التعويم فيه إنَّ..
اسأل أى مصرى: هل زادت الاستثمارات الأجنبية أم قلت خلال السنوات الست الماضية.. ألن تكون الإجابة أنها انخفضت؟
انتشرت بعد الثورة الدعاية الكاذبة والشائعات التى تعتمد على نشر صور مفبركة عبر فيسبوك. وسرعان ما ظهر موقع «ده بجد؟» والذى يسمح بتتبع أصل تلك الصور ومناسبة ومكان التقاطها. وهو ما سمح بغربلة الكثير من الشائعات لمن يريد أن يُعمل عقله.
يبدو أننا نحتاج إلى موقع مشابه للتأكد من الدعاية الاقتصادية الكاذبة المنتشرة حولنا، حتى صارت بديلا للواقع.
الإجابة الصحيحة عن السؤال هى أن الاستثمارات الأجنبية قد زادت بعد الثورة، بشكل متصل، عاما بعد عام. وقد وصل صافى الاستثمارات الأجنبية اليوم إلى ثلاثة أضعافه، مقارنة بالعام 2010/2011.
الحقيقة هى أن الموارد الدولارية فى مجملها قد زادت زيادات كبيرة بعد الثورة، خاصة خلال السنوات الثلاث الأولى من الثورة. فقد بلغ صافى الزيادة من أهم الموارد الدولارية خلال تلك السنوات، وهى الاستثمارات والصادرات وتحويلات العاملين (بعد خصم النقص الطفيف فى السياحة وقناة السويس) 15 مليار دولار. هذا ما توضحه البيانات الرسمية التى يصدرها البنك المركزى. وهذا ما تتناوله بالتفصيل ورقة صدرت حديثا عن المبادرة المصرية للحقوق الشخصية بعنوان «ثلاث أساطير حكومية عن تعويم الجنيه المصرى».
وفى السنوات الثلاث الأخيرة، استمرت تحويلات العاملين والاستثمارات الأجنبية إلى مصر فى تعويض معظم الانخفاض فى تلك الموارد. ولكن جدت بضعة أمور: أولا: تعثرت السياحة بعد تفجير الطائرة الروسية، وزيادة سياحة المصريين فى الخارج. وثانيا ضرب انخفاض أسعار البترول صادراتنا من الخام. ولكن الحكومة فى المقابل راكمت من القروض الخارجية كما هائلا كان من المفترض أن يغطى ذلك النقص ــ الطفيف ــ فى مصادرنا الدولارية، ويفيض.
وفى كل الأحوال، ظل الدولار يرتفع رسميا خلال السنوات الثلاث الأخيرة، سواء حقق ميزان المدفوعات (الذى يرصد كم الدولارات التى تدخل وتخرج من مصر كل عام)، عجزا (فى 2015/2016) أو فائضا (فى العامين السابقين).
بل ظهرت السوق السوداء وترعرعت فى عام بلغ فيه فائض ميزان المدفوعات 3.6 مليار دولار!
وهو ما يشير إلى أن الدولار ترتفع قيمته لأسباب أخرى غير مرتبطة بالطلب والعرض المحليين. هى أسباب جديرة بالبحث والتقصى.
وهو ما لم يحدث، ولن يحدث، مادامت الحكومة متمسكة ــ وأصحاب المصالح، ــ بخطاب لوم الثورة على نقص المعروض من الدولار.
أين دولاراتى؟
جزء مهم من تفسير ما حدث، ولم يعترف به أحد من المسئولين، هو أن ما خرج من الدولارات من مصر خلال فترة ما بعد الثورة، بلغ ثلاثة أضعاف المبالغ الكبيرة التى تدفقت إلى مصر.
ومن أجل تأمين ذلك الهروب الكبير لتلك الدولارات، استُنزِفَت كل الاحتياطيات الدولية. واقترضت مصر قروضا خارجية تعجز عن سدادها اليوم. وسوف تعجز غدا وبعد غد، ما لم يتم علاج الثقب المتسع الذى يسمح بخروج رءوس الأموال.
ولأن الأسهل هو لوم مناخ الاستثمار بخطاب مطاط مغلوط، جرت الحكومات المتعاقبة، مدفوعة بلوبيهات المستثمرين إلى صياغة قوانين استثمار وتصالح تتساهل مع الفساد، ولا تعالج مشكلات الاستثمار، ولا تعطى الحوافز المناسبة. وكان ما كان.
