حب لا ينتهى للكيانات الموازية
كان الصحفى على موعد مع أحد موظفى وزارة المالية. اتصل به المصدر ليخبره أن مكان اللقاء سوف يكون فى عمارة فى وسط البلد، بعيدا عن مقر الوزارة فى لاظوغلى. «مقر جديد يسمى المكتب الفنى»، قالها كمن أفشى سرا بصوت منخفض وبخجل. أطلق البدعة قبلها بأعوام قليلة وزير التعاون الدولى آنذاك، يوسف بطرس غالى، حين أسس مكتبا فنيا موازيا يضم فريقا من خريجى الجامعة الأمريكية وكلية الاقتصاد والعلوم السياسية.
لا يخضعون لأى اختبارات قبول ولا يتبع هؤلاء الهيكل الإدارى للوزارة وأجورهم لا تمول من الموازنة العامة للدولة، بل يحصلون على رواتب فلكية، كانت تمول من المنح التى يحصل الوزير عليها لمصر تحت عنوان إصلاح الهيكل الإدارى للدولة.
ثم انتقلت الفكرة إلى وزارة الاقتصاد أيضا حين انتقل إليها الرجل، ومنها إلى سائر الوزارات.
بدت تلك الكيانات الموازية تخطيا للروتين، ولعقبة الأجور المنخفضة التى تقصى أصحاب أفضل تعليم من الدخول إلى الهيكل الإدارى للدولة. فإلام انتهت التجربة بعد عشرين عاما وأكثر؟
فتحت تلك المكاتب بؤرا للمحسوبية، حيث اقتصر دخولها على أولئك الذين يستطيعون الوصول إلى معلومة أن هناك مكتبا فنيا تحت التكوين، وهم غالبا أبناء المسئولين وأقاربهم. كما فتحت بابا للإنفاق العام بعيدا عن محكم الرقابة الإدارية أو المالية، حيث تميزت تلك المرتبات السخية بأنها لا تخضع لجهاز التنظيم والإدارة. وهو ما فاقم التفاوت بين الأجور إلى أكثر من مائة ضعف بين أصحاب الحظوة والموظفين العاديين.
ولكن أسوأ ما فى الأمر أن يوسف بطرس غالى صار نمط تفكير سائدا.
إذا ما اصطدم صانع القرار بعقبات أو عثرات فى مؤسسة حكومية ما، لا يعالجها، بل يلقى هذه المؤسسة ــ بمشكلاتها ــ بجانب الحيط، ويبنى مؤسسة جديدة موازية. وتستمر القديمة على علاتها تستنزف المال العام، فى مرتبات ومصاريف تشغيل واستثمارات وقد تقترض من أجل أن تغطى تلك المصروفات، ثم يكون على المواطنين أن يسدوا تلك القروض من جيوبهم، وفوائدها الباهظة، من الموازنة العامة للدولة، بدلا من إنفاقها على أولويات اجتماعية يضحون بها رغم أنوفهم. ثم عليهم أن يتحملوا تكاليف جديدة أيضا. لأن مسئولا قرر أن يخلق كيانا مواز جديد.
ماسبيرو فى مواجهة بدائل رسمية جديدة
هذا ما يبدو أنه تكرر فى حالة ماسبيرو وعدد من المشروعات الإعلامية الجديدة الخاصة فى مصر.
لا توجد أى معلومات رسمية موثقة عن هياكل ملكية الشركات المالكة لعدد من القنوات الخاصة. وهى أحد التجليات لانعدام الشفافية الذى يسود الساحة الإعلامية المصرية. إلا أن هناك بعض المعلومات المنشورة هنا وهناك فى عدد من المواقع الإعلامية تشير إلى علاقة أجهزة الدولة بتلك القنوات والمنافذ الإعلامية. ولم تنشر أى جهة رسمية تكذيبا لأى من تلك التقارير. وتتوازى مع تلك الأنباء تغييرات فى السياسات التحريرية لتلك المنافذ، لتصبح أقرب إلى تبنى الخطاب الحكومى.
