وجوه مختلفة للحقيقة

16 فبراير 2019

لا أكذب ولكني أتجمل

 

وقف المسؤول الحكومي يخطب في افتتاح استاد المدينة الجديد، يدلل به على إنجازات حكومته الوفيرة. ويتوافق مع كلماته المنغمة إيقاع رتيب نكتشف أنه صادر عن نقاط تتساقط من صنبور (حنفية) صدئ يتناقض مع حداثة المبنى، كفيل بإلقاء الشك في تصريحات المسؤول. هل لهذا المشهد من الفيلم السوري القديم "التقرير" أي دلالات معاصرة؟

أعضاء في البرلمان يشيدون ب"معجزة اقتصادية"، ومسؤولون رفيعون يعددون محاسن الأداء الاقتصادي، ورؤساء مؤسسات دولية يحيون جرأة "الإصلاحات".

بين غياب دور البرلمانات المحلية المنتخبة في الرقابة والمحاسبة وتغييب دور الصحافة في الكشف والتدقيق، يحتاج المرء إلى خبير اقتصادي ملازم له، يدقق ويحلل البيانات الرسمية، كي يفسر التناقض بين ما يتردد على مسامعه ليل نهار وما تحسه الأغلبية في جيوبهم.. ثمة أمر ما لا يسير على ما يرام.

الرسالة المدعمة بالأرقام والمؤشرات هي أن مصر بدأت أزهى عصور التقدم والتنمية. والغد عمل ورفاه ورخاء وفير. ولكن الصورة أكثر تركيبا، وأقل بريقا عما تبدو عليه في خطابات المسؤولين.

فيما يلي ثلاثة أمثلة عن مؤشرات تستخدم للتدليل على صحة الاقتصاد. ظاهرها القوة وباطنها هش. رغم ما يبدو من أنها مؤشرات فنية معقدة، هي ترتبط بقوة الجنيه المصري. أي تمس بشكل مباشر حياة المصريين الذين يعانون من كل زيادة في معدلات التضخم. هي عبارة عن عينة صغيرة من ظاهرة منتشرة. ولكنها كافية كي تدعو الجميع لإعادة التفكير في كيفية وصف الأداء الحكومي.

 

الاستثمار الأجنبي: نوعية رديئة وعائد هارب

تقول التصريحات الرسمية بأن مصر كانت العام الماضي أعلى مستقبِل للاستثمار الأجنبي في أفريقيا. وأن قوانين الاستثمار الجديدة حققت طفرة في الاستثمار الأجنبي المباشر. ولكن لا تقول لنا التصريحات أن الاستثمار الأجنبي انخفض في مصر قليلا في العام الأخير، مقارنة بالعام السابق. ولا أن مستوى الاستثمار خلال الأعوام القليلة الماضية لم يرق بعد لمستويات ما قبل الأزمة المالية العالمية في 2008.

 

ولا تقول لنا التصريحات أن العائد على هذا الاستثمار الأجنبي لا يتم إعادة استثماره داخل مصر، بل تخرج الأرباح من عندنا لتنعم بها دول أخرى. وفي هذا معضلتان للاقتصاد المصري.

أولا: نزيف للعملة الصعبة، بخروج تلك الأرباح بالدولار. وتشير البيانات إلى ارتفاع صافي عوائد (أرباح) الاستثمار الأجنبي التي خرجت من مصر إلى 6.3 مليار دولار، خلال العام الذي انتهى في يونيو2018. وهو رقم يقارب كل ما دخل مصر من استثمار أجنبي مباشر في نفس العام. هذا مثال على ما تقوله لنا أرقام البنك المركزي الرسمية.

وثانيا وهو الأهم: كبح ماكينات خلق الوظائف. فعندما تبني شركة أجنبية محطة كهرباء أو عقارات أو مصنع، تخلق مثلا 100 وظيفة. وحين تحقق ربحا، فمن الأفضل لمصر أن يعاد استثماره، مثلا في بناء مشروع جديد، أو توسع في المصنع، لتخلق عددا جديدا من الوظائف. وهكذا يزداد التوظيف ليستوعب أعداد الشباب المتخرج حديثا (8 من كل عشرة شباب مصري حاصلين على تعليم عال ومتوسط لا يجدون وظيفة). ولكن...

بخروج تلك الأرباح خارج البلاد يظل الأثر على التوظيف محدودا في المائة موظف الأصليين. بل قد يتناقص التوظيف، بعد الاستغناء عن البنائين، مع انتهاء المشروع (إذا ما كان المشروع مقتصرا على التشييد).