مع أن أى قراءة دقيقة للبيانات توضح سبلا لعلاج ما سمى بأزمة نقص الدولارات.
بشكل عام، تعتبر مصر من أكثر دول العالم حرية فيما يتعلق بحركة رءوس الأموال، وفقا لموقع صندوق النقد الدولى.
وتخرج الدولارات من مصر لأسباب لها علاقة بالتحولات السياسية الكبيرة التى شهدتها. منها ما له علاقة بفساد ارتبط بنظام معين قد رحل، ومنها ما يرحل ضغطا على نظام آت، أملا فى مكاسب خاصة، أو خوفا من مغبة آثار عدم الاستقرار.
أحد عشر مليارا خرجت بلا شفافية ولا ضرائب
تخرج الدولارات مثلا فى شكل تحويلات أرباح. فعادة ما تفضل الشركات العالمية إعادة أرباحها إلى بلدها الأم. وأخيرا بدأت البنوك، تحت وطأة الأزمة فى عدم توفير النقد الأجنبى لذلك الغرض.
فى أحاديث الغرف المغلقة، يقول ممثلو الحكومة لمسئولى الشركات أن ما حولوه إلى بلادهم عبر السنين يفوق ما استثمروه فى مصر، إلا أنه لا قرار معلنا وشفافا للجميع عن سياسات لتحجيم هذه الظاهرة. وهو ما يفتح أبواب المحسوبية فى التطبيق. وإجمالا، خرج خلال العام الأخير، فى عز الأزمة وتضييق البنوك خمسة مليار دولار.
على العكس من مصر، توجد حول العالم وصفات مختلفة. مثلا السعودية والصين تشترطان أن تبلغ حصة الشريك المحلى 50% على الأقل من أى شركة (الأولى هى الأكثر جذبا للاستثمارات فى الشرق الأوسط والثانية هى ضمن الأكبر على مستوى العالم). أو هناك مثال الجزائر، حيث ينص قانون الاستثمار على بقاء نصف الأرباح لإعادة استثمارها فى نفس البلد.
وتوجد أيضا سياسات أكثر ليبرالية للحد من الظاهرة: أن تتمتع الشركات الدولية بحوافز لتبقى بعضا من تلك الأرباح فى فرعها المحلى. مثل إعفاءات ضريبية إذا ما أعادت استثمار نصف تلك الأرباح.
ولكن حكومات مصر لم تلجأ لأى من تلك القيود أو الحوافز، ولو بشكل مؤقت، حتى تستقر الأوضاع السياسية.
كما تخرج رءوس الأموال لإعادة توطينها فى بلاد أخرى. خرج فى العام الأزمة الأخير ستة مليار دولار. مثلا، قد تخرج فى شكل صفقات استحواذ مربحة لأصحاب تلك المشروعات، وتستلزم موافقة الجهات الرقابية المالية. فإذا كان الخروج خوفا من عدم الاستقرار السياسى، يمكن للحكومة أن تتفاوض مع الشركة لطمأنتها. ويمكن للجهات الرقابية تجميد الصفقة بسبب عدم ملاءمة التوقيت. كما يمكن للحكومة أن تحد من آثار الخروج عن طريق فرض ضرائب على الأرباح الرأسمالية الناتجة عن تنفيذ الصفقة. وهى ضريبة موجودة فى كل الدول الرأسمالية الغنية التى تتمتع بحرية حركة رءوس الأموال.
ولكن حكومات مصر، لم تلجأ إلى أى من تلك الإجراءات المشروعة تماما، خاصة فى أوقات الاضطرابات السياسية.
هناك أيضا خروج الأموال الساخنة. وهى أموال تغتنم فرصة ربح سريع من خلال سوق المال المصرى، وتخرج محملة بأرباحها سريعا، بحثا عن فرصة أخرى فى بلد آخر.
وقد صار صندوق النقد الدولى مؤيدا لفرض قيود على هذا النوع من الاستثمارات، لثبات ضرره على البلاد، خصوصا تلك التى تعانى من أزمة اقتصادية، ومن تدهور قيمة عملتها.
