الصالح العام والقرابين البشرية
أصدر السيد رئيس الوزراء في مارس الماضي قرارًا بتعديل اللائحة التنفيذية لقانون البيئة، منحت التعديلات الشركات والمنشآت التي تستخدم الفحم عددًا من الاستثناءات والتسهيلات التي نعتقد أنها تُضعِف من الشروط والمعايير المطلوبة لحماية البيئية والصحة من الخطر، وعلى الأخص الاستثناء المتعلق بالتجاوز عن شرط المسافة بين أماكن تخزين واستخدام الفحم وبين المناطق والتجمعات السكنية. فقد استحدثت المادة الرابعة من اللائحة المعدلة استثناءً يُعفي محطات تخزين الفحم من شرط الابتعاد ثلاثة كيلومترات عن التجمعات السكنية، الذي كانت تشترطه اللائحة السابقة، وذلك «لدواعي الضرورة» حسب نص المادة. يزيد من خطورة هذا التعديل أنه ليس الأول في هذا السياق، فقد سبق أن منحت اللائحة التنفيذية التي صدرت عام 2015، استثناءً للمنشآت التي تحرق الفحم من شرط الابتعاد عن التجمعات السكانية وذلك أيضًا في «حالات الضرورة والصالح العام».
تعتبر هذه التعديلات شديدة الخطورة، لعواقبها الوخيمة على صحة وحياة السكان في تلك المناطق، ولأنها بهذا تفتقد أيًّا من المبررات التي قد تسوغ شرعية إصدارها. لا يتحقق الصالح العام للمجتمع عبر التضحية بحياة بعض أفراده من تعساء الحظ، بتقديمهم كقرابين بشرية كما كانت الجماعات القديمة تفعل، فنحن نعرف جيداً أن هذه الطقوس القاسية لم تكن مجدية سواء في اتقاء الضرر أو في جلب المنفعة، وإذا كان ما يشفع لهذه المجتمعات افتقارهم للمعرفة وخوفهم في مواجهة العالم، فلا يوجد ما يشفع لنا.
فمن المعروف أن الفحم أسوأ أنواع الوقود على الصحة والبيئة حتى في ظل استخدام أفضل المعايير البيئية، وقد أكدت دراسات عديدة هذه الأضرار، ولعل من أهم هذه الدراسات، الدراسة التي أصدرها «تحالف الصحة والبيئة» الذي يتكون من 65 منظمة معنية بالصحة والبيئة في أوروبا، والتي قدرت أن تلوث الهواء الناتج عن حرق الفحم يتسبب في وفاة حوالي 18000 شخص سنويًّا في الاتحاد الأوروبي،وأضعاف هذا العدد من المرضى، وأن تكلفة هذا العبء الصحي تبلغ حوالي 42 مليار يورو سنويًّا، وخلصت دراسة أخرى أجرتها جامعة هارفاردإلى أن هذه التكلفة ترتفع في الولايات المتحدة، لتصل إلى حوالي 500 مليار دولار بإضافة أعباء التعدين والنقل والتخزين.
يستخدم الفحم في مصر حاليًّا في صناعة الأسمنت، حيث كان لوبي الأسمنت قد نجح في إقرار استخدام الفحم كبديل رخيص للطاقة بدلًا من الغاز عام 2014. والأسمنت نفسه من الصناعات الشديدة التلويث للبيئة والضارة بالصحة خصوصًا على السكان المقيمين بالقرب من مصانع الأسمنت الذين سيتعرضون لخطر مضاعف من الفحم ومن الأسمنت. وهناك عديد من الدراسات التي أجريت لبحث هذا الموضوع، منها دراسة أجريت على كامل سكان بلدتين إيطاليتين ضمت كامل سكانهما واستمرت على مدار 3 سنوات، وأثبتت بما لا يدع مجالًا للشك العلاقة بين التعرض لانبعاثات الأسمنت وارتفاع أعداد الإصابات الحادة في الجهاز التنفسي والقلب والأوعية الدموية، خصوصًا لدى الأطفال. وهي النتائج التي تماثل ما أثبتته دراسات أجريت في بونس في بورتوريكو وفي إيويكوروابنيجيريا وفي كشمير بالهند وفي غيرهم أيضًا.
هذه المعرفة ليست غائبة عنَّا في مصر ولا بعيدة عن صاحب القرار، فالدراسة الصادرة عن هيئة التنمية الصناعية نفسها عام 2010 توضح أن مصنع الأسمنت المتوسط يتسبب في تلويث مساحة قطرها 10 كيلو مترات. وكانت دراسة أعدتها وزارة البيئة في مايو 2014 بعنوان «الاشتراطات والمعايير البيئية لدمج الفحم ضمن مزيج الطاقة لصناعة الأسمنت»، قد أوصت بعدم استخدام الفحم في المناطق السكنية، وعلى أن يبعد مكان استخدام الفحم عشرين كيلومترًا عن نهر النيل وعشرة كيلومترات عن أقرب كتلة سكنية على الأقل. كما تضمنت التوصيات الختامية لدراسة أخرى للوزارة في مارس 2014 بعنوان «مزيج الطاقة والمعايير الأوروبية لصناعة الأسمنت وتحديات ومتطلبات تنفيذها في مصر» بأنه في حال استخدام الفحم في مصانع الأسمنت فإن هناك 6 