إنى أرى عشرين ديناصورًا
كان الوزير الهمام يحلم بتحقيق تقدم سريع فى مجال الصناعة. وكان يرى أن التصدير هو الحل. ولكنه لم يكن يستلهم تجارب التصنيع الآسيوية أو اللاتينية الناجحة، بل كان يأمل فى طريق مختصر..كانت تجربته الشخصية هى ملهمته. فقد حقق الابن لرجل عصامى ما لم يحققه الأب من ثروة ونمو فى حجم الأعمال.. وصل الابن بمصنع الأسرة إلى العالمية. نشأ الأب فى أحضان تجربة طلعت حرب والتى بنيت على محاربة الاحتلال عن طريق التمصير والتصنيع. شاهد عن كثب تجربة التصنيع فى الخمسينيات والستينيات، حين توسعت الدولة فى إنشاء وتحديث المصانع، وتعميق الصناعة عن طريق تشجيع المنتج المحلى. ثم أنشأ مصنعه الخاص فى السبعينيات، حين توقفت مصانع الدولة عن التوسع، نتيجة سياسات معادية للتعميق الصناعى.عبر تراكم الخبرات فى التصنيع وروح المغامرة، نجح مصنع الأب وكبر يوما بعد يوم، وبنى سمعة جيدة لمنتجاته الغذائية المحلية، والتى اعتمدت على شراء ما تنتجه الأرض المصرية وتصنيعه وتغليفه. كبرت الشركة. وكما يقال: «احلوَّت وطلبت الأكيلة».
مع سياسات تشجيع الاستثمار الأجنبى فى التسعينيات، لفتت الشركة المحلية الصاعدة نظر شركة عالمية عملاقة. قامت سياسات تشجيع الاستثمار الأجنبى منذ السبعينيات على التشجيع الأعمى، ثم مزيد من التشجيع الأعمى. حيث أى استثمار أجنبى جيد ومفيد وبالتالى يجب أن يحظى بالكثير من الحوافز. وعليه، جاء القليل من رءوس الأموال الأجنبية غير المغامرة، والتى لا تعنى كثيرا بريادة الأعمال أو المخاطرة. جاء لينتقى ما هو قائم وناجح وكبير بالفعل. سواء كان من شركات القطاع العام أو الخاص. وهكذا، استحوذت شركة عالمية على شركة الأب والتى انتقلت إدارتها إلى الابن العائد من دراسته بالخارج.
صار الابن النابه رئيسا للفرع المحلى للشركة العالمية، وهى نفس الشركة التى ورثها عن أبيه، ولكن صارت منتجاتها تحمل العلامة التجارية للشركة العملاقة، فتزيدها جاذبية لدى المستهلك الذى صار يشاهد الإعلانات المكثفة التى تروج لتلك المنتجات. وما لبث الابن أن صار شريكا فى الفرع الإقليمى للشركة العالمية وعضوا فى جمعية غير حكومية دولية لحماية مصالح الشركات العالمية.
فخ التنمية
هكذا، كبر حلم الابن بعد أن ذاق الأرباح العملاقة (هى فى أغلبها ريع، أى ربح بدون أن يقابله مخاطرة أو غير ناتج عن اختراع تقنيات صناعية محدثة). وقد تحولت الشركة إلى استيراد معظم المدخلات لتصنيع وترويج المنتجات التى تحمل اسم الشركة العالمية.حلم الابن الذى صار وزيرا أن يخلق عشرين أو ثلاثين ديناصورا محليا، عن طريق ربطهم بسلاسل الإنتاج العالمية التى تسيطر على التجارة الدولية ويسيطر عليها عدد محدود من الشركات العملاقة. واعتقد أن هذا كفيل بأن يقود إلى تحديث الصناعة المصرية. ولكن شتان الفرق بين هدف تراكم الأرباح وهدف تعميق الصناعة. فقد نجح هو وباقى الديناصورات فى تحقيق الأول بينما فشلت عملية التحديث والتعميق الصناعى فشلا ذريعا.
