الصندوق ذو الوجهين
ابتسم نصف ابتسامة، علامة على الرضا الممزوج بالدهاء. هو المسئول الكبير فى إحدى مؤسسات التمويل الدولية، عربى الأصل، محنك، مدرب على إعطاء إجابات ذكية على أسئلة المعارضين. قال: «مدى كفاءتنا ما هو إلا انعكاس لمدى كفاءة الحكومات التى نتعامل معها We are only as good as the governments we are working with».
الإجابة بالطبع فيها تنصل من تاريخ طويل ومثبت، كانت فيه تلك المؤسسات تفرض على الدول النامية إجراءات بعينها. كم هجم الصندوق والبنك الدوليان هجوما منسقا على الدول النامية لقبول إجراءات ضارة بتلك الدول، وذات تكلفة باهظة على فقراء تلك الدول.
تذكرت إجابته حين قرأت نبأ اتفاق مصر مع صندوق النقد الدولى. هل توصلت الحكومة لأكبر وأفضل برنامج إصلاح من خلال التفاوض على القرض مع خبراء صندوق النقد؟
الإجابة هى «لا» قاطعة. وفى الأسئلة الثلاثة، التى يطرحها هذا المقال، بعض الشواهد المزعجة، وبحث عن إجابات.
أولا: قرض فك أزمة أم قرض إصلاح؟
هناك دليلان على أن القرض هو من أجل «فك أزمة» الحكومة الحالية فحسب. أولا: لم تستغرق المفاوضات أكثر من بضعة أيام، وهى فترة لا يمكن أن تكون كافية إذا كنا بصدد التفاوض من أجل القيام بتحول وتغيير كبيرين فى نوع السياسات التى تتبناها مصر. هى إذن استمرار لنفس المسار الذى يرعاه الصندوق عن كثب وتنسيق. هذا ما أكده أيضا رئيس البعثة الصندوقية والذى نفى فى جريدة الشروق أنه قد طلب من الحكومة أى إجراء لم تكن هى أصلا قد وضعته فى برنامجها. قد يكون الجديد هو تسريع الإجراءات، أو العلاج بالصدمة، كما فعلت روسيا فى بداية التسعينيات ومن قبلها تشيلى فى أواخر السبعينيات، حين نتج عن اتفاق مشابه مع الصندوق أن قفزت البطالة ستة أضعاف فى بضع سنوات إلى ما يفوق 18 بالمائة، وتضاعفت معدلات الفقر.
يلاحظ الصحفى الألمانى أرنست فولف فى كتابه عن تاريخ صندوق النقد الدولى (صدرت نسخته العربية فى 2016) أنه «مع أن حقوق الإنسان قد انتهكت بكل وحشية، نلاحظ أن الصندوق قد ضاعف من قروضه إلى تشيلى بعد عام من انقلاب بينوشيه، وأنه زاد قيمة قروضه إلى أربعة أضعاف، ومن ثم إلى خمسة أضعاف فى العامين التاليين». وهذا ما يقودنا إلى الدليل الثانى.
تضخم المبلغ الذى تطلب مصر اقتراضه أكثر من ستة أضعاف عما سبق وطلبته حكومة شفيق فى 2011، وذلك بالتزامن مع أزمة اقتصادية متسارعة. ويقول وزير المالية الأسبق أحمد جلال أن القرض وإن لم يكن الحل الأمثل إلا أن هناك شيئا من المنطق فى قبوله فى ظل الظرف الاقتصادى الراهن. هو إذن قرض طلبته الحكومة تحت وطأة أزمة شديدة فى نقص مواردها الدولارية.
حكومة مصر ترى إذن أنها مضطرة للاقتراض. فلماذا وافق الصندوق؟ هذا ما يحاول السؤال الثانى الإجابة عنه.
ثانيا: هل تسير مصر فى طريق أزمة تعثر ديون عالمية؟
مصر ــ ودول نامية أخرى كثيرة ــ فى سبيلها لأن تكون كبش فداء ينقذ النظام العالمى الدولى المتعثر ماليا واقتصاديا. حيث تعانى مؤسسات التمويل الدولية من أزمة فائض سيولة، لتراكم أموال وفيرة لا تجد من يقترضها من الدول والشركات، وهذا بسبب وضع تباطؤ النمو فى دول العالم.
وعليه، فإن الإغراء عادة ما يكون فى شكل تخفيض تكلفة الاقتراض، أى سعر الفائدة، ومد أجل السداد. وهذا هو الوضع الآن عالميا: عالم المؤسسات المالية يفيض بقروض تبدو ميسرة، منخفضة التكلفة متاحة بدون شروط مغلظة.
فقط سطر واحد فى أسفل وثيقة الاتفاق: أن أسعار الفائدة عرضة للتغيير مع تغيير أسعار الفائدة العالمية.
حدث أمر شبيه فى منتصف السبعينيات، حين وجدت البنوك التجارية العالمية الكبرى نفسها غارقة فيما سمى وقتها بالبترودولارات، أى ودائع دول الخليج التى راكمتها بفضل ارتفاع أسعار البترول فى السبعينيات (عقب حرب أكتوبر)، فى حين وقعت دول العالم الصناعى فى كساد طويل بسبب الارتفاع المفاجئ فى فاتورة النفط المستورد. حينها أقرضت البنوك التجارية دولا كثيرة من دول العالم النامى المستوردة للنفط والتى تأثرت بارتفاع أسعاره. قروضا بدت ميسرة رخيصة التكلفة.
