الجنيه فى بلاد الجنون

18 سبتمبر 2016

شربة الحاج محمود، هى دواء انتشر فى بداية القرن العشرين، كان يصفه المعالج لأكثر من مائة نوع من الأمراض. عادة ما يعاب على صندوق النقد الدولى أنه لا يملك سوى شربة الحاج محمود، وصفة وحيدة لأى داء ولكل داء أيا كان المرض وأيا كانت حالة المريض. لعل شرط الصندوق تخفيض قيمة الجنيه المصرى للحصول على القرض هو المثال الأبرز على ذلك.

أيا كانت مشاكل الاقتصاد، فى أى بلد، يضغط الصندوق من أجل تحرير سوق الصرف. أى إخضاع العملة المحلية لقوى العرض والطلب.

للمفارقة، نشأ صندوق النقد الدولى فى النصف الأول من القرن العشرين من أجل الحفاظ على ثبات أسعار الصرف العالمية مقابل الذهب، ثم مقابل الدولار لاحقا. ثم تقرر تحرير أسعار صرف العملات حول العالم مقابل الدولار، بدرجات مختلفة. وهو قرار كان ولا زال لصالح الاقتصاد الأمريكى. وتتبنى معظم الدول حاليا نوعا أو آخر من التحرير المُدار.

منذ عامين، يضغط الصندوق على مصر كى تخفض من قيمة عملتها أمام الدولار. ويسوغ عددا من الأسباب الاقتصادية دفاعا عن تلك السياسة.

وفى الواقع، سمح البنك المركزى المصرى للجنيه أن ينخفض تدريجيا أمام الدولار، ليفقد نحو 20 فى المائة من قيمته حتى الآن. ولكن السوق السوداء كانت أسرع وأقسى.
النتيجة المباشرة لانخفاض قيمة الجنيه هى ارتفاع الأسعار ومن ثم معدل التضخم.

جنيه أضعف يساوى عجز موازنة أكبر

فى بلد مثل مصر، يعتمد على الخارج لتوفير معظم غذائه ولوازم الصناعة، سيعنى انخفاض قيمة الجنيه أمام الدولار أنه يلزم قدرٌ أكبر من الجنيهات لشراء الدولار، وبالتالى ترتفع فاتورة شراء الغذاء والمدخلات الصناعية. على سبيل المثال، تتحمل خزانة الدولة تكاليف استيراد القمح لزوم الخبز المدعم. وقد تم تقدير هذه التكلفة للعام الحالى بنحو 20 مليار جنيه، على أساس سعر صرف 9 جنيهات للدولار.

وهكذا، إذا افترضنا أن سعر صرف الدولار سيرتفع بمقدار 25%، بحسب توقعات مركز أبحاث كابيتال إيكونومكس، فإن فاتورة استيراد القمح سترتفع إلى 24 مليار جنيه. وتتوالى الأمثلة.

ستتأثر أيضا واردات الحكومة من المواد البترولية، والآلات والمعدات وبقية المواد الغذائية، وهو ما يقدر فى الموازنة بنحو مائة مليار جنيه. كما سترتفع تلقائيا فاتورة سداد القروض الخارجية وفوائدها (قدرت فى الموازنة بـ49.2 مليار جنيه ستقفز إلى 61.5 مليار جنيه، فى حالة تخفيض قيمة الجنيه، لتدبير ما يعادل 5.5 مليار دولار). والمحصلة النهائية هى زيادة النفقات الحكومية ومن ثم زيادة عجز الموازنة بنسبة قد تصل إلى 3 فى المائة، فقط بسبب تخفيض قيمة الجنيه أمام الدولار. وهو ما يعنى فشل مصر فى تطبيق أهم تعهد وضعته أمام البرلمان وأمام البنك والصندوق الدوليين، وهو خفض عجز الموازنة. هذا ما تفضى إليه شربة الحاج محمود فى بلد مثل مصر.

