يعمل ويعمل ولا يعول
هو سائق توكتوك فى منتصف الثلاثينيات. يعمل من العاشرة صباحا حتى التاسعة مساءً، سبعة أيام فى الأسبوع، على العربة الصغيرة التى اشتراها منذ ثمانى سنوات. اشتراها بالتقسيط حين أعطاه أبوه نصيبه من مكافأة المعاش التى حصل عليها. حين تتعطل العربة، كما حدث كثيرا خلال السنوات الثلاث الأخيرة، كان يضطر إلى قضاء أيام بالبيت حتى يصلحها. ويعنى هذا أن أسرته لا تجد ما تأكله، إلا من فضل العائلة الممتدة والجيران. لذا فهو عليه أن يعمل باليومية فى أحد مواقع البناء التى أخذت فى الانتشار على الأراضى الزراعية من حوله. على عكس ما قد يعتقد الكثيرون، يمثل هذا الرجل الأغلبية من العاملين ليس فى مصر، وحسب، بل وفى عدد كبير من الدول العربية.
تعددت الظروف والأعمال، ولكن يغلب على معظم الدول العربية شرقا وغربا ــ البحرين وسوريا والمغرب ومصر والعراق ولبنان والسودان وغيرها، ما يسمى بالعمل غير الرسمى: عمالة المنازل – محلية كانت أو أجنبية، الباعة الجائلون، العاملون فى الزراعة أو البناء باليومية، أو حتى عاملين فى القطاع الخاص أو الحكومى من المتعلمين وأبناء الطبقة الوسطى. وذلك بحسب تقرير«العمل غير المهيكل»، الصادر الأسبوع الماضى عن شبكة المنظمات العربية غير الحكومية للتنمية.
وطنى الأكبر
إذا سألت ما العامل المشترك بين مختلف الدول فى الوطن العربى فى القرن الواحد والعشرين؟ لن تكون اللغة العربية.. بل هو وجود أغلبية من الشباب والكبار الذين يعملون أعمالا متقطعة، بلا عقود ولا تأمين صحى أو حماية اجتماعية، مثل المعاشات أو تأمين ضد البطالة. هم الأغلبية. يرصد التقرير المفصل الظاهرة فى ثلاث عشرة دولة عربية، ويحلل البيانات الرسمية فى عدد أكبر، ليخلص إلى أن ستة من كل عشرة فى مصر يعملون بشكل غير رسمى، أو غير مهيكل. وهذا النوع من العمل هو السائد بشكل أو آخر فى كل الدول العربية. فهل هذا أمر حسن أم سيئ؟
ترى الحكومات العربية أن عملا رديئا غير لائق خير من لا عمل. «لم تشهد المجتمعات العربية الثورة الصناعية التى شهدتها أوروبا فى القرن التاسع عشر، والتى كانت قد طورت علاقات العمل بين أصحاب أو أرباب العمل، يملكون وسائل الإنتاج، وبين العمال الذين لا يملكون سوى بيع قوة عملهم مقابل أجر نقدى. ثم جاءت النضالات العمالية لتكتسب لهؤلاء العمال حقوقا فى التنظيم والإضراب والصحة ومعاشات التقاعد وغير ذلك»، بحسب التقرير. ولكن جاءت تلك المكتسبات فى الدول العربية مع حقبة التحرر من الاستعمار، ورافق ذلك بناء الدولة والتصنيع عبر الاستثمار الحكومى. وهكذا جاء تنظيم علاقات العمل بالأساس للقطاع الحكومى والعام.
عبودية القرن الواحد والعشرين
مع حقبة السياسات النيوليبرالية، عجزت الاستثمارات الخاصة عن تعويض انسحاب الدولة عن الاستثمار وخلق الوظائف، وتواكب مع ذلك موجات الهجرة من الريف إلى المدن. وهو أيضا ما حدث فى مجمل الدول النامية حول العالم، بحسب التقرير. وهكذا، تفاقمت البطالة فى مختلف الدول العربية، فى وقت عرفت فيه معظم الدول العربية طفرة فى عدد السكان من الشباب. ثم جاءت الصدمات الاقتصادية العالمية ثم الانتفاضات الشعبية، لتزيد الأمر سوءا. فإلى جانب البطالة، زاد أرباب الأعمال فى استغلالهم لمن يعملون لديهم.
لذا حين نرى فى الإعلانات الملونة على المحور أو على الكوبرى ذلك الشباب الأنيق الذى يعمل فى شركة خاصة، لا ينبغى أن تغيب عن أعيننا خلفية المشهد، الواقع: صفوف لا نهائية من البيوت ذات الطوب الأحمر على جانبى الطريق، هى منبع الظاهرة، تلك المبانى العشوائية التى تضم عاملين وعاملات عشوائيين. فهؤلاء الذين نراهم فى الإعلانات لا يمثلون سوى واحد من كل عشرة مشتغلين.
وهكذا، فى حين ظلت قوانين العمل تغطى فقط تلك الأقلية من المحظوظين الذين حصلوا على فرصة عمل ذات عقد طويل المدى، ظل معظم الآخرين، يعملون، فهم لا يملكون رفاهية البطالة بلا تأمين. ولكنها أعمال متقطعة هشة. والنتيجة أن هناك ما يقرب من نصف العاملين فى بلد مثل مصر، يظلون على الرغم من عملهم فقراء، بحسب منظمة العمل الدولية. يعملون ويعملون ولا يستطيعون إعالة أنفسهم أو أسرهم.