اليوم، بعد أن حصدت تلك الديناصورات المحلية مئات المليارات من الجنيهات من دعم الحكومة السخى، فى شكل أراض وقروض بنكية وإعفاءات ضريبية وجمركية وطاقة أرخص من السعودية، نجد أن نصيب الصناعة من الناتج المحلى فى تراجع، وارتفع مكون الواردات فى المنتج المحلى، وتضاءل عدد العاملين فى القطاع الصناعى كنسبة من إجمالى الأيدى العاملة. بل صار النمو الصناعى سالبا أو قرب ذلك. ولم يفلح البلد لا فى أن يصبح حلقة مهمة فى سلاسل الإنتاج العالمية، ولا أن يغرق سوقه المحلية بمنتجات محلية ذات جودة عالية. وظل العجز فى الميزان التجارى يزيد اتساعا، مع كل اتفاقات التحرير التجارى الدولى والإقليمى التى وقع عليها البلد. باختصار، وقعت البلد فى فخ.
وجدت منظمة «مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية»، أن هذا الفخ قد اتسع ليضم الجزء الأكبر من الدول الساعية للتنمية خلال العقود الثلاثة الماضية. فقد تضاءل احتمال أن تخرج أى دولة نامية من نادى الدول متوسطة الدخل لتنضم إلى نادى الدول متقدمة عالية الدخل. ويمكن تفسير ذلك إلى حد كبير بالفشل فى تصميم السياسات الصناعية المناسبة.
تتحدث منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية عن التصنيع الصديق للفقراء (وخاصة ذلك الذى يقوم على الصناعات الغذائية) والتصنيع كثيف العمالة خاصة فى الصناعات التى تخلق تشابكات خلفية وأمامية (مثل إنتاج الغزل من القطن، ثم إنتاج النسيج من الغزول)، كمراحل مهمة لتحقيق التنمية الصناعية، مشددة على أن آليات ريادة الأعمال (أى دور القطاع الخاص) غير فعالة فى الدول الفقيرة (ومن ثم وجب دور الدولة).
قل: تشجيع التصنيع.. ولا تقل : تشجيع الاستثمار
أهم البرامج الناجحة للتصنيع وللتعميق الصناعى، كانت فى الصين وسنغافورة وماليزيا. وقامت على دور قوى وكفء للدولة. فكان العماد الأساسى لتلك التجارب بعيدا عن آليات السوق الفاشلة فى إنجاح التصنيع. فقد تبنت تلك التجارب حزمة من سياسات رفع نسبة المكون المحلى وتدعيم الروابط الخلفية ــ والأمامية ــ للصناعات، وذلك بحسب ما جاء فى دراسة حديثة لأميرة الحداد، عن اتجاهات الصناعة فى مصر.هكذا شجعت الدول صاحبة تلك التجارب استثمارات خاصة محلية وأجنبية بعينها، تلك التى تستخدم المزيد من المدخلات محلية التصنيع، مع إلزام الشركات الأجنبية العملاقة بالبحث والتطوير فى داخل هذه الدول، ونقل الخبرات والمعرفة التكنولوجية إليها. وذلك مقابل أن تحصل على مزايا خاصة. نجد فى ماليزيا مثالا ناجحا أيضا لدعم الصناعة المحلية عن طريق المشتريات الحكومية. فالحكومة فى أى اقتصاد هى المشترى الأكبر وتخصص كل عام مئات المليارات لشراء السلع والخدمات. وفى ماليزيا، استخدمت تلك المشتريات كأداة لتشجيع الصناعة المحلية. كأن تفرض كل محافظة شروطا معينة لشكل السلعة، لنقل مثلا كراسات المدارس والطباشير فى تلك المحافظة، لا تنطبق إلا على المنتجين المحليين. ولكننا فى مصر نقلص حجم تلك المشتريات سنويا، كما نقلص الشروط التفضيلية التى كنا قد وضعناها يوما أردنا فيه التصنيع.