فتش عن المستفيد

ومع ذلك، يقول البعض، أن انخفاضا إضافيا يقدر بـ25٪ فى سعر الجنيه، غير كافٍ للقضاء على السوق السوداء. فكأننا سنتحمل كل هذا الثمن الباهظ، حكومة وشعبا، بلا فائدة، ليظل الدولار مرتفعا وتظل السوق السوداء متربعة فوق القانون. إذ وفقا لأدبيات الصندوق يؤدى القضاء على السوق السوداء والتحرير الكامل لسعر العملة المحلية أمام الدولار إلى جذب الاستثمار الأجنبى وتنشيط الصادرات، مما يزيد من تدفقات الدولارات إلى مصر، وبالتالى ينخفض تدريجيا سعر الدولار من جديد (بعد إفقار وتجويع من يعيشون على أقل من 1.9 دولار فى اليوم، أى أكثر من ثلث المصريين).

أهم من يروج لتلك السياسة العنيفة تجاه الشعب هم المستوردون (شبكة معقدة من المجموعات الاقتصادية الكبيرة التى تستورد وعادة تنتج وتصدر أيضا). هؤلاء هم أكبر المتضررين من سياسات ترشيد الاستيراد الحالية والتى يتبناها البنك المركزى. ولهذا أكثر من حكاية. نسرد إحداها على سبيل المثال.

فى عام 2015، بعد أيام من نشر قائمة أولويات تدبير الدولارات للصناعات والقطاعات المختلفة، والتى بدت منطقية فى ظل أزمة نقص الموارد الدولارية، خرجت شركة مصرية هى ذراع لشركة عالمية لتصنيع السيارات، وثانى أكبر بائع للسيارات فى مصر، لتعلن توقيف انتاجها اعتراضا على عدم تدبير احتياجاتها من الدولار. فما كان من محافظ البنك المركزى إلا أن أذعن، ثم أقيل، ليجىء خلفه بنفس الهدف، ترشيد الواردات، مع تعديلات فرعية. فما كان من هؤلاء المستوردين إلا أن قاموا بتنشيط السوق السوداء للدولار، ليرفعوا سعره، ومن ثم يضعون البنك المركزى فى مأزق. وهكذا، ارتفع سعر الدولار غير الرسمى إلى أكثر من 11 جنيه. وتم الترويج لما أصبحت الكلمة الأكثر تداولا فى دوائر الاقتصاد: أزمة الدولار. فهل فعلا يعانى الاقتصاد المصرى من أزمة نقص فى الدولارات؟

لا نقص فى دولارات هذا البلد؟

حسنا، فلنبدأ من أول الحكاية. فى عالم التحرك الحر لرءوس الأموال صار من الصعب جدا على أى دولة فرض قيود على خروج ودخول الأموال. إذا أرادت الدولارات بقيت فى البلد وإذا أرادت خرجت. بما يعنى ذلك من صعوبة التحكم فى كمية وسعر صرف الدولارات.

نعم، انخفضت موارد هذا البلد من الدولارات التى تأتى من السياحة. فقد بلغت أخيرا 7.4 مليار دولار مقابل أكثر من 10 مليار قبل الثورة. وانخفضت أيضا عائدات التصدير انخفاضا كبيرا، وعائدات قناة السويس قليلا. ومن ثم، خلقت هذه العوامل ــ التى هى من فعل الأقدار، ومن ثم لا يمكن التحكم فيها ــ هذا عجزا فى الميزان الذى يوضح التعاملات المصرية مع الخارج. ومن هنا نقول إن هناك أزمة دولارات. إلا أن الصورة ليست بهذه البساطة.

ففى مقابل تلك الدولارات التى حرمت منها مصر، هناك بنود أخرى لا يتم التركيز عليها، مع أنها ــ على عكس البنود السابقة ــ يمكن علاج مسبباتها والحد منها. والأمثلة كثيرة.

مثلا، هناك نحو 7 مليارات دولار خرجت من مصر خلال العام 2015 ــ 2016، فى شكل عوائد استثمار الأجانب فى الشركات وفى السندات الحكومية. الجزء الأكبر من هذا المبلغ حولته الشركات الأجنبية التى تستثمر فى مصر إلى بلادها الأم. فى حين أن هناك عدد كبير من الدول النامية والمتقدمة تفرض قواعد للحد من تلك التحويلات إلى الخارج، وتشجع إعادة استثمارها داخل البلد، لخلق المزيد من فرص العمل والنمو.