أما عن ماسبيرو، فتلك هى قصتها فى كبسولة: تضخمت الهيئة العامة للإذاعة والتليفزيون على مدى سنوات حكم مبارك، وخاصة الوظائف الإدارية، والتى كانت دائما ما توفر فرص عمل لا لزوم لها إلى الأقل كفاءة، عديمى الموهبة من أبناء المحاسيب، أو عائلات العاملين بالهيئة. وفى المقابل، تضمن التصويت من تلك الكتلة فى دائرة هامة من دوائر القاهرة (لزوم تسهيل التزوير). وهكذا، كان ماسبيرو عشية يناير 2011 يضم 5000 مذيع ومعد وفنى، بينما يبلغ عدد الموظفين الإداريين 24 ألفا.
وخلال السنوات العشر الأخيرة من حكم مبارك، بدأت القنوات الخاصة فى الظهور، وكانت نقطة قوتها هى مساحة أوسع من حرية التعبير نجحت فى انتزاعها. واعتمدت تلك القنوات وغيرها فى الدول العربية، على الكوادر الفنية من أبناء ماسبيرو.
بعد تعثر كبير فى مواكبة تلك الحرية، وفشل فى تسخير الموارد التى يملكها الجهاز من أجل تقديم خدمة إعلامية متميزة عالية الجودة، كان أبرز ما تفتقت عنه قريحة القائمين على المكان هو خلق كيان صغير مواز، داخل الكيان العملاق، على غرار كيانات بطرس غالى، وهى تجربة البيت بيتك. وهى تجربة، وإن أعادت بعض المشاهدين إلى شاشة التليفزيون الرسمى، إلا أنها فاحت بالفساد وإهدار المال العام. كما لم تنجح فى شد باقى البرامج إلى نفس المستوى، بل صارت هناك أقلية محظوظة من العاملين، ذوى الحظوة والرواتب المرتفعة تعمل بالبرنامج مقابل أغلبية تقبع على جانبى أروقة المبنى المتعرجة المظلمة.
هكذا هى دائما نتيجة الكيانات الموازية. على عكس تجارب الإصلاح الإدارى التى يكون عمادها اجتذاب أفضل الكوادر عن طريق اختبار التحاق صعب وشامل وهيكل أجور عادل.
حين جاءت الثورة، تبدت سوءات ماسبيرو بكل قبحها، كما انفتح الحوار حول سبل الإصلاح. تعددت المبادرات وتقاطعت، من داخل ماسبيرو ومن خارجه، وبالاستعانة بأفضل خبراء مصر والعالم فى إعلام الخدمة العامة. وكم كانت سبل الإصلاح واضحة وسهلة. ولم يكن من بينها أبدا، إبقاء ماسبيرو على عطنه وبناء جهاز أو أجهزة إعلامية جديدة.
مرت دول كثيرة فى الغرب وفى آسيا وأستراليا بمرحلة واجه فيها إعلام الخدمة العامة منافسة القطاع الخاص اللاهث وراء الربح. وانجر خلفه فى انتاج برامج متشابهة لا علاقة لها بالمعلومة ولا بالتثقيف. ودائما ما تكون الإجابة فى البحث عن إصلاح المؤسسة القائمة. فشل أحيانا ونجح أحيانا، لكن ظل التوافق المجتمعى حول أن هذه المؤسسات لا غنى عنها.
وذلك ببساطة لأن التجربة أثبتت أنها تضرب المثل للقطاع الخاص فيما يتعلق بارتفاع الجودة المبهر وتنوع المحتوى بين ما هو للأسرة، وما هو للترفيه وما هو للأطفال، وما هو عن جميع عناصر سكان البلد وعن السكان الآخرين للكوكب. أى أن مؤسسات إعلام الخدمة العامة صارت فى زمن العولمة تلهث وراء التمويل، فى حين يلهث الإعلام الخاص كى يواكب المستوى الرفيع لتلك المؤسسات.
وفى كل دول العالم المتقدم، ظلت مؤسسات إعلام الخدمة العامة هى الأكثر مشاهدة، على الرغم من تحديات كبيرة تخلقها مواقع التواصل الاجتماعى وخاصة الفيسبوك.
إذ تبحث تلك المؤسسات عن وسائل لتقديم الأخبار فى كبسولات مقبولة للشباب ولكنها ظلت مستحوذة على ثقة المشاهد، ووفائه. فعلى الرغم من كل الانتقادات الموجهة إلى الـ«بى بى سى»، تظل هى مصدر الأخبار الأول لدى المواطنين البريطانيين، وبمسافة واسعة بينها وبين منافسيها. ولا يختلف الأمر فى اليابان وكل دول أوروبا، وحتى فى أوروبا الشرقية، أو فى كوريا الجنوبية، مثلا، حيث تبلغ مشاهدة الأخبار على «القناة الرسمية» ثلاثة أضعاف أقرب منافس لها بحسب دراسة على موقع مؤسسة رويترز التابع لجامعة أوكسفورد البريطانية. ويقف إعلام الخدمة العامة فى تونس فى موقف أقرب لتلك الظاهرة منه إلى الحالة المصرية المتردية، بفضل ثورة الرابع عشر من يناير.
