ثلاثة حلول لزيادة الدخول

6 يناير 2017

نحن على أبواب أعوام عجاف، قد تمتد إلى ثلاثة أعوام، بلا نمو يذكر. وإذا تحقق نمو ما فلن يكون إلا من نوع النمو كثيف رأس المال، قليل العمالة، وخالقٍ لوظائف غير لائقة. وقد اختارت الحكومة تطبيق برنامج تقشفى لسد عجز الموازنة، مع عدم فرض ضرائب على الأغنياء ليصاحب خطة تعويم الجنيه اللازمة للاقتراض من صندوق الدولى وغيره من المقرضين. ويفور الناس ويثور السؤال: «كيف يمكن أن يتحمل المصريون هذا الثمن الباهظ للسياسات الاقتصادية؟».

فى أيام شبيهة من عام 2003، كان محمود عباس الإدارى بإحدى شركات القطاع العام، قد اختار المعاش المبكر، أملا فى أن توفر المكافأة خميرة يبدأ بها مشروعا استثماريا صغيرا يعوضه عن قلة دخله، الذى توقف لسنوات عن تغطية متطلبات أسرته الصغيرة. كان الموظف ذا خبرة عشرين عاما فى مجاله. بصفته مديرا نزيها ومتفانيا لسنوات، اشترى الرجل سيارة أجرة بالتقسيط كى تساعده على زيادة دخله خارج أوقات العمل. ولم تغط زيادة الدخل على المهانة التى كان يشعر بها حين يعامل كسائق تاكسى.
ثم جاء التضخم المصاحب لتعويم الجنيه فى ذلك العام، متواكبا مع المعاش المبكر، ليخسف بمكافأة نهاية الخدمة إلى النصف.
بعدها بسنوات ثلاث، كان عليه أن يتعامل مع وضعه كسائق تاكسى فقط، مجردا من لقب مدير، ثم كان عليه أن يقاوم أثر رفع أسعار الكهرباء والبنزين والسولار، ويبقى على ما تبقى من ملامح الطبقة الوسطى. «إذا ما عجزت عن توفير مزيل العرق لأبنائى الجامعيين، لن أتورع عن ارتكاب جريمة قتل»، هكذا سمعته يتوعد.

لم يقتل محمود أحدا، ولكنه مات كمدا بعدها بعامين.

ضربنى وبكى

ما يصاحب التعويم فى 2016 هو أكثر مأساوية. حيث طالب المستثمرون وضغطوا على الحكومة من أجل تحرير الجنيه، وحين نفذت طلبهم هرعوا إليها يتباكون من آثاره عليهم، على طريقة ضربنى وبكى وسبقنى واشتكى.
منذ عزمت على تعويم الجنيه أمام الدولار، راحت تشاور البنوك التجارية وبنوك الاستثمار، حاملى أوراق الدين الحكومية والتى تقل قيمتها الفعلية جراء التعويم، كى تعوضهم عن خسائرهم المحاسبية (على الرغم من أن هذا التعويض عن المخاطر هو دور سعر الفائدة والذى تتحمل بالفعل الحكومة مئات المليارات لسداده كل عام). كما يضغط المستثمرون على البنوك عن طريق مناشدة الرئيس ــ وإنفاق مئات الآلاف من الجنيهات فى شكل إعلانات فى الجرائد الرسمية، وفى القنوات الخاصة لمزيد من الضغط ــ كى يتم تعويض خسائرهم الناتجة عن التعويم. وكالعادة سوف يتم تعويضهم من جيوبنا، جيوب الملايين من الموظفين دافعى الضرائب.