سياسة كسر العصا
على قدر ما تبدو تلك السياسات التى تشجع التصنيع المحلى منطقية ومهمة بالنسبة لبلد يعانى من البطالة والاعتماد على الواردات فى توفير جل حاجته، إلا أن تبنيها ليس بالأمر السهل فى عالمنا اليوم. فالدول التى سبقتنا فى عالم التصنيع لا تريد أن تخسر قدرتها على غزو أسواقنا. لذلك فهى تسعى لوضع قيود على الدول النامية حتى لا تتبنى هذا النوع من الممارسات. فإذا كانت الدول النامية تحتاج إلى عصا تتكئ عليها كى تتقدم صناعيا، فما دور عدد من المؤسسات الدولية اليوم إلا كسر تلك العصا، حتى لا يلحق الصغار بعالم الكبار، إلا كصغار.لم يشأ أن يرى الابن النابه تلك العقبات، ولم يتعلم من تجارب سابقة ناجحة قامت على تهذيب الاستثمار الأجنبى، لا تدليله. فسقطت التجربة. بل تحولت إلى حالة تدرس فى الاقتصاد السياسى عن الزبائنية، أو رأسمالية المحاسيب.
حلقة جديدة من فشل التصنيع
اليوم، يقف هذا البلد على أعتاب حلقة جديدة من فشل التصنيع. فإذا كان فى قلب كل أزمة فرصة، فإن فى أزمة توافر النقد الأجنبى فرصة زيادة الاعتماد على المنتجات المحلية. ولكن يحتاج ذلك إلى سياسات تصنيع متكاملة.
بينما يتجلى فشل الحكومة فى تشجيع التصنيع فى قوانين الاستثمار التى تنهال علينا، والتى تبنى فلسفتها مجددا على غرار قوانين حقبة الديناصورات التى لم تفنَ بعد. وسوف نندهش بعد سنوات قليلة كيف صعد من العدم ديناصورات جديدة، بينما تخلفت أكثر وأكثر الصناعة المحلية. لعل التعديلات الجمركية التى تفرض على عدد من السلع «الترفيهية/ الكمالية» مثال آخر على إهدار الفرص لتعميق الصناعة.
حيث إن التسعيرة الجمركية هى إحدى الأدوات التى تملكها الدولة لدعم الصناعة المحلية. هكذا نجحت الدول الرأسمالية الكبرى فى المراحل المبكرة من التصنيع فى تطوير منتجاتها. ولا سبيل آخر.
ولكن الحكومة لم تر فى الجمارك سوى ماكينة لأسرع توليد للنقود. وهكذا، كان رفع الجمارك على ما يفوق 360 سلعة بهدف جمع 6 مليارات جنيه. بدلا من تصميم هيكل جديد للجمارك يشجع المنتجين المحليين على صناعة المنتجات الوسيطة والآلات والمعدات والسلع ذات المحتوى التكنولوجى المرتفع، أو حل أزمة قطاع النسيج. فى هذا البلد، تجد تفكيك التصنيع لا تعميقه. فإذا كان عندك صناعة غذائية محلية متخلفة، قائمة على استيراد 90% من مدخلاتها، فاقتلها.
وذلك عن طريق إعفاء الجمارك على المنتجات المثيلة المستوردة، ولنتخيل مثالا غير واقعى، كصناعة الدواجن. فبدلا من أن تصنع الأعلاف والأمصال والأقنان وتشجع على التربية الصغيرة المحلية ذات الأعلاف الطبيعية، وتشجع على عدم استخدام المضادات الحيوية فى تغذيتها، افتح الباب على مصراعيه كى تدهس الدواجن الملوثة المستوردة تلك المحلية. أو أغلق الباب سريعا، فقد دخل ما يكفى كى يكبر ديناصورا جديدا.
إنى أرى عشرين ديناصورا، فوق أرض قفر.
تم نشر هذا المقال عبر منصة الشروق بتاريخ 9 ديسمبر 2016