فاقد الشىء لا يعطيه
فى مصر، كان الحلم هو تحويل ماسبيرو وأجهزته إلى واحدة من تلك المؤسسات. ولكن مع تراجع المد الثورى، خفتت أصوات الإصلاح، بل اشتدت الرقابة على التعبير. وبدت الحاجة من جانب مصر الرسمية إلى تسييد خطاب معين مساند للسياسات الحكومية. لهذا توارى تماما أى كلام عن إصلاح ماسبيرو. لأنه غير صالح لهذه المهمة، ففاقد الشىء لا يعطيه، وماسبيرو فاقد لثقة المشاهدين.
ومن ثم كانت ضرورة البحث عن واجهات جديدة لامعة تهدف إلى أن تكون مصادر متعددة لإذاعة وجه واحد لا غير لحقائق السياسة والاقتصاد المركبة بطبيعتها.
لم يولد الكيان الموازى من أجل تخطى عقبات ماسبيرو أو من أجل نفض ملامح الدولة السلطوية التى لا تحول فقط دون برامج سياسية رفيعة المحتوى، بل وتفشل حتى فى إنتاج برامج جيدة للمطبخ. نشأ الكيان الموازى الجديد هذه المرة من أجل إعادة نسخ كل ما يمقته المشاهد فى ماسبيرو، ولكن باسم جديد، وبوجوه غير مستهلكة. وفى هذا تستخدم على ما يبدو ــ كعادة الكيانات الموازية ــ أموالا عامة غير مرصودة.
يبقى ماسبيرو بعامليه الذين تجاوزوا بعد الثورة ثلاثين ألفا (أجل زاد أثر المحسوبية بعد الثورة)، وبكل نفقاته الجارية والاستثمارية، وبالفساد والمحسوبية الذين عانى منهما سنوات طوال دون علاج. والأهم أنه يبقى بلا محتوى رفيع ولا بالطبع مشاهدين.
ومع إهدار المال العام، أهدرت قيم إعلام الخدمة العامة، وهى الخسارة الأكبر فى رأيى. ولنا فى كرة القدم مثال يوضح المعنى ويبرزه.
كان كأس الأمم الأفريقية الحدث الأهم لدى المصريين خلال الأشهر القليلة الماضية، وتحلق الناس حول أجهزة التليفزيون حالما توفر ذلك.
نصبت المنصات فى الاستديوهات التحليلية فى كل القنوات الخاصة والرسمية. الجميع يحلل هذه الركلة أو تلك، وهى أمور هامة جدا، لا جدال. ولكن فى إعلام الخدمة العامة، كانت تلك ستعد فرصة ذهبية كى يعرف المشاهدون عن البلد المضيف، وعن ظروف بناء الاستاد، وعن مجازر الغابات التى قررت الحكومة هناك عملها كى تبنيه، وعن المشتركات بين حياة المصريين وحياة أحد الدول الأفريقية فى شكل تقارير إخبارية قصيرة لا تتجاوز دقيقتين.
وكذلك قد ينتهز الطاقم الإعلامى المسافر الفرصة كى ينتج فيلما عن الحياة البرية فى الغابات الشاسعة، وتقارير إخبارية عن أهم أحداث هذا البلد السياسية أو الاقتصادية. تقديم المعلومة والتسلية والتثقيف: هذا ما يضعه أمام عينه كل عامل فى مجال إعلام الخدمة العامة.
لم يعد ماسبيرو قادرا على القيام بهذا الدور، ولن تريد أن تلعبه أيضا الكيانات الموازية. وذلك لأكثر من سبب، أهمها أن الإعلام المهنى رفيع المستوى ليس مطلوبا، بل المطلوب هو منابر متعددة تردد نفس الرسائل الإعلامية الموجهة. هذا والسبوبة.
تم نشر هذا المقال عبر موقع الشروق الإلكتروني بتاريخ 17 مارس 2017