شركة أوبر وسائقو أوبر
انقسم إذن سوق العمل برعاية الدولة، وبتشجيع من البنك الدولى، إلى شق رسمى وشق غير رسمى. إلا أن ذلك وضع غير قابل للاستدامة اجتماعيا، ولا اقتصاديا، إذ «لا يُعترف بالعمال فى الاقتصاد غير الرسمى ولا يتم تسجيلهم أو تنظيمهم أو حمايتهم فى ظل تشريعات العمل والحماية الاجتماعية، وبالتالى لا يتمكنون من التمتع بحقوقهم الأساسية أو ممارستها أو الدفاع عنها»، كما يلحظ المؤلف الرئيس للتقرير الاقتصادى سمير العيطة. ولهذا وجدت منظمة العمل الدولية أن مثالب العمل غير الرسمى أكبر من فوائده. وعملت على وضع القواعد والتوصيات التى من شأنها أن تحسن من وضع العاملين به،ولكن تتجاهلها معظم حكومات الدول العربية.
انظر إلى شركة مثل كريم أو أوبر تتوسع كل منهما وتنتشر عبر العالم خالقة للعمل غير المنظم. من ناحية تكبر الشركة وتحصد أرباحا بالمليارات، نتيجة فتح الأسواق العالمية وتشجيع الاستثمار. وهى تخلق فرص عمل لمئات الآلاف من البشر، ولكن ليس عن طريق التوظيف. هؤلاء السائقون بحسب القانون يعملون لحساب أنفسهم، بلا تأمين صحى أو معاش تقاعد، وليس من حقهم الانضمام إلى نقابة أصحاب التاكسيات، أو تكوين نقابة غيرها للتعبير عن مصالحهم. بل تجدهم أيضا مضطهدين من قبل السلطات على الرغم من أن عملهم ليس إجراميا. وهكذا، نجد مع الوقت أن دخلهم من عملهم يتجه إلى الانخفاض، بل وأن فترة بقاء السائق فى عمله غير دائمة. الأمثلة لن تنتهى. فهل من حلول؟
لا بديل عن تنظيم هؤلاء فى جماعات تعبر عن مصالحهم، مثلما رأينا فى التاريخ الأوروبى، وفى تجارب من الهند ومن أمريكا اللاتينية يرصد التقرير الكثير منها. وهو ما يحتاج وقفة لصانع القرار أمام المشغلين من القطاع الخاص. فعلى عكس الخطاب السائد لدى الحكومة، أن أولئك العاملين غير الرسميين يفضلون العمل لحساب أنفسهم، تشير البيانات إلى أن معظمهم يعملون لدى الغير الذين يستغلون حاجتهم إلى العمل، ولا يعطونهم ما يكفيهم الفاقة. وبالتالى، فإن العلاج الذى يقضى بأن تقدم الدولة لهم قروضا ميسرة كى يبدأوا عملا خاصا، لن يؤثر سوى فى أقلية الأقلية من المستغلين. ويبقى الحل فى تحسين شروط علاقات العمل من أجل إعادة توزيع الدخل، وهو ما سيدفع بدوره إلى رفع النمو. «فإذا زادت حصة شريحة الـ٢٠٪ الأفقر، أو الشرائح الوسطى من الدخل بنسبة واحد فى المائة، فإن الناتج المحلى يزداد على الأقل بنسبة ٠.٤ نقطة مئوية، أى إن الفقراء ومتوسطى الدخل ينفقون أى دولار إضافى يتلقونه وبالتالى يحفزون الاقتصاد، فى حين أن الأغنياء قد يدخرونه فى بنوك خارجية من دون أى فائدة محلية ويحرمون منه الاقتصاد». كان هذا الاقتباس هو نتيجة دراسة لصندوق النقد الدولى، بعد أن تعلم الدرس من صدمات القرن الحادى والعشرين.
كيف تشتعل الثورات؟
لم تكن الثورات العربية وحركات الاحتجاج التى تلتها حول العالم بسبب المتعطلين عن العمل وحسب. ولكن تفجرت فى بلد تلو الآخر بسبب شاب عمره ٢٧ عاما يعمل عملا غير رسمى، فى منطقة مهمشة بتونس. «لم يعرف تنمية تؤمن له عملا يحقق كرامته الإنسانية كما لم يكن عاملا بأجر، ولا عاملا زراعيا كوالده. أى كان رب عمل (أو رائد أعمال) ممن تحفل الأدبيات الاقتصادية بأهمية دوره ودور الشباب فى النمو الاقتصادى. وجاء يأسه وانتحاره نتيجة عملية قمع بالتحديد لكونه عاملا غير رسمى، وأنه يجب إخضاعه للقانون، ما انتهى بمصادرة وسيلة عيشه. هكذا يبدو واضحا أن مواجهة هذا التحدى يصب فى جوهر معالجة قضايا التنمية فى البلدان العربية»، يخلص محرر التقرير. فلا يجب أن ننسى أو نغفل عن مستكبر الشرر.
تم نشر هذا المقال عبر موقع الشروق الإلكتروني بتاريخ 12 مايو 2017