نسمة إضافية، تعيش على حافة الفقر، أو من أشباه الفقراء near poor.

ومهما خصصت الدولة من دعم ومعونات، لن تستطيع أن تطعم ستة مليون جائع حتى يشبع، ولن تستطيع دفع معونات مالية لـ33 مليون فقير، كي ترفعهم فوق خط الفقر، وإلى الأبد، ولا 30 مليون آخرين كي تحول دون سقوطهم. حجم موارد الدولة لا تسمح. وإن سمحت ورفعت هذه الملايين، فهذا لن يمنع ملايين جدد من الفقراء من السقوط، فما العمل؟

 ماكينات إنتاج الفقراء

إذا أردنا القضاء على الفقر، يجب القضاء على أسبابه. على قدر ما تبدو تلك العبارة بديهية إلا أنها بعيدة كل البعد عن تفكير صناع القرار. فحتى الآن انصبت جهود مكافحة الفقر على ركيزتين: الأولى هي تشجيع النمو عن طريق تشجيع الاستثمار الخاص (وهو ما يعني في واقع الأمر دعم الربح الذي يذهب إلى المستثمر). والثانية هي زيادة محدودة في الدعم الحكومي مع تحسين استهداف الأسر الفقيرة.

والنتيجة هي عقدان من تصاعد نسب الفقر، سواء ارتفع معدل النمو أو انخفض. ألم يحن الوقت لإعادة نظر؟

في الاقتصاد المصري، هناك أكثر من ماكينة لصناعة الفقر. هناك ماكينة الإقصاء الجغرافي، وهي الماكينة الوحيدة التي تعترف بها الحكومة. في حين أنها تتجاهل ماكينتين هما الأهم في صناعة الفقر: مفرمة العمل المأجور وسوء السياسات الزراعية.

لنبدأ بجغرافيا الفقر والسياسات الزراعية، ونؤجل مسألة العمل المأجور إلى مقال لاحق..

تعلم الحكومة منذ نهاية التسعينيات أن ثلثي الفقراء يتركزون في الريف، وخاصة في الوجه القبلي. تسربت معظم الاستثمارات الحكومية التي رصدت في بداية القرن لتنمية الصعيد إلى ساحل البحر الأحمر. ولم يبق سوى الدعم، والمجهود الأهلي.

لذا، فإن معظم جهود مكافحة الفقر سواء الرسمية أو من المجتمع المدني، توجهت صوب تلك البقعة. كان رش المعونات مهم وفعال، وأدى إلى انخفاض نسبة الفقر في ريف الوجه القبلي إلى 52٪ من السكان. ولا يخفي هذا المتوسط وراءه أن ما زال هناك 12 مليون مصري يقطنون في أفقر 1000 قرية في مصر. منهم 8 مليون عاجزون عن تلبية احتياجاتهم الأساسية من غذاء ومسكن وخلافه، معظمهم في الصعيد.

وإذا كان لطريقة رش "المبيد" ضد الفقر أن تكون أكثر فعالية، فيجب التركيز على الجيوب المكتظة بالفقراء وذلك عن طريق رفع مستوى الخدمات العامة المقدمة بها، وشبكة الطرق الآمنة والمواصلات الرخيصة التي تربطها بالمراكز والمناطق الأكثر تقدما. وتمتاز تلك الطريقة بأنها سريعة الأثر. فهي ذات أثر كبير على خفض نسب الفقر في الصعيد في وقت قصير نسبيا. وقد يعيبها أنها تعتمد على مدى توفر التمويل الحكومي. وما نخشاه يحدث بالفعل، أو يكاد.

بقراءة بيانات الفقر بحسب بحث الدخل والإنفاق الأخير، فإن أهم مراكز تركز الفقر في الريف هم خمس محافظات، أربع منها في الصعيد: 236 قرية في سوهاج (87% من إجمالي القرى في سوهاج، و207 قرية في أسيوط (88٪ من إجمالي القرى في أسيوط)، إضافة إلى 163 قرية في المنيا، و155 قرية في البحيرة، و60 في قنا. ولكي نتبين قلة الموارد التي أتاحتها الحكومة، والتي تعكس ربما قلة الاهتمام، نقارن الخطة بتلك الخريطة الواضحة.

تتبنى الحكومة حاليا مبادرة "حياة كريمة"، وهي الاسم الجديد لبرنامج الـ1000 قرية الذي تبناه الحزب الوطني أيام جمال مبارك، ولكنها أقل طموحا. فهي تبدأ ب145ـ قرية فقط، وتنتظر التمويل الشحيح الآتي من الميزانية العامة (نصف مليار جنيه حتى الآن)، وتفتقر إلى الشفافية، وتعتمد على تنفيذ "مشروعات" لا يعرفها الشعب وغالبا لا يحتاجها، عن طريق الإسناد المباشر. مرة أخرى، المبيد قليل، ويرش في المكان الخطأ.