وأخيرا، لا تبرر لنا الحكومة لماذا لم تنجح التسهيلات الجديدة في تنويع الاستثمارات الأجنبية، وبقيت مصر -استمرارا للنمط السائد في العقود الماضية- لا تجذب إلا استثمارات في قطاع الغاز والبترول. وهو قطاع يتسم بغياب الشفافية وله أثر شبه معدوم على التوظيف. هل هذا يرجع إلى استمرار الخلل في طبيعة الحوافز المقدمة؟ هل هو نابع من قلة الثقة في الاقتصاد المصري؟ لن تجد في قاعات الاحتفالات مثل هذه الأسئلة تثار أو تناقش.

 

الدين الخارجي: بين الاحتفاء والإخفاء

في المحفل الدولي بمنتجع دافوس، أشاد رئيس الوزراء بأن مصر قامت خلال السنوات الماضية بإنشاء 6 آلاف كيلومتر طرق، فضلاً عن الاستثمارات الحكومية الضخمة في مجالات الإسكان الاجتماعي، ومحطات مياه الشرب والصرف الصحي والكهرباء. ولكن لتلك الإنجازات وجه آخر.

صرنا نحتفي بتمويل تلك المشروعات لا من جيوب المصريين أو الضرائب، ولكن من القروض الخارجية. وهكذا تضاعف نصيب الفرد من تلك القروض خلال السنوات الأربعة الأخيرة، فيولد اليوم كل طفل مصري، محملا بدين خارجي قدره 884 دولار. والأسوأ هو أن على مصر أن تسدد معظمه خلال أعوام قليلة.

تعاني مصر من قلة مواردها من العملة الصعبة، ومن عدم استقرار تلك الموارد. إذ يكفي لحدوث صدمة اقتصادية في مصر حادث إرهابي أو نزاع تجاري بين الصين والولايات المتحدة. وهكذا، قد يترتب على تلك العوامل، التي تخرج عن يد صانع القرار، انهيار عائداتنا الدولارية التي تأتي بالأساس من السياحة ومن قناة السويس..

نشرت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية منذ أيام تحليلا للبيانات الرسمية الصادرة عن البنك المركزي لعام 2018.  يوضح التحليل كيف بلغ الدين الخارجي ثلاثة أضعاف ما قبل الثورة، وكيف يخرج ثلثه على الأقل عن مراقبة البرلمان (تحديا للدستور)، وكيف تفقد الحكومة السيطرة على الاستدانة الخارجية، بعد أن صارت جهات حكومية متفرقة مسؤولة عن نصف الاقتراض الخارجي، وبدون تنسيق كاف. وعلى رأس تلك الجهات البنك المركزي، كما سنرى فيما بعد. للمقارنة، في مطلع القرن الواحد والعشرين، كانت 93٪ من القروض الخارجية طويلة الأجل، وتخضع لجهة واحدة مقترضة، هي الحكومة.

ولعل البنية التحتية للعاصمة الإدارية مثال على استخدام القروض الخارجية، التي لا نعرف شيئا عن شروطها.

وأخيرا، يكشف التحليل خروج 25.5 مليار دولار، في عام واحد، سدادا لأعباء الديون. يعادل هذا المبلغ 441 مليار جنيه، أي أربعة أضعاف ميزانية التعليم، وثمانية أضعاف ميزانية الصحة. ويحتاج إلى دخل أربع "قنوات سويس" لسداده.

الأسئلة واجبة: هل تتم مضاهاة الإنجازات بالثمن الباهظ؟ هل تم استغلال القروض في بناء قدرات قادرة على خلق مصادر مضمونة للعملة الصعبة (مثل التصدير)؟ وهل يوجد برلمان مؤمن بدوره الرقابي وإعلام متعدد الاتجاهات لتحسين شروط وآثار تلك القروض؟

 

الجنيه: أقوى أم أضعف؟

فوجئ المصريون بنزول في الدولار أمام الجنيه. ويعرف كل دارس أن ذلك النزول غير مبرر وغير قابل للاستمرار. لا توجد أي تصريحات رسمية تشير إلى أن عام 2018 كان عاما صعبا على الجنيه المصري. فقد تسببت ظروف الاقتصاد العالمي في خروج الأجانب الذين كانوا يشترون أوراق الدين المصرية (الأموال الساخنة). ولكن البنك المركزي حمى المصريين من وطأة تلك هذه الظروف على المصريين، فلم نشهد انخفاض قيمة الجنيه، متجنبا موجة تضخم جديدة. ولكن البيانات توضح جانبا آخر للحقيقة.