فى الواقع، تغيب أى آليات يمكن للشعب أن يتبعها كى يسمع صوته لحكامه. فماذا فعلت الحكومة إزاء عشرات الملايين الذين سوف يقل ما فى جيوبهم ــ الكافى بالكاد للمأكل والتعليم وبعض من ملامح الطبقة الوسطى يعزون به أنفسهم ــ بين عشية وضحاها بمقدار الثلث إلى النصف؟ تقدر دراسة للدكتورة هبة الليثى أن ارتفاعا فى مستوى الأسعار يبلغ 15٪ من شأنه أن يرفع نسبة الفقراء إلى 35٪ من المصريين. هؤلاء، وغيرهم ملايين كثر، لا شىء سوف يعوض خسارتهم.

كيف يمكنهم سياسيا أن يتقبلوا هذا الوضع؟

كيف يمكن تقبل انكشاف الملايين من المستورين بالكاد أمام ذل السقوط؟

قد تبدو الإجابة البديهية هى زيادة الأجور لمواكبة الأسعار. ولكنى لا أحبذ ــ مؤقتا ــ زيادة الأجور النقدية ــ مثل العلاوة، المسكن التقليدى الذى تلجأ إليه الحكومة من أيام مبارك. لأن العلاوة النقدية، وإن كانت تشترى الاستقرار (نسبيا ومؤقتا، كما ينبغى لنا أن نتعلم من التجربة المباركية) إلا أنها تؤدى إلى مزيد من التضخم (أيضا كما رأينا من التجربة المباركية). وحين يكون معدل التضخم بالفعل فى حدود العشرين بالمائة، يصبح السؤال الأفضل: ما هى وسائل الزيادة فى الدخل الأقل أثرا على التضخم؟ يقترح هذا المقال حزمة من ثلاثة إجراءات، الأفضل أن تكون بالتوازى، لأن كلا منها يستهدف شريحة بعينها من العاملين بأجر.

1ــ خفض الضرائب على الدخول الدنيا:

تحتاج الدخول الدنيا إلى مزيد من المال فى جيوبها كى تغطى إنفاقها الأساسى. واليوم، منذ عام 2013، يفترض القانون ألا يدفع ضرائب كل من يتقاضى مرتبا شهريا يقل عن 1200 جنيه. والمقترح أن يزيد الحد الأدنى للإعفاء الضريبى إلى القدر الذى يساويه هذا المبلغ بأسعار 2017. هذا من شأنه أن يؤثر على حجم الإيرادات الضريبية، لكن قد يعوضه بسهولة التطبيق السليم لقانون الضريبة العقارية، الذى تخاف الحكومة من تطبيقه، على الرغم من إقراره منذ ثلاثة أعوام، حتى لا تغضب أصحاب القصور والفيلات والمنشآت الإدارية والسياحية الفخيمة. أو تشديد تطبيق ضريبة الدخل على المهن الحرة، وهى أحد أكبر شرائح المتهربين من دفع الضريبة.

2ــ تقليل عدد ساعات العمل:

يعمل المصريون فى المتوسط نحو 53 ساعة فى الأسبوع. فى حين يقول القانون إن عدد ساعات العمل فى الأسبوع أربعين ساعة فقط. ويدل ذلك الفارق بين الواقع والقانون على تدنى الأجور، مما يدفع العاملين بأجر إلى مزيد من العمل لتغطية نفقاتهم. فإذا كانت الظروف لا تسمح حاليا بزيادة الأجور النقدية، فإن الطبقة الوسطى قد ترضى بنقص فى ساعات العمل كبديل. وهى وإن صارت شريحة صغيرة، لا تتجاوز 6% بالمعايير التى حددها تقرير الثروة الذى ينشره بنك كريدى سويس، إلا أنها عامل مؤثر فى الاستقرار الاجتماعى.

فى حين أن الطبقة الفقيرة وهى الشريحة الأكبر من الشعب المصرى، بحسب بيانات الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء، لا تملك رفاهية الاختيار بين العمل والفراغ. لذلك فهذا الحل قد يعنى أنها تعمل المزيد من العمل الإضافى بعد ساعات العمل الرسمية. أما الأغلبية العظمى من الشعب، أولئك الذين لا يحظون بوظائف ذات دخل منتظم، على الحكومة أن تحسن من ظروف معيشتهم بأن تلجأ إلى الأداة الثالثة.

