كل هذا المعجون!

17 أغسطس 2019

كم من المعجون تضع على فرشاة الأسنان؟ تطالعنا حسناء لؤلؤية الابتسامة في الإعلانات وهي تضع من أنبوب المعجون ملء الفرشاة بطولها وعرضها، ثم تلتقي بعدها فتى أحلامها واثقة في رائحة فمها. ويخبرنا فتى عريض الأكتاف ذو أسنان مصطفة بيضاء في رداء الأطباء الأبيض أن نثق في هذا المعجون أو ذاك. وبعد أن نغرق الفرشاة بالمعجون، تتسرب المواد المسرطنة منه ومن عبواته إلى مياه الصرف التي ينتهي بها الأمر في المحيطات ثم في الأمطار ومن ثم تعود إلى بطوننا. بينما في الحقيقة يعرف أي طبيب أنه يمكن الاستغناء عن المعجون تماما، والاكتفاء بفرشاة نظيفة.

تخلق الإعلانات حاجات لم تكن لتوجد لدينا إذا لم يكن هناك لها إعلان. بل وتجعل منها رغبات ملحة قد تقض مضاجعنا إذا لم نلبيها. إنها قوة الإعلانات.

الأمثلة لا عدد لها ولا حصر. يقدم الفيلم التسجيلي الأمريكي "استغلال" الحاصل على جوائز دولية خدعة تعبئة مياه الشرب في زجاجات بلاستيكية كاستثمار مدر للملايين ومدمر للبيئة. وذلك من خلال عرض دور شركة نستله العالمية في استغلال ينابيع المياه النقية في قرية أمريكية بالمجان، ما أثر على توفر مياه الشرب. الأصل هو أن الماء مورد تجود به الطبيعة على البشر وسائر الكائنات. وأنه أصل الحياة، ومن ثم فالحصول عليه حق. ولذا تحرص الدول على مد المواطنين بالمياه النقية الصالحة للشرب.

تأتي الشركات العالمية العملاقة لتعبئ هذا الماء -هذا الماء نفسه لا غيره- وتتحمل ملايين الدولارات في سبيل الترويج له عبر إعلانات جذابة مغرية ومقنعة أن الماء الذي يحمل اسمها هو الأكثر صحة. وهكذا، في أركان العالم الأربعة، تعمد الشركات إلى التشكيك في صلاحية مياه الصنبور للشرب. ومهما كانت درجة نقاء المياه، لم يعد الناس يشربون من ماء الصنبور في أي مكان عام.

وتنتهي الزجاجات ذات الاستخدام الواحد في البحر حيث تنمو أسماكنا أو في التربة التي من المفترض أن تنمو فيها خضرواتنا وفاكهتنا.

كم من الدراسات نشرت عن أضرار المشروبات الغازية على الإنسان. ولكن في النهاية تتغلب قوة الدعاية والإعلان على العلم. تظل الشركات العملاقة تستنزف موارد المياه النقية حول العالم (خاصة في الدول الفقيرة أو ذات الأنظمة الضعيفة) كي تصنع مشروباتها المضرة، وتصور الشباب السعيد المنطلق وهو يشربها، فكأنها هي سبب السعادة والانطلاق، لا البدانة والأمراض.

 الأًصليون ونظامهم الغذائي

 يبدأ الفيلم التسجيلي "شوك فوق السكاكين" بسرد حكاية الطفل الذي نشأ في مزرعة أهله لتربية المواشي، ليكبر ويصبح باحثا متخصصا في التغذية، وليكتشف من خلال عمله في هيئة الغذاء والدواء الأمريكية نفوذ الشركات العملاقة في مجال صناعة الأغذية في الترويج لنمط استهلاك مضر بالصحة عبر الدعاية والإعلان. بل وفرض ذلك بالقانون وعبر أهم مؤسسة لضمان سلامة الغذاء والدواء في العالم. نمط قائم على الغذاء المصنع من اللحم والحليب والسكريات، عوضا عن الخضروات والفواكه والحبوب.

هكذا نجحت الدعاية والإعلان في تسييد نمط غذاء أمريكي مصطنع حول العالم، وتصويره على أنه نظام طعام الأثرياء والشباب، بدلا من نظم الغذاء الأصلية لشعوب العالم. فكيف يصمد الفول والكشري والخضار المطبوخ أمام وجبات الكومبو؟

كشف فيلم شوك فوق السكاكين أن هيئة الغذاء الأمريكية تصرح بكميات من السكر التي تصرح بها هيئة الغذاء والدواء للأطفال هي أضعاف أضعاف ما يحتاجون إليه. وتسكت هيئات سلامة الغذاء حول العالم أمام الحملات الإعلانية لشركات تصنيع اللحوم. فلا قدرة مالية لديها على شن الحملات لنشر مضار اللحوم المصنعة أي اللانشون -أي لانشون- والهوت دوج والهامبورجر ومرقات الدجاج واللحوم. فهي مسببة لأمراض القلب وللسرطان وتؤثر على وظائف الكلى والكبد.