وحين قررت أمريكا رفع الفائدة فجأة إلى ثلاثة أضعافها (لمحاربة التضخم)، زادت معدلات الفائدة حول العالم. وبدأت قطع الدومينو تتساقط دولة بعد دولة بعد تعثر الأرجنتين عن السداد فى عام 1982.
وكانت مصر من آخر الدول التى سقطت فى نهاية الثمانينيات رغم حرصها الشديد ألا تقترض من بنوك تجارية وتنويع مصادر ديونها، ولكن لم يشفع لها حذرها من التعثر فى نهاية الأمر.
طيب.. إذا كان الصندوق وغيره ممن يعانون حاليا من فرط السيولة يتمنون أن نقترض منهم، ألا يعطينا ذلك قدرة تفاوضية أعلى، لتطبيق برنامج إصلاح قائم على أجندة منحازة اجتماعيا للمساواة؟ أليست تلك فرصة أهدرتها الحكومة المصرية؟ فى الواقع، انعدام الكفاءة، وإن كان صحيحا، ولكنه غير كافٍ هنا لتبرير الموقف المصرى.
ثالثا: لماذا لا ينصحنا الصندوق بما يفيدنا؟
وافق الصندوق على أن يقرض مصر، ويساعدها على الاقتراض من جهات أخرى، رغم علمه بحجم المخاطر الكبيرة التى تتعرض لها، سياسيا واقتصاديا. وهكذا فعل من قبله البنك الدولى فى بداية العام الحالى. ودائما ما تكون ديباجة البيانات الصحفية لتلك المؤسستين أن المساعدة بغرض الوقوف بجانب مصر فى ظروفها الصعبة.
تلك إجابة بها بعض الحقيقة، على غرار إجابة ذلك المسئول ذى الابتسامة متعددة المعانى.
ولكن، الجانب الآخر من الحقيقة هى أن العالم المتقدم ــ المأزوم أصلا ــ يخاف من ظهور نماذج تنموية بديلة ناجحة، تحد من اعتماد الدول النامية والفقيرة على السلع والخدمات ورءوس الأموال القادمة من الشركات الدولية العملاقة.
وهكذا، فهو على استعداد أن يخاطر بأمواله فى شكل قروض، فى سبيل التزام الدول المقترضة بحزمة السياسات نفسها التى طالما دافع عنها، وعدم اتباع سياسات اقتصادية واجتماعية بديلة.
فى مايو 2011، عقدت الدول الصناعية الكبرى والمؤسسسات الدولية مؤتمر دوفيل لمناصرة الربيع العربى، وخصصت مبالغ كبيرة ــ معظمها قروض ــ لدعم الانتقال الديمقراطى فى المنطقة العربية. كانت هناك مخاوف من امتداد الربيع العربى إلى الممالك العربية (صار أكبر المستفيدين من هذا الدعم المالى مملكتى المغرب والأردن!).
اشترطت دوفيل ــ والتى كانت صناديق التمويل الخليجية ضمن مموليها ــ ضمنيا ربط المساعدات بعدم تجذير مطالب الثورات، أى عدم استحداث أى سياسات اجتماعية عميقة تضرب مثالا ناجحا بين دول المنطقة والعالم. خاصة أن الروشتة المنطقية فى ظل تردى الأوضاع الاجتماعية هى حزمة من السياسات من شأنها الإضرار بمصالح الرأسماليات المحلية شديدة الارتباط بالشركات الدولية العملاقة.
قد يفسر ذلك التضارب بين السياسات التى يحض عليها الصندوق مصر وبين السياسات التى يحض عليها الولايات المتحدة، لحل مشكلة اقتصادية واحدة وهى ضعف النمو الناتج عن ضعف الطلب الكلى.
فقد أوصت بعثة الصندوق عام 2014 الولايات المتحدة برفع الحد الأدنى للأجر من أجل تنشيط طلب الطبقات الأفقر، وذلك كوسيلة لدفع النمو. فى حين أنها أبدا لم تأت على ذكر تلك الوسيلة فى الحالة المصرية.
والتضارب نفسه ينطبق على السياسات الضريبية. فقد ارتضى الصندوق بفرض الضريبة على القيمة المضافة، وهى ضريبة بطبعها غير عادلة اجتماعيا. والمدهش أن توصيات خبرائه التى احتوتها تقاريره ودراساته عن مصر والمنطقة، كانت قد اقترحت فرض حزمة متكاملة من الضرائب على دخول المهن الحرة وعلى رأس المال والثروة.
فليبتسم المسئول العربى فى تلك المؤسسة كما شاء. فهو يعرف أنه محق فى خيبة حكوماتنا. ولكننا لن نبتسم ونرفض أن نقترض من مؤسسات طالما دعمت مصالح وسياسات مناقضة لطريق التنمية والرخاء المعمم. وما أكثر البدائل، منها ما هو من جعبة الصندوق والبنك الدوليين، ومن خبرات الدول الأخرى، ومنها ما هو من صلب البلد. تم نشر هذا المقال عبر بوابة الشروق الالكتروني بتاريخ 24 أغسطس 2016