المطالبة بالإعدام ووهم الحل السحرى
«مكنتيش هتقولى كدة لو ابنك هو اللى اتقتل» تواجهنى هذه الجملة فى أى نقاش أعبر فيه عن معارضتى لعقوبة الإعدام وكأنها رد مفحم على ما يفترض أنه استهانة منى بالأرواح وتفريط فى حق المقتول غدرا وفى حق المجتمع فى حماية نفسه، مع أنى لا أناهض الإعدام إلا لإيمانى بقدسية الروح الإنسانية وإيمانى بأن إزهاق الأرواح لم ولن يكون أبدا طريقا إلى الحد من الجريمة وتحقيق الأمان للمجتمع. الآراء المؤيدة للإعدام عادة ما تكون حادة ويقينية ونهائية كالعقوبة نفسها وهى آراء تنبع من قناعات ثابتة وتصورات ترى فى الإعدام حلا سحريا يقتلع الشرور من جذورها عن طريق الاستئصال الجسدى للمتهم بارتكاب الجريمة الشنعاء. يتبنى هذا التصور الإعدام كمطلب الحد الأقصى ــ يطلبه المجتمع لتطهير نفسه من الشرور كما يفترض أنه بالضرورة المطلب الأول لذوى الضحية كالطريقة المثلى بل والوحيدة لاستعادة حق الروح المغدورة.
هذه القناعات راسخة ومتجذرة لكنها تظل نظرية ومجردة لا تشتبك مع الواقع ولا تأخذ حقائق كثيرة فى الاعتبار، فالواقع يقدم لنا أمثلة عديدة على آباء وأمهات قُتل أبناؤهم ولم يكن إعدام القاتل هو أقصى أمانيهم. هناك الأم التى لم ترغب فى إعدام قاتل ابنها بل تلخصت رغبتها فى مواجهته وصفعه أو البصق على وجهه، وهناك الأب الذى كان مطلبه الوحيد هو معرفة الحقيقة فكان يريد النظر فى عينى قاتل ابنه وسؤاله لماذا فعل فعلته وهناك من وجد أن الطريق إلى راحة روح ابنه القتيل ليس الإعدام بل العمل على ألا يتكرر ما حدث لابنه عن طريق السعى لتغيير الظروف التى سهلت للقاتل مهمته والأمثلة هنا عديدة بين ذوى ضحايا عمليات القتل الجماعى فى الولايات المتحدة حيث يجد الكثير منهم الراحة فى الانضمام لحملات تقييد حصول الأفراد على الأسلحة.
***
هناك أيضا مروة قناوى السيدة المصرية العظيمة الذى قُتل طفلها يوسف العربى حين كان واقفا مع أصدقائه فى أمان الله فى ميدان الحصرى بحى السادس من أكتوبر فأصابته رصاصة أطلقها القتلة أثناء مشاركتهم الاحتفالات فى فرح مجاور وتوفى يوسف بعدها بأيام قليلة إثر إصابته. تم الكشف عن الجناة وحكم عليهم بالسجن المشدد سبع سنوات بتهمة القتل الخطأ وحيازة سلاح بدون ترخيص لكن الداخلية تقاعست فى القبض عليهما وتنفيذ الحكم ما فُسر على أنه نتيجة لسطوة ونفوذ عائلتيهما. لم أتشرف بمقابلة مروة ولا التواصل معها ولا أعرف رأيها فى عقوبة الإعدام لكننى تابعت قصة يوسف ومعركة أمه للحصول على حقه. لم تلجأ مروة إلى مطلب الإعدام ولو من باب التنفيس عن حرقتها ولكنها اختارت الطريق الأصعب وعينها على الحق والحياة وليس القتل والانتقام، فهى أولا قادت حملة #لا_لضرب_النار_في_المناسبات لنشر الوعى ضد هذه الممارسة المنتشرة والخطيرة. مروة الملهمة رأت أن راحة روح ابنها ليست فى إزهاق روح أخرى بل فى أن يكون دم يوسف وروحه فداء ومصدر حياة للآخرين. وإلى جانب ذلك قادت مروة معركة #حق_يوسف والتى لم يكن مطلبها الإعدام وإنما احترام القانون والقبض على الجناة. حاربت وحيدة ولما استنفدت طرق الضغط دخلت فى إضراب كلى عن الطعام لمدة شهر ونصف حتى استطاعت أن تخلق رأيا عاما ضاغطا نجح فى النهاية فى إجبار الجناة على تسليم أنفسهم.
ألهمتنا مروة باختيارها طريقة إنسانية وإيجابية لإراحة الروح المغدورة كما أرشدنا إصرارها على تطبيق القانون إلى الطريق السليم بالنسبة لحق المجتمع فى العيش الآمن، فعلى عكس الاعتقاد السائد حول الإعدام كرادع للجريمة أثبتت الدراسات وتجارب الدول الأخرى أن الرادع الأكبر ضد ارتكاب الجرائم ليس العقوبات المغلظة وعلى رأسها الإعدام وإنما هو كفاءة ونزاهة منظومة العدالة وأن ما يدعو إلى التجرؤ على ارتكاب الجريمة هو شيوع الإحساس بسهولة الإفلات من العقاب وليس غلظة العقوبة فى حد ذاتها.
***
للإعدام جاذبية وإغراء لكنه أيضا خادع وخطير فهو يوحى بالقصاص ويعد بالردع لكنه لا يحقق أيا منها، وعادة ما يطغى التصور السائد عن الإعدام كحل سحرى يقتلع الشر من جذره على أى اهتمام بمتابعة تبعات الإعدام الذى يظل فى الأذهان فكرة مجردة بعيدا عن حقيقته الملموسة كنوع من ممارسة القتل، فبقدر ما يغرق الناس فى تفاصيل الجريمة البشعة بقدر ما يبتعدون عن التدقيق فى تفاصيل العقوبة سواء على المدى القصير فيما يخص التحقيقات وإثبات التهمة وكافة الإجراءات التى تنتهى بإزهاق روح إنسان أو على المدى الطويل فيما يخص أثر الإعدام على سلام المجتمع وأمنه. يخسر المجتمع كثيرا حين يُصَدر الإعدام كأقصى المطالب فهو بذلك يقطع الطريق على التعامل مع الأسباب العميقة للجريمة وانعدام الأمان مثل انتشار البلطجة والتحرش وحمل السلاح وشيوع الإفلات من العقاب. وفى كل هذا تهدر قدسية الروح الإنسانية بالزج بها كورقة فى لعبة بين المواطن والسلطة ويحرم المجتمع من استكشاف طرقا أكثر أخلاقية وفاعلية نحو الحق والأمن والعدالة.
نشر هذا المقال في جريدة الشروق بتاريخ 5 نوفمبر 2019