وللعجب أيضا، ينطبق الأمر نفسه على الألبان ومنتجاتها. نعم، رغم كل تلك الإعلانات التي تحضنا على كثرة شرب الحليب، فإن شرب كوب من الحليب يوميا هو أمر غير صحي! 

ومع انتشار نمط الحياة الأمريكي حول العالم عبر الدعاية والإعلان، زاد الطلب العالمي على المنتجات الحيوانية، ما جعل عملية إنتاج اللحوم والألبان مضرة للبيئة ومؤذية للحيوانات وللإنسان الذي يأكلها.

تتعرض الأبقار لفترات نوم أقل مما تحتاج، كي تنتج المزيد من اللبن الحليب. أو لكي تأكل أكثر مما ينبغي، فيتم استنزاف غطاء الكرة الأرضية من المراعي الخضراء (ومن المياه التي ترويها). ومن أعلاف تحتوي على هرمونات لتزيد كتلة اللحم وكمية الحليب عن معدلاتها الطبيعية. كما يتم حقن الأبقار بالمضادات الحيوية للوقاية ضد الأمراض. فتتسرب تلك المضادات إلى الإنسان كلما شرب الحليب ليكون ضدها مناعة طبيعية، فلا تعود لها نفع إذا مرض. وكذلك الأمر في حالة تربية الدواجن (الهرمونات والمضادات الحيوية). 

مع اندثار النمط الغذائي للأصليين تنتشر أمراض السرطان والقلب والسكري والبدانة. 

لذا فالسؤال الهام الذي تفرضه التغيرات المناخية ويفرضه تفشي أمراض العصر -بينما تطرمخ عليه قوة الدعاية والإعلان... هل من الضروري كل تلك اللحوم؟

المستهلك السيد في العالم السيء

 ومن ناحية أخرى، تمتص اليوم صناعة الدعاية والإعلان مواهب الشباب الموسيقية ومواهب الشعر والسرد، ومواهب التصميم والطاقات الإبداعية. وذلك بما لديها من أموال طائلة تمدها بقدرة فائقة على جذبهم. بدلا من أن يقدم الموسيقي أو المسرحي فنه في دار الأوبرا أو للناس في الساحات والميادين الفنية، تراه يتعاقد مع هذه الشركة أو تلك ليروج منتجاتها، مقابل أموال سريعة.

ويقبل الطلبة الجامعيون على دراسة الدعاية والإعلان بدون أن ينتبهوا لما يمرون به من غسيل للدماغ. تغشيهم الأضواء المبهرة، والعائد المجزي نسبيا، فلا يفكرون نهائيا في القضية التي من أجلها يتم استنزاف مواهبهم. ينفصلون عن المنتج الذين يروجون له ويمتنعون عن التشكيك في صحة المعلومات التي يقدمونها عنه، بل والتساؤل الفلسفي عن أهميته. فالهدف النهائي الذي يستخدم إبداعهم هو خلق المواطن المستهلك الشره قليل الوعي.

يستعير الاقتصادي جلال أمين وصف الفيلسوف الألماني ماركيوزه للمواطن المثالي الذي يخلقه النظام الاقتصادي العالمي، "الإنسان ذو البعد الواحد". ويصفه بأنه "رجل الشارع البسيط محدود الثقافة والتعليم، عادي الذكاء، محدود الطموح إلا فيما يتعلق بما يمكن أن يحوزه من سلع. ترضيه القصة البسيطة غير المعقدة، ويستهويه تتبع أفلام الجريمة وأخبار الفضائح والكوارث ما دامت تحدث لغيره. يحب السياحة والتصوير أمام الأهرامات أو داخل متخف اللوفر، لكن لا صبر له على معرفة التاريخ أو التعمق فيه. يفرح بالسيارة الكبيرة ويقبل أكثر ما يتلقاه عن طريق التليفزيون (قد أضيف اليوم الانترنت) دون أي شك في صحة ما يسمع أو يقرأ".

تأثير ناعم يتسلسل إلينا دون أن ننبته، ويصنع منا ذلك الكائن النهم. ومصمم بحيث يصيب أثره بشكل خاص الشباب، وهو القطاع الأوسع من المستهلكين.  

على الرغم من أن النظرية الاقتصادية الكلاسيكية (السائدة منذ الربع الأخير من القرن العشرين) تقوم على مبدأ سيادة المستهلك، أي حريته المطلقة في شراء ما يرغب من السلع والخدمات، بحسب تقييمه لأسعارها. إلا أن الوضع صار هو تغييب المستهلك وسيادة الاستهلاك.