هناك أيضا أكثر من 3.5 مليار دولار خرجت من مصر للإنفاق على السفر خارج مصر خلال العام الماضى (هذا الرقم تضاعف 150% عما قبل الثورة).

كما أظهرت بيانات البنك المركزى أن تحويلات العاملين بالخارج بلغت أرقاما قياسية فى الأعوام التى تلت الثورة. فقد دخل العام الماضى ما يزيد على 19 مليار دولار (مقابل 12.5 مليار عام الثورة). ولكن معظم هذه الأموال لا تدخل البنوك المصرية لأسباب كثيرة، يؤدى علاجها وحده إلى عدم الاحتياج لقرض الصندوق ولا شروطه، وينعش سوق الصرف بالدولارات، ما يسمح برفع قيمة الجنيه.

هناك أيضا ما يظهر فى بيانات البنك المركزى من تهريب للأموال متضمنا فى بند السهو والخطأ والذى ارتفع إلى 2 مليار دولار، ثم زاد خلال التسعة أشهر الأولى من العام المالى التالى (2015ــ2016) إلى4.2 مليار دولار.

وبشكل عام، هناك عدد من الأشكال المشروعة لخروج الأموال مثل إصدار أسهم دولارية لشركات مصرية فى بورصة لندن. من الممكن أن يبيع المساهم المصرى أسهمه المدرجة فى البورصة المصرية، ثم يشترى أسهما دولارية من بورصة لندن فى نفس الشركة (أو غيرها)، ثم بيعها لاحقا والاحتفاظ بدولاراته خارج البلاد. وهذا النوع على الحكومة الحد منه عن طريق سياسات ضريبية رادعة.

ولكن هناك أيضا طرق غير مشروعة، مثل تلك التى يشير إليها التقرير الدولى عن التدفقات النقدية غير المشروعة، أحد أهم التقارير الدولية. أكثر من نصف الأموال المهربة خرجت من مصر فى شكل فواتير صادرات مضروبة بأقل من قيمتها، ويتم تحويل باقى ثمن السلع المصدرة إلى حساب آخر للمُصَدر المصرى خارج البلاد. فى العقد 2003ــ2013 وحده خرج من مصر مبلغ يقدر بـ25 مليار دولار فى شكل فواتير تصدير مضروبة، عدا المبالغ الأخرى التى خرجت بأشكال أخرى من التهريب.

وقد يقول قائل، إن تهريب الأموال يحدث حين تفرض دولة ما قيودا شديدة على الخروج الحر لرءوس الأموال. ولكن ذلك ليس حالنا فى مصر. إذ وفقا لموقع صندوق النقد الدولى تتمتع مصر بأكبر قدر من حرية حركة رءوس الأموال الدولية، بل تتفوق على معظم الدول التى تسبقها على سلم التنمية مثل جنوب أفريقيا والبرازيل والأرجنتين والمكسيك وتشيلى وطبعا الصين والهند، بل وتسبق عددا من الدول المتقدمة مثل روسيا وأستراليا، ولا يماثلها حرية سوى عدد من الدول المتقدمة صناعيا، مثل كندا والولايات المتحدة وعدد من دول أوربا الغربية.

الخلاصة، هناك عدد من الخيارات أمام صانع القرار، أبعد من مجرد تخفيض قيمة الجنيه، بعضها يتعلق بالفساد، والبعض الآخر يتعلق بانعدام الثقة فى الحكومة والنظام المصرفى، لا يتطلب علاجها أكثر من إعلان نوايا صادق وعامين من الإصلاح. وهى نفس الفترة التى قضتها الحكومة فى التفاوض مع البنك الدولى والصندوق من أجل تأمين قروض خارجية، لسد أزمة صورتها لها مستحكمة خطيرة. ولكن البعض يفضل شربة الحاج محمود، لأنه محمى من ويلاتها.