3 ــ الدعم المعمم الشامل Universal:

المقصود بالدعم المعمم الدعم الذى يتلقاه جميع المصريين بلا تمييز، أى الدعم المتاح للجميع. مثل الدعم النقدى الذى يمنح لكل الأسر بلا تمييز فى معظم الدول الأوروبية. وأفضل صور هذا الدعم فى الحالة المصرية، هو إتاحة التعليم والصحة المجانية إلى جميع المصريين. أى إعادة توجيه جل الموارد المخصصة إلى الدعم إلى زيادة الإنفاق على التعليم والصحة ورفع جودتهما، بحيث تستطيع الأسر المصرية أن تحرر جزءا من دخلها والذى تضطر حاليا إلى توجيهه إلى الدروس الخصوصية وغيرها من نفقات التعليم. وبذلك تستطيع أن تنفقه على بنود أخرى. نحن نتحدث عن عجز سنوى ضخم فى التعليم الحكومى، يضطر المصريون إلى سده بدلا عن الحكومة، حيث توجه الأسرة فى مختلف أقاليم الريف (مناطق تركز الفقراء) 80٪ من ميزانيتها للتعليم على تغطية مصاريف التعليم الحكومى و60٪ فى الحضر. وهو التعليم الذى من المفترض أن يكون مجانيا بحسب الدستور. والباقى يذهب للدروس الخصوصية وهى أيضا سداد لفاتورة أجور المدرسين عوضا عن الحكومة.

فإذا تحملت الدولة أعباءها كما ينبغى لها، فإن ذلك من شأنه أن يوفر 9.2٪ من متوسط إنفاق الأسرة، هى النسبة التى تتحملها الأسرة المصرية فى المتوسط للإنفاق على التعليم. وكذلك الأمر فى حالة الصحة، والتى تكلف الأسرة المصرية 10٪ من إجمالى إنفاقها. وهكذا يكون مجموع التوفير نحو 20٪، سوف يصبح متاحا لعموم المصريين، دون أى علاوة.

هذه الأداة مفيدة لكل الأسر، لكن المستفيد الأكبر منها بالأساس هم الطبقات الأفقر من المستفيدين من الخدمات العامة للتعليم والصحة، وخاصة العاملين باليومية، أى العمالة غير المنتظمة، وهى تشكل نحو نصف القوة العاملة فى مصر، كما أنها الفئة الأفقر من العاملين بأجر، ويتميز عملها بعدم الانتظام وحالها بالهشاشة intermittent and vulnerable jobs.

ثلاث أدوات إذن، كل منها تستهدف شريحة من المتضررين من تحرير الدولار أمام الجنيه، هم أغلبية المصريين من العاملين بأجر، أكبر المضارين من غلاء المعيشة. وتمتاز بأنها أدوات محدودة الأثر على كل من التضخم وعجز الموازنة. والهدف، هو إنعاش الطلب الكلى، المسبب الرئيسى للنمو الاقتصادى فى مصر، وذلك عن طريق تحفيز طلب الفئات الأقل دخلا. إضافة إلى تحقيق قدر بسيط من العدالة فى توزيع الآثار السلبية للبرنامج القاسى اجتماعيا الذى تطبقه الحكومة.

هى ليست بأى حال سياسات جذرية لتحقيق مساواة أفضل فى توزيع الدخول، على الرغم من أن ذلك مطلوب وآن أوانه، حتى نطق محذرا البنك والصندوق الدوليان. ولكنها مجرد إشارة أن الحكومة ليست مغيبة تماما. هى مواءمة سياسية بسيطة بصفتها حكومة تمثل «أقلية من المترفين فى بحر من المعدمين». كما أنها أداة ضرورية لدفع الاقتصاد إلى رفع سريع وأقل كلفة لمعدلات النمو.

تم نشر هذا المقال عبر موقع الشروق بتاريخ 6 يناير 2017