كوفيد 19.. نوبة أخرى من نوبات الهلع والنسيان
لم تكن جائحة كوفيد 19 مفاجأة على الإطلاق، فحدوث وباء عالمي كان أمرًا منتظرا، كما كان عدم جاهزية العالم لمواجهته شيئًا معلومًا، فالتحذيرات كانت مستمرة منذ أمد عن أن العوامل التي تزيد من خطورة انفجار جائحة عالمية تتزايد وأن وباءً عالميًّا جديدًا ليس سؤال: هل يحدث، وإنما متى يحدث، وأن العالم ليس مستعدًّا لمواجهته.
منذ عقود والأوبئة الناشئة، التي لا يملك الإنسان ضدها أي مناعة وعلاج، تحدث بشكل أكثر تكرارًا من أي وقت في تاريخنا، فمنذ سبعينيات القرن الماضي فقط ظهر حوالي 40 مرضًا معديًا ناشئًا، منها الإيبولا، وهندرا ونيبا وجنون البقر والإيدز وغيرها، والقرن الحادي والعشرين على وجه الخصوص يشهد منذ بدايته سيلًا لا يكاد يتوقف من هذه الأوبئة، فمن سارس وإنفلونزا الطيور عام 2003، إلى إنفلونزا الخنازير عام 2009، ثم الميرس أو متلازمة الشرق الأوسط التنفسية عام 2012، ثم الإيبولا عام 2014 ثم زيكا في أمريكا اللاتينية عام 2015 وأخيرًا فيروس كورونا الجديد عام 2019، وكلها أوبئة ناشئة انتقلت من الحيوانات إلى البشر.
وطوال الوقت لم تنقطع التنبيهات من الخبراء والباحثين والهيئات والمتابعين، عن توقع جائحة عالمية وعن قصور استعداد العالم لمواجهتها؛ منذ عامين فقط أوضح تقرير لمنظمة الصحة العالمية أن الوباء العالمي القادم سيكون له أثر فظيع على حياة الإنسان والاقتصاد لأن الاستعداد العالمي لمواجهته غير كاف، والعام الماضي أطلق مجلس متابعة الاستعداد العالمي، الذي يرأسه الأمين العام للصليب الأحمر والمديرة السابقة لمنظمة الصحة العالمية، تقريرًا صارمًا عن تهديد حقيقي من جائحة سريعة الانتشار قد تقتل من 50 إلى 80 مليون شخص وتمحو 5٪ من الاقتصاد العالمي وأن العالم غير مستعد لمواجهتها.
لم تظل هذه التحذيرات محصورة داخل الأروقة الأكاديمية والرسمية، لكنها نشرت في العديد من المقالات والتحقيقات وحتى الكتب التي كان بعضها ضمن الأفضل مبيعًا، وكلها نقلت توقعات وتحذيرات المختصين إلى نطاق واسع، والخلاصة: أن العالم يعرف أن جائحة مروعة قادمة، وأنه لا يعبأ بذلك.
حسب منظمة الصحة العالمية، لا يمكن خلق عالم خالٍ من الوباء فنحن نعيش في كوكب مليء بملايين من مسببات الأمراض، لكن يمكن منع معظم الأوبئة من الانتشار والحد من أضرارها، ومن المؤكد أن جهودًا كبيرة وتقدمًا هائلًا قد حدثا في مواجهة الأوبئة، فهناك أنظمة لمراقبة مسببات الأمراض في الحياة البرية، ومختبرات متطورة لمطابقة التركيب الجيني للفيروسات، ومستشفيات مجهزة وشركات عملاقة للأدوية وهيئات وطنية لمكافحة الأوبئة وشبكات دولية للتنسيق وتبادل المعلومات وإعداد الدراسات وإصدار التوصيات، ومع ذلك، وكما جاء في تقرير تقييم قدرة العالم على منع واحتواء تهديد صحي عالمي العام الماضي، أن كل هذا ليس فعالاً وأن هناك بشكل مستمر فجوات خطرة في الإرادة السياسية وفي التمويل المستدام وفي قدرات النظم الصحية الوطنية وفي البحث والتطوير وفي التنسيق العالمي.
تكاد الفجوات تملأ كل شيء، ورغم كل هذا التقدم التكنولوجي والعلمي يقف العالم اليوم عاجزًا يواجه وباء كوفيد 19 فعليًّا بإجراءات العزل والحظر المتبقية من العصور الوسطى، فلماذا؟
الأوبئة ليست حدثًا صحيًّا فقط، حسب منظمة الصحة العالمية، لكنها ظاهرة اقتصادية واجتماعية وسياسية، وهذا حقيقي جدًّا، فجذور ظهور وانتشار الأوبئة ومدى تأثيرها على الأفراد والدول، وفعالية أو قصور سبل المواجهة مرتبطة بالنموذج الاقتصادي والسياسي السائد ارتباطًا قويًّا.