وكأننا أتينا بالشركة الألمانية لرش المبيد، فلا هي ألمانية، ولا المبيد بالتركيز الكافي. ولكن العيب الأساسي هي أنها لم تقم برش المطبخ، أو المسبب الرئيسي للبلاء: أنها تتجاهل السياسات الزراعية.

السياسات الزراعية الحالية تولد المزيد والمزيد من الفلاحين الفقراء. فنحن نتحدث عن قرى وعن فلاحين، بدون الحديث عن النهوض بصنعتهم الأساسية. فلاحون ينتجون المواد الغذائية لنا ولأوروبا، ومع ذلك يبيتون جوعى. أي نموذج تنموي هذا؟

منذ ثلاثين عاما، تهتم الحكومات المتعاقبة بالاستثمار الكبير في الزراعة، أي دعم الشركات وكبار المستثمرين في القطاع الزراعي، خاصة بغرض التصدير. في حين ترفع الدعم عن مدخلات الزراعة والوقود وقضت عمليا على الإرشاد الزراعي.

عيشة الفلاح وعيشه

يمثل السكان في الريف 57,8٪ من إجمالي سكان مصر، في عام 2017. ويعمل 7 من كل 10 من هؤلاء في الزراعة، سواء بشكل دائم أو لبعض الوقت. العاملون في القطاع الزراعي، وخاصة صغار ملاك الأراضي الزراعية (ممن لا يملكون أي عمل آخر)، والفلاحون الأجراء (باليومية)، هم من أهم العناصر المكونة لشريحة الفقراء. ويمثل هؤلاء الذين يملكون أقل من 3 أفدنة 83٪ من هيكل الملكية للأراضي الزراعية في مصر. ولم تتجاوز دخول العاملين في النشاط الزراعي في الريف- على كثرة عددهم- خط الفقر. حيث بلغ متوسط دخل الأسرة من النشاط الزراعي في الريف يبلغ 6926 جنيه في السنة.. (115,4 جنيه في الشهر للفرد). فقط.

وشهد صغار المزارعين فترة عصيبة منذ 2014، مع تقليص دعم الوقود وتحرير الجنيه، في شكل زيادة أسعار الوقود والمياه والأسمدة والبذور المستوردة، أي ما نسميه مدخلات الإنتاج الزراعي، في حين لم يستطع هؤلاء زيادة أسعار المنتجات التي يبيعونها بالقدر ذاته. كما يعاني الفلاحون من آثار التصحر والتغير المناخي في شكل نقص مياه الري وتدهور التربة الزراعية. ونتيجة لكل ذلك نجد أن الفقر في المحافظات الريفية في وجه بحري قد زاد من 19,7٪ إلى 27,3٪.

نعم، أدى دعم الاستثمار الكبير إلى معدلات معقولة من الاكتفاء الذاتي من الغذاء، لكنه نمط ضعيف التشغيل للأيدي العاملة، يعتمد على الآلات والمدخلات المستوردة وضار بالتربة. كما أفقر الفلاحين وجوعهم.

كيف تنتقل الحكومة من سياسات زراعية تحابي الشركات الزراعية الكبيرة إلى سياسة ترتكز على دعم صغار الفلاحين من أجل زراعة تقوم على تأمين الغذاء الصحي والآمن وبطريقة مواتية للبيئة. وضع تقرير راصد الحقوق الاقتصادية والاجتماعية لعام 2019، والخاص بالحق في الغذاء، خططا وتصورات على المستوى الإقليمي، كما قام الباحث المصري صقر النور بوضع تصور للحالة المصرية، والذي استندت إليه كثيرا في هذا المقال، إلى جانب البيانات الرسمية. هي خطوة عكس الاتجاه السائد وفي الاتجاه الأسلم. كما وضعت أجندة التنمية العالمية 2030، والتي تبنتها مصر مسارا عاما، من الممكن أن يشكل نقطة انطلاق.

الخلاصة، مشكلة الفقر أكبر من أن تعالج بتوزيع الدعم النقدي والعيني- على أهميتهما. ههما يبقيان النافذة الأخيرة لمن تبقى فقيرا بعد اتباع كل السياسات الأخرى، من تشغيل وتعليم وصحة وزراعة. 

أما اليوم، تبتعد مصر أكثر فأكثر عن تحقيق الهدفين الأول والثاني من أهداف التنمية المستدامة بحلول 2030، وهما: هدف القضاء على الفقر المدقع وتقليص عدد الفقراء إلى النصف، وهدف القضاء على الجوع وتحقيق الأمان الغذائي وتحسين التغذية. إذ تخبرنا آخر بيانات متاحة أن مصر تسير في الاتجاه المعاكس لباقي دول العالم. والأرجح هو أن تفشل مصر في تحقيق تعهداتها الدولية في هذا المجال، والأهم تحقيق الرفاه لعموم المصريين، إذا ما استمر تبني نموذج للتنمية غير ودود للفقراء. والريف هو المفتاح الأول للحل.

نشر هذا المقال علي موقع  الشروق  بتاريخ ٣ يناير ٢٠٢٠