اللامساواة: الفيل الذى لا نراه فى الغرفة
كان يا ما كان ويا مازال، فتاتان مصريتان. أميرة ورغد. إحداهما، رغد، تقطن فى حى الزمالك الأنيق، وتذهب إلى مدرسة خاصة. واﻷخرى، أميرة كان عليها أن تعبر الجسر كل يوم وتمشى أكثر من نصف ساعة على قدميها كى تذهب إلى مدرسة حكومية. ثم انتهى بها اﻷمر، إلى أن تترك المدرسة، كى تعمل وتساعد على إعالة عائلتها. يجب أن يدفعنا الفارق فى نوعية حياة كل من الفتاتين وأثره على مصير كل منهما أن نسأل: كيف تؤثر ظروف الميلاد فى مستقبل كل منهما؟ ما الفرق بين أنواع المعارف التى ستكتسبها كل منهما؟ وما أنواع الوظائف التى ستعمل فيها كل منهما؟ هى فوارق تطرح علينا إشكاليات وأسئلة علينا ألا نغفلها.
المثال والتساؤلات ليست من عندى، ولكن طرحها المدير السابق لمكتب البنك الدولى فى القاهرة، هارتفج شافر. وذلك فى مقدمة أحد أضعف الدراسات علميا التى أصدرها البنك الدولى عن مصر، وكأنه يعتذر عن نتائجها أو يدعونا إلى إعادة النظر.
تساؤلات شافر ــ والتى يدعمها الاقتصادى جلال أمين فى نقده لتلك الدراسة ــ لا تسمع عنها على موائد الحوارات الحكومية ولا شبه الحكومية. أنت لا ترى اللامساواة ــ على فداحة آثارها ــ منعكسة على الخطاب الحكومى ولا على السياسات الحكومية. بل الأنكى أن الحكومة تردد أن مستوى اللامساواة فى مصر بسيط، وأنها تحسنت على مدى السنوات التى سبقت الثورة، وأن المصريين حيواتهم تحسنت فزادت تطلعاتهم.
الفكرة هى أن اللامساواة ملحوظة للعيان، وتتزايد بشكل مخيف، بحيث لا يمكن نفيها. ولكن المسئولين مصرون على النفى متسلحين بطرق قاصرة لحسابها، وهى مشكلة تقنية ينبغى حلها، لا أن نكذب أعيننا ونصدق مؤشرات اقتصادية عمياء.
يكفى أن نقارن بين دخل أصغر موظف فى شركة خاصة أو مؤسسة حكومية وأكبر موظف. الفارق بين دخل موظف الأمن على بوابة أحد المجتمعات السكنية المغلقة وأحد سكان تلك المجتمعات قد يكون أربعين إلى مائة ضعف. هذا النوع من اللامساواة هى الخاصة بالدخول.
إذا ما نظرت بعين طائر على القاهرة من أعلى، فسوف يكون واضحا ــ بل صادما منظر الأحياء العشوائية المحرومة من الحد الأدنى للآدمية، ملاصقة للأحياء الغنية حيث الحدائق والمطاعم وحمامات السباحة. هو فارق لا يعنى إلا شدة التفاوت بين مستويات المعيشة. تلك هى اللامساواة التى لا ترصدها الإحصاءات الرسمية. لا تسأل إن كان ذلك عن عمد أم عن جهل.
أين أهل الكومباوند؟
أيا ما كان السبب، إغفال اللامساواة فى الدخل هو خطأ استراتيجى كبير. وذلك لأن ظاهرة اللامساواة تملك قدرة تفسيرية هائلة لعدد كبير من المشكلات الاقتصادية (مثل ضعف النمو الاقتصادي) والاجتماعية (مثل تصاعد التظاهرات والاحتجاجات الاجتماعية بكل أنواعها وصولا إلى الثورة مرتين فى عامين) والسياسية (مثل مقاومة اﻹصلاحات الديمقراطية) بل والأمنية (مثل تفشى الإرهاب، وصعوبة القضاء عليه).
فلماذا لا ترصد الإحصاءات الرسمية ظاهرة اللامساواة بشكل سليم؟
للإجابة، عليك أن تتوجه إلى موقع الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء. وهو موقع غنى، وقد قام الجهاز بعمل تحديث شامل له مستهدفا إتاحة أكبر كم من المعلومات للمواطنين. ولكنها كلها لا تستهدف قياس اللامساواة. لعل ذلك يرجع إلى أن الموضوع لم يكن أبدا على طاولة الاهتمامات. وهكذا، مثلا، ترصد بيانات سوق العمل، متوسط الأجور فى القطاعين العام والخاص. والأجدر من وجهة نظر العدالة الاجتماعية لبيان الفوارق بين الأجور أن يحسب الإحصائيون أيضا الأجور الوسيطة. ومقارنتها بمتوسط الأجر وبالحدين الأدنى والأعلى فى كل نشاط اقتصادى. للأجور الوسيطة وحدها القدرة على إظهار المستوى الذى تتراوح حوله معظم الدخول فى المجتمع.