ويلاحظ الفيلسوف المصري عبد الوهاب المسيري كيف نجحت الحضارة الغربية/ الأمريكية في إنتاج كميات كبيرة متماثلة من السلع، ما أدى إلى انتشار ذلك التماثل الرهيب في أنماط السلوك والتفكير، وانتشار الموضات، وخضوع المستهلك خضوعا مستمرا لحملات الدعاية والإعلان، والهالات التي تحيط بنجوم السينما ورجال السياسة أو "بالبطل" بوجه عام.

ويشرح عبد الوهاب المسيري المصطلح اليساري "التَسَلُع"، في كتابه العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة: وهو أن ينظر الناس إلى السلعة لا باعتبارها نتاج جهد جماعي إنساني، وإنما باعتبارها شيئا مستقلا عن الإنسان. وتتحكم السلع في الإنسان -المنتِج- بدلا من تحكمه فيها. "وفي المجتمعات الاستهلاكية، تصبح السلعة ذات قيمة محورية في حياة الإنسان تتجاوز قيمتها الاقتصادية وغرضها الاستعمالي. فكأن السلعة أصبحت ذات قيمة كامنة فيها، لها حياتها الخاصة، متجاوزة الإنسان واحتياجاته. لكل هذا تصبح السلعة مثل الوثن الذي يعيده الإنسان مركز الكون الكامن في المادة، والهدف الأوحد من الوجود".

 حروب الإعلان والإعلام

 تحارب الحركات الشعبية ومنظمات المجتمع المدني الشركات الدولية من أجل إجبارها على سرد مضار استهلاك السكر على أغلفة عبواتها. كما صار الحال مع شركات السجائر والتبغ، بعد معارك قضائية طويلة.

وجدير بالذكر أن الحليف الأول في تلك المعارك هي وسائل الإعلام المستقلة، التي لولاها لظل الناس يستهلكون الدخان دون أن يربطوا بينه وبين ما يصيبهم من أمراض في الرئة.

وهنا يتضح أهمية الفصل بين الإعلان والإعلام. حيث يصبح الإعلام المستقل سلاحا من شأنه الكشف عن أضرار النظام العالمي والقوة المركزية للشركات وقدرتها على تشكيله وفقا لمصالحها وتعظيم أرباحها.

فكيف الحال إذا كانت منتجات الشركات الكبرى هي قبلة حياة القنوات المرئية والمسموعة؟

في كل مرة يطلع علينا مذيع ليردد اسم الشركة التي تدعم برنامجه، عليه أن يفكر: كيف للصحفي أن ينشر خبرا عن تجاوزات الشركة التي تكفل له مرتبه في آخر كل شهر؟

الأمر يشغل العالم بأسره، خاصة مع انتشار القنوات الخاصة، وتفشي الإعلانات حتى صار المواطن البريطاني يرى في المتوسط 48 إعلانا في اليوم، وتحتل الإعلانات مساحة تقدر بثلث المحتوى في التليفزيون الأسترالي، وترتفع النسبة إلى 40٪ على القنوات الأمريكية، بحسب مقال حديث على موقع الديمقراطية المفتوحة الأمريكي.

صارت الإعلانات هي أهم منتج يشاهده المشاهدون. وفي مصر، لا توجد إحصاءات منشورة، ولكن أي متابع للمسلسلات أو مباريات الكرة أو البرامج الشهيرة، يرى أن النسبة ترتفع في ذروتها إلى 50٪. وفي حين كفلت حرية الإعلام في بعض الدول حق انتقاد الحكومات وسياساتها وكبار السياسيين وفضحهم إذا ما أخطأوا أو فسدوا، صار عمليا من شبه المستحيل أن يفضح الإعلام خطايا الشركات الكبرى الممولة له.

ألا يمكن الرجوع إلى نمط الاشتراكات في تمويل الصحف، والضرائب في تمويل الإعلام العام؟ بحيث يحصل المشاهد على خدمة إعلامية منزهة من الغرض، قادرة على القيام بدورها بتسليط الضوء على أخطاء الشركات ومحاسبتها؟ ولكن إلى ذلك الحين، علينا الانتباه سواء كمبدعين، أو كمشاهدين، ألا نصبح ذلك الإنسان ذا البعد الواحد.

علينا ونحن ونفكر في كيفية إصلاح النظام أن نظل نذكر أنفسنا بالسؤال: هل من الضروري كل هذه الدعاية والإعلانات؟  وهذا أضعف الإيمان.

نشر هذا المقال علي موقع  الشروق  بتاريخ ١٦ اغسطس ٢٠١٩