اختار البنك المركزي أن يقترض من الخارج (في الخفاء) ليحمي استقرار الجنيه. لنكن واضحين، هذا الهدف سليم من الناحية الاجتماعية والإنسانية، من أجل حماية مزيد من المصريين من السقوط تحت خط الستر. وهو أيضا سليم اقتصاديا في الحالة المصرية، بعد أن ثبت ضرر التعويم في عام 2016 من الناحية الاقتصادية (زيادة كل من دعم الطاقة، والدين العام، وفاتورة الاستيراد وانهيار الإنفاق على التعليم والصحة لأدنى مستوى في تاريخه). فما هو وجه الاعتراض إذن؟

لم يفصح البنك عن اختياره لعلاج المشكلة -وغالبا لم ينسق مع الحكومة وبالتأكيد لم يناقشه في البرلمان.

مثلا، اختار البنك المركزي أن يقترض من الخارج عن طريق البنوك الحكومية أكثر من ستة مليارات دولار في العام المالي 2018.

المشكلة الأولى: هي تدهور المراكز المالية الخارجية لتلك البنوك خلال سبعة أشهر، لتتحول إلى صافي مدينة للخارج بحوالي مائة مليار جنيه. والثانية: هي أن صانع السياسة النقدية لا يطرح اختيارات مختلفة يتم التوافق الديموقراطي على أفضلها. باختصار، هل تلك أفضل وسيلة لحماية الجنيه؟ وهل يمكن الاستمرار في نفس السياسة خلال العام القادم؟

وهكذا، بعد أن احتفى كل من الصندوق وحكومتنا بحسن السير والسلوك، عقب آخر زيارة لخبرائه في نوفمبر الماضي، فوجئنا بأن الصندوق امتنع عن صرف الشريحة الخامسة من القرض، اعتراضا على الأداء الحكومي. وما كان من محافظ البنك المركزي إلا أن وعد في حوار منشور أن "الجنيه سوف يشهد مزيدا من التقلبات في العام القادم". كمن أراد أن يكحل العين فعماها.

أولا: لأن هذه الجملة هي كلمة السر التي تشغل ماكينة المضاربين. حيث تزدهر السوق السوداء وتنمو أرباحها من التذبذبات في وقت الأزمات. ثانيا: لم نعرف ما أثر التقلبات العالمية المستمرة في 2019 على وضع الاقتصاد، ولا سُبُل العلاج التي تقترحها الحكومة. فالمعضلات لا تناقش -إن نوقشت- إلا خلف أبواب مغلقة.

  

نهاية الفيلم

السياسات الاقتصادية اختيارات، ولكل قرار اقتصادي مستفيدون ومتضررون. لا قرار اقتصادي بلا ثمن. وحين يتبنى صانع القرار اختيارا ما، يكون على معرفة بمن هو المستفيد منه، ومن المضار. والسياسي الشاطر هو من يعظم حجم المستفيدين ويضيق قائمة المتضررين. ثم يروج لاختياره، ويدافع عنه، ليقنع أكبر عدد ممكن من المواطنين، أملا في أن يشفع له القبول العام من أجل بقائه في منصبه.

المشكلة في سياسة "أنا لا أكذب ولكني أتجمل" هي أننا لا نرى إلا أحد أوجه الحقيقة - في أحسن الأحوال. والأخطر هي أننا نتجاهل -بغياب عملية خلق التوافق- أهم عناصر الاستقرار.

مشهد النهاية: خارج الاستاد الجديد، يقف المواطن ذو المَظلمة، وقد تكدست بين يديه أوراق تقرير ضخم ضم مئات المآخذ على الأداء الحكومي، جمعها الرجل خلال رحلة توثيق كي يفهم جوهر مشكلته التي كانت تبدو له شخصية في أول رحلته. مفترضا أن المسألة هي أن المسؤول لا يعلم.

دخل الرجل إلى الاستاد، بعد أن بدأت المباراة الحاشدة. الجمهور متحمس، لأسباب لا علاقة لها بالتقرير. ويجد الرجل أن ما يحمله أهم كثيرا من استكمال المباراة فيدخل الملعب، وسط اعتراض الفريقين، ولهيب حماس المشجعين. تتوقف المباراة ويلتحم الفريقان في عراك عنيف، حتى ينفض المحفل بالقوة. تعود الجماهير لمنازلها محبطة ويأفل السياسي لاعنا الهمجية. ويسقط الرجل صريعا، وسط أوراق الحقيقة المبعثرة.

 

شباك مقترح 1: خارج الاستاد الجديد، يقف المواطن ذو المَظلمة، وقد تكدست بين يديه أوراق تقرير ضخم ضم مئات المآخذ على الأداء الحكومي، جمعها الرجل خلال رحلة توثيق كي يفهم جوهر مشكلته التي كانت تبدو له شخصية في أول رحلته. مفترضا أن المسألة هي أن المسؤول لا يعلم.

 

 

نشر هذا المقال في جريدة الشروق بتاريخ ١٦ فبراير ٢٠١٩