هناك أيضا بحث الدخل والإنفاق، ورغم ما يوفره من قاعدة بيانات ثرية لا يستغنى عنها الباحثون فى المجالين الاقتصادى والاجتماعى، إلا أن طريقة تصميم المسح لم تعد مناسبة لرصد الاختلال الحاد فى المساواة بين الدخول فى الزمن الحديث. بل وليس من أهدافه ــ وفقا لمنهجية البحث ــ أن يقيس درجة تفاوت توزيع الدخول. ويقول د.ماجد عثمان، رئيس مركز بصيرة لقياس الرأى العام، أن العينة التى يقوم عليها المسح لا تشتمل على أى من الشريحتين الأدنى واﻷعلى من الدخل (قمة المجتمع وذيله)، وذلك لصعوبة الوصول إليهما.
على سبيل المثال، كان اﻷغنياء فى الثمانينيات يقطنون فى أبراج فى قلب القاهرة، لذا كان يسهل الوصول إليهم. أما اليوم، فهم يسكنون داخل أسوار مسورة، على مبعدة من المدينة، لا يجرؤ الموظف العام أن يقتحمها. وهكذا لا يضم مسح البحث والإنفاق أى شىء عن نمط حياة هؤلاء ولا دخولهم. وفى أدنى السلم الاجتماعى، حيث يقبع ساكنو العشوائيات، على أطراف المدن، أو فقراء مجاهل الصعيد الجوانى، ليس من السهل أبدا على الغرباء الولوج إلى تلك المناطق، وخاصة إذا كان موظف حكومة، فهو ينظر إليه على أنه من اﻷعداء.
جينى والخوف من الحسد
هناك أيضا عيبان آخران فى بحث الدخل والإنفاق، لا يسمحان برصد اللامساواة: أولا يعتمد مؤشر اللامساواة على نتائج هذا البحث، ويعرف «بمؤشر جينى». وفى مصر، يبنى المؤشر على بيانات الإنفاق، بدلا من بيانات الدخل. وذلك بحجة أن المصريين يخفون جزءا من دخولهم لأسباب التهرب الضريبى وخوفا من الحسد. إلا أنه من المعروف أنه كلما ارتفع الدخل قلت النسبة المنفقة منه. لنضرب مثالا، لأن أصحاب الدخول الضعيفة لن يفهموا هذا الأمر بسهولة.
إذا كان دخلك 500 جنيها فأنت مضطر ﻷن تنفق كل دخلك كى تشترى احتياجاتك الأساسية، وهكذا يكون انفاقك معبرا عن مجمل دخلك. أما إذا كان دخلك 100 ألف جنيه فى الشهر، فإنك تشبه فى هذه الحالة اسماعيل ياسين، حين أغرقه المارد بأكوام من الأموال، فراح يشترى هنا وهناك ولكنه لم ينفق إلا جزءا صغيرا فقط من دخله (لنقل الثلث إلى النصف) ولو كان يحصل على مليون جنيه، سيكون الإنفاق فى حدود العشر على الأكثر). وهكذا إذا ما سئل أحد ممن هم فى أعلى سلم الدخل عن إنفاقه الشهرى، فلن يتعدى ذلك جزءا صغيرا من إجمالى دخله، فى حين أن هناك جزءا آخر لن يظهر فى إجاباته على أسئلة الموظف الذى يملأ استمارة البحث، منه ما يذهب للادخار، أو قد يشترى به الثرى أسهما فى شركات أو غيره من أنماط الاستثمار. ولهذا يعيب على بيانات الإنفاق أنها تتضمن جزءا ضئيلا فقط من الدخول فى أعلى السلم. وهكذا يظهر البحث صورة مشرقة عن اللامساواة، على غير الحقيقة.
وأخيرا، يمكن القول إن الشرائح التى تقسم إليها فئات الدخل كانت مناسبة تماما لمجتمع اشتراكى، يتسم بمستويات دخول متقاربة، ولا يشغله أمر اللامساواة. وهكذا تنقسم الشرائح إلى ما نسميه شرائح خمسية (أى العشرين فى المائة الأغنى، العشرين فى المائة الأقر وبينهما ثلاث شرائح متوسطة. أما اللامساواة، فهى لا ترى إلا من خلال شرائح دخلية أحادية، أو عشرية أو أصغر. اليوم، الفيل فى الغرفة ولكننا لا نستطيع أن نراه.