بداية، فالزيادة غير المسبوقة في معدل ظهور الأوبئة الناشئة ترتبط بالنموذج الاقتصادي الحالي الذي يعتمد على الحصاد المجحف للموارد الطبيعية، حسب البنك الدولي فتدمير الموائل الطبيعية وإزالة الغابات والتقارب الشديد بين الإنسان مع الحياة البرية هي أسباب زيادة ظهور الأوبئة، وهو ما يحدث عندما نزيل الغابات ونقطع الأشجار لبيعها ونحول المساحات إلى مزارع كثيفة ونحَفْر المناجم فيها ونشق الطرق ونبني البيوت، يفقد العالم منذ عام مساحة من الغابات تعادل مساحة إنجلترا سنوياً، وفي الأربعين عامًا الأخيرة فقط فقد العالم 50% من الحياة البرية، ومع استمرار هذا النموذج الاقتصادي الذي يدمر البيئة ويحطم التوازن البيولوجي لتحقيق النمو ليس أمامنا سوى أن نتوقع مزيد من الأوبئة الناشئة.
الحلقة الأساسية في مواجهة الأوبئة هي النظم الصحية، فعليها عبء اكتشاف الحالات الأولى في المراحل المبكرة، ومحاصرة انتشارها وتقديم الرعاية والعلاج وإنقاذ الأرواح أثناء الجائحة. لكن النموذج الاقتصادي والسياسي الحالي، الذي يقلص الإنفاق العام عمومًا يضعف الأنظمة الصحية، حتى الدول الغنية فإن الأنظمة الصحية، لا تكاد تفي باحتياجات السكان في الأوقات العادية، ولهذا تنهار تحت الطلب المتزايد عليها في حالة الأوبئة كما رأينا، وبينما ينفق بسخاء على الجيوش الرمادية حتي تحتفظ بفائض دائم من الجنود والعتاد تحسبًا لمواجهة محتملة، لا يوجه إنفاق مماثل على "الجيش الأبيض" لتوفير فائض من الطواقم والأجهزة الطبية لمواجهة الأزمات الصحية المحتملة، ويدفع المرضى والعاملون الطبيون ثمن الاختيارات السياسية.
وتزداد أهمية وخطورة دور النظم الصحية في اكتشاف ومحاصرة الوباء في الدول التي تقع على الخط الساخن لظهور الأوبئة، وأغلبها للأسف من الدول الفقيرة التي تعاني ضعفًا في أنظمتها الصحية وفي الكوادر المدربة، حيث الاقتصاد العالمي، الذي يوسع الفجوة بين الشمال والجنوب، وبين الأغنياء والفقراء ولا يسمح بالتوزيع العادل للخدمات الصحية، وحيث تقضي إجراءات التقشف التي تفرض على هذه الدول على ما تبقى من موازنات الصحة والعلاج. لن يصبح العالم في أمان من انتشار الأوبئة حتى يصبح الجميع بأمان. لأنه حسب منظمة الصحة العالمية فإن السبب الجذري لانعدام الأمان الصحي هو عدم حصول الأشخاص الأكثر ضعفًا على الخدمات الصحية الأساسية.
حسب منظمة الصحة العالمية لا يسمح النظام الاقتصادي القائم على الربح أيضًا بالإنفاق المطلوب للاستثمار في تطوير اللقاحات وأدوية الأوبئة لأنها غير مربحة، وبينما تبلغ قيمة سوق الأدوية العالمية 1 تريليون دولار، تشكل سوق اللقاحات 3% فقط منه، لقد اكتشف فيروس إيبولا عام 1976 وانفجر للمرة الرابعة والعشرين عام 2014 ، وطوال كل هذه السنون لم تهتم أي الشركات العملاقة ولا الحكومات الغنية بتطوير لقاح ضده، خصوصًا لأنه ظل حبيس القارة الإفريقية الفقيرة. يمكن- حسب بيل جيتس- الاستثمار في تطوير تقنيات لتسريع إنتاج اللقاحات إلى عدة أسابيع بدلًا من عدة شهور كما هو الحال، لكن أيضا لا الشركات ولا الحكومات ترغب في تمويل هذا الإنفاق بدلا من الاستثمار في المنتجات المربحة.
يكافح العالم التهديدات من الأوبئة كل مرة على حدة، سواء كانت سارس أو الإيدز أو كوفيد 19، متبعًا نهج رد الفعل وإطفاء الحريق دون مواجهة جذور الأزمة، ولهذا لا يصبح العالم مستعدًّا حقًّا لمواجهة الأوبئة.
وهذا النهج ، بالمناسبة، هو أيضًا سبب فشل العالم في مواجهة التغير المناخي، إذ تشحذ الجهود وتبذل المساعدات عند حدوث كارثة فيضان كان أو إعصار أو موجة حر قاتلة، لكن، رغم الجهود المبذولة هنا وهناك، فستظل مخاطر التغير المناخي تتزايد، لأنه لا تتم معالجة جذور الأزمة الكامنة في النظام الاقتصادي عالي الكربون وكثيف الاستهلاك للموارد والملوث للبيئة.
في مواجهة الأوبئة يعيش العالم مرارًا وتكرارًا دورات من الهلع التي يعقبها النسيان والذعر يعقبه التراخي. وبدون معالجة جذور الأزمة سيكون كوفيد 19 مجرد نوبة أخرى من هذه النوبات، وعلينا انتظار النوبة القادمة.
نشر هذا المقال علي موقع الشروق بتاريخ 18 مايو 2020