وعلى الرغم من أن مصر بعد التعويم فى خضم أزمة من هذا النوع، مدفوعة برفع مبالغ فيه لسعر الفائدة على أذون الخزانة (بحسب توصيات الصندوق)، فإن الحكومة وبنوك الاستثمار تفخر بتكالب هؤلاء المضاربين على السوق المصرية، غير مبالية بالضغط على الدولار.
كما كان هذا هو أحد أشكال التهريب الذى اتخذته مليارات الدولارات من أتباع نظام مبارك فور قيام ثورة تونس، تحسبا لأن تقوم الثورة فى مصر.
ولكن أيا من حكومات مصر لم تطلب ــ ولا الصندوق اشترط ــ فرض الضرائب على خروج الأموال الساخنة لتفادى/تخفيف الأزمة.
أما تزوير الفواتير الخاصة بالتصدير والاستيراد، فهو شكل آخر من أشكال تهريب الأموال بطرق غير مشروعة. خرج من مصر ما يقرب من ثمانية مليارات دولار تحت هذا البند خلال الأعوام الثلاثة الأولى من الثورة، وفقا لتقديرات التقرير العالمى «تدفقات الأموال غير المشروعة»، والمعترف به من قبل البنك الدولى.
وترتبط هذه الظاهرة وغيرها من أشكال الفساد بالشركات الدولية وبظاهرة الشركات المنشأة فى ملاذات ضريبية.
تخيل مسئولا فاسدا، لا يود أن تظهر ثروته فى السجلات المصرية. ما عليه إلا أن يفتح شركة وهمية فى ملاذ ضريبى، وما أكثرهم. فإذا أراد مقرا قريبا، هناك قبرص ودبى. وإذا ما أراد مقرا بعيدا، هناك سويسرا وجزر العذراء وكايمن وغيرها. وما عليه إلا أن يعطى شركة المسئول الوهمية استشارات لصاحب الرشوة مقابل ثمن الرشوة. ويحول الراشى الثمن إلى مقر شركة الفاسد فى الملاذ الضريبى، لتختفى تلك الأموال، عبر التحويلات البنكية السرية.
أو تخيل شركة ــ وما أكثرهم فى مصر ــ تفتح فرعا لها أو مقرا فى ملاذ ضريبى، وتفتعل من التعاملات بين مصر وذلك الفرع بحيث عمليا تتحول الشركة فى مصر إلى فرع خاسر، وتتراكم الأرباح فى ذلك الفرع الكائن فى البلد الذى لا يفرض ضرائب.
فى إنجلترا، مثلا، تفرض الحكومة ضريبة إضافية على أى شركة تمتلك فرعا فى ملاذ ضريبى، ولا ترد لها تلك الضريبة، حتى تتأكد من عدم تورطها فى تجنب دفع الضرائب.
ولكن أيا من حكوماتنا لا يؤرقها أن تكون الملاذات الضريبية هى المستثمر الأكبر فى مصر، ولا أن معظم ملاك تلك الشركات عائلات مصرية.
ما خرج فى شكل أموال غير مشروعة فى مصر عام 2015/2016 فقط قد يصل إلى 4 مليار دولار، رصدها البنك المركزى فى بند السهو والخطأ. وهو مبلغ إذا ما لم يخرج، لما احتجنا ما أخذناه فى العام الحالى من البنك والصندوق مجتمعين.
إنهم يتجاهلون كل تلك الحقائق، ويقترضون المزيد والمزيد، حتى صاروا على وشك العجز عن السداد، لولا تدخل الصندوق لإنقاذ مصر من إعلان إفلاسها، حتى الآن.
إذا لم تكن كل تلك الأمثلة بدائل عن التعويم ومن باب وصفات الصندوق والتجارب الرأسمالية، فما هى إذن؟ والأسوأ فى الانتظار، إذا ما لم تفعل تلك البدائل بعد التعويم، خاصة مع الارتفاع الآتى المتوقع فى سعر الدولار (انخفاضات جديدة فى قيمة الجنيه) خلال العام القادم.
ولكن حكومة مراكز القوى لا ترى، لا تسمع، ولا تتكلم إلا بخطاب غير علمى ولا دقيق.
تم نشر هذا المقال عبر منصة الشروق الإلكتروني بتاريخ 25 نوفمبر 2016