اسماعيل ياسين يشرح ثانية
عالميا، عادت اللامساواة لتفرض نفسها بقوة على الساحة السياسية والاقتصادية، أكاديميا ومجتمعيا، ولذلك صارت الدول ترصد تطور نصيب الفئات الأغنى من الدخل القومى. فحتى ترى اللامساواة، عليك أن تعرف نصيب الـ10 فى المائة الأغنى من إجمالى الدخل ومن الثروة على مستوى كل دولة، وكذلك الـ1 فى المائة اﻷغنى، بل والـ1 فى الألف الأغنى. وتقارن أنصبة تلك الطبقات بنصيب العشرين فى المائة الأفقر أو النصف اﻷدنى دخلا من المواطنين وهكذا. كى نفهم بصورة أفضل، لن نستطيع أن نستغنى عن اسماعيل ياسين. فى فيلمه المليونير، حين لعب دور مواطن فقير شبيه لأحد الأغنياء، استعانوا به كى يحل محله. تجد المبالغ التى يتحدثون عنها مضحكة إذا ما قستها على قيمة العملة اليوم.
لعل الزمن عند معدى بحث الدخل والإنفاق توقف عند ذلك الزمن، حين كان يعتبر «اﻷلفى ــ أى صاحب ثروة من ألف جنيه» غنيا. لهذا فإن الشريحة العليا للدخل وفقا لبحث الدخل والإنفاق هى 3000 جنيه شهريا فما فوق. نعم! هذه هى ــ رسميا ــ شريحة أغنى اﻷغنياء.
وأخيرا كى تكتمل الصورة الخاصة باختلال توزيع الدخول واللامساواة، يجب أن تكون هناك سجلات للأملاك وسجلات للمواريث (ونحن كمصريين أصليين لا نتعامل مع تلك الجهات الحكومية، حتى اعتبرنا أن موظفيهم عمالة زائدة). كما أننا ــ كفانا الله الشر ــ لا نملك سجلات ضريبية منشورة، نستطيع أن نحسب عن طريقها حجم الدخول والتفاوت فيما بينها، بل ولم نعد نفرض ضرائب على الثروات والمنقولات من أصله، كى نسجلها ونحصرها. ثم يطلع البعض ليتكلم عن المجتمع المصرى الذى يتسم بالعدالة. افتحوا أعينكم ولو قليلا أو انتظروا وقوع البلاء.
هناك عدة مسارات تتكرس عبرها اللامساواة وتتسع الهوة بين من هم فى أعلى سلم الدخل والثروة، ومن هم فى أسفله. هناك مسار انعدام العدالة الضريبية، ومسار هيكل الأجور، ومسار التعليم والتعليم العالى. مسار حياة كل من رغد وأميرة هو أحد السبل لتكريس اللامساواة وتعميق الفوارق عبر الأجيال.
سوف يسمح تعليم رغد بترقيها لوظائف عليا، ذات دخل مرتفع، مما يؤهلها للزواج من شخص ميسور الحال، لينجبا أبناء يذهبون لمدارس متميزة. ثم يرثون عن رغد وزوجها عددا من الشقق والفيللات وثروة فى البنك، فيبدأون حياتهم وهم أغنى من أهلهم. بينما سوف تعمل أميرة طوال حياتها فى وظيفة دنيا، بأجر غير لائق، وسوف تتزوج من شخص فقير لم يكمل تعليمه، لينجبا بنينا وبناتا يعيدون إنتاج نفس عجلة الحياة البائسة. هذا المسار لا يمكن حله إلا عبر مدرسة حكومية واحدة تقدم تعليما متميزا، يذهب إليها الجميع. تلك هى أحد مفاتيح التغلب على الفيل.
كتبت هذا المقال سلمى حسين باحثة أولى بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية وصحفية متخصصة في الاقتصاد منذ 17 عاما. شغلت منصب رئيسة قسم الاقتصاد باﻷهرام إبدو. حاصلة على الماجستير في السياسات العامة (بالجامعة الأمريكية). شاركت في تأسيس عدة إصدارات مثل جريدة البديل المستقلة وموقع أهرام أو لاين باللغة اﻹنجليزية والذي عملت فيه كرئيسة قسم الاقتصاد ونائب مدير تحرير. صدر لها في 2014 كتاب «دليل كل صحفي: كيف تجد ما يهمك في الموازنة العامة».
تم نشر هذا المقال عبر موقع الشروق الإلكتروني بتاريخ 8 مارس 2016