تعديلات قانون رعاية المريض النفسي: تقهقر إلى الوراء
تقدمت الحكومة فى نوفمبر الماضى بمشروع لتعديل قانون رعاية المريض النفسى رقم 71 لسنة 2009 إلى مجلس الشعب وتقوم لجنة الصحة فى المجلس حاليا بمناقشة هذه التعديلات، ورغم ما نصَت عليه المذكرة الإيضاحية المصاحبة للمشروع من أن تعديلات القانون «توفر مزيدا من الضمانات لحقوق المريض النفسى بتوفير حماية كافية للمريض ضد سوء المعاملة والاستغلال» فإنها فى الواقع تنتقص من هذه الحماية وتنتهك حقوق المريض النفسى فى العلاج وفى السلامة الجسدية وتعيد التشريعات المصرية القهقرى.
ولقد أقلقت هذه التعديلات بالفعل عددا من جمعيات وخبراء الطب النفسى الدوليين والمشهود لهم بالكفاءة، حيث أرسلت الجمعية العالمية للطب النفسى، الممثلة فى 120 دولة فى أنحاء العالم، والفدرالية الدولية للطب النفسى، ومستشارة منظمة الصحة العالمية وعدد آخر من الأساتذة البارزين خطابات إلى الأمانة العامة للصحة النفسية وإلى أعضاء مجلس الشعب يعربون فيها عن انزعاجهم من هذه التعديلات، خصوصا المتعلقة منها بالعلاج الكهربائى، والتى تعارض الاتفاقيات والمبادئ الدولية وتوصيات منظمة الصحة العالمية وكذلك التقاليد الطبية المستقرة فى علاج المرضى النفسيين.
***
لقد صدر قانون رعاية المريض النفسى، الذى تستهدفه التعديلات، عام 2009 ليستبدل بالقانون الذى كان يحمل اسم «قانون حجز المصابين بأمراض عقلية» الصادر عام 1944، عندما كان المرض النفسى يعتبر خللا دائما لا يكاد يوجد أمل فى شفائه أو السيطرة على أعراضه وحيث كان يتم احتجاز المرضى فى المستشفيات ربما مدى الحياة، وقد ظل هذا القانون ساريا فى مصر أكثر من ستين عاما رغم الانقلاب العلمى الكبير واكتشاف الأدوية والعلاجات النفسية الناجعة فى النصف الثانى من القرن الماضى ورغم تكشف العديد من القصص المروعة عمَا يحدث للمحتجزين خلف أسوار المستشفيات وتعرضهم لشتى أنواع الانتهاكات والعلاجات القسرية وخصوصا العلاج الكهربائى والتقييد الجسدى وسوء المعاملة وأيضا سوء استغلال النفوذ.
تكمن الركيزة الأساسية فى حماية المريض النفسى فى وضع ضوابط على الحجز والعلاج الإجبارى، فالطبيب النفسى يملك سلطة إصدار قرار بحجز المريض إجباريا وإعطائه علاجا رغم إرادته قد يشل قدرته على الاعتراض أو المطالبة بحقوقه، لذا تضع القوانين الحديثة ضوابط لمراجعة قرار الطبيب المعالج والحصول على وجهة نظر طبيب آخر مختص ومسجل ومن خارج المنشأة ولا تربطه صلة بالطبيب الأول (تقييم مستقل) قبل علاج المريض المحتجز، وقد اهتمت القوانين بالعلاج الكهربائى على وجه خاص ووضعت ضوابط محددة لاستخدامه سواء فى حالات موافقة المريض أو ضد إرادته، وقد سعى قانون 2009 إلى مواكبة التطورات العلمية فى هذا المجال واتباع هذه الضوابط المستقرة والمتعارف عليها.
لكن التعديلات المطروحة تضرب عرض الحائط بهذه الضوابط، وتفتح باب إساءة استخدام العلاج الكهربائى على مصراعيه وضد مصلحة المريض، حيث تنص على إمكانية إعطاء المريض جلستين من العلاج الكهربائى «عند اللزوم» دون انتظار رأى طبى مستقل! ليس مفهوما حقا ما هو اللزوم الطبى لهذا الاستثناء، أو ما وجه الاستعجال، ومن يحدد هذا اللزوم، وهل سيتبع هذا الاستعجال أيضا إغفال عرض المريض على اختصاصى الأمراض الباطنية، وإغفال استدعاء طبيب التخدير وإغفال منع المريض من الطعام لمدة 6 ساعات على الأقل كما يجب قبل الجلسات، وكيف يتوافق اللزوم والاستعجال مع كل هذا ومع السماح بجلستين يفصل بين كل جلسة وأخرى ثلاثة أيام على الأقل؟!
وإذا كانت جميع حالات الدخول الإلزامى، بطبيعتها، حالات طوارئ تتطلب علاجا عاجلا وغالبا إجباريا، فهل قد يعنى هذا أن جميع المرضى الذين تم دخولهم إجباريا معرضون لتلقى العلاج الكهربائى بدون أخذ وجهة نظر طبيب آخر.
فى كل الأحوال تنص توصيات منظمة الصحة العالمية المتعلقة على أنه لا يجوز أن يشمل العلاج الطارئ «استخدام العلاج الكهربائي… أو أيا من العلاجات التى لا يمكن الرجوع عن آثارها مثل الجراحات النفسية» فهل تضرب التعديلات عرض الحائط أيضا بتوصيات منظمة الصحة العالمية؟
العلاج الكهربائى مثل التدخل الجراحى يتم تحت تخدير كامل وباسط للعضلات، وتتضمن سجلات المستشفيات العديد من الحالات التى تعرضت لمضاعفات وأحيانا للوفاة عند استخدام العلاج بالصدمات الكهربائية، ويلزم التأكد من تطبيق ضوابط استخدامه وليس التوسع فيها وفتح الثغرات لسوء الاستغلال.
***
لقد استخدمت التعديلات المطروحة مصطلحا غير متفق عليه فى الأوساط الطبية هو «ضبط إيقاع المخ» بدلا من العلاج الكهربائى أو العلاج بالصدمات الكهربائية، وهو مصطلح وصفه الخبراء بأنه زائف وبالتالى مضلل، وربما الغرض منه تمرير التعديلات بسهولة لدى غير الخبراء والمتخصصين، ومن المؤسف حقا أن تنشغل الحكومة بهذه الأساليب وبطرح تعديلات تخالف الأعراف والمبادئ والتزامات مصر الدولية، وتعيد إلى التطبيق أحكاما بالية تخطاها الزمن وتسمح بسوء استخدام النفوذ. نأمل بدلا من هذا أن تنشغل الحكومة بمشروعات تحمى حقوق المرضى النفسيين وتحسِن من خدمات الصحة النفسية وأحوال المستشفيات العامة التى تعانى بالفعل نقصا شديدا فى الأطباء والتمريض والتمويل والتجهيزات.
نشر هذا المقال علي موقع الشروق بتاريخ ٢٧ ديسمبر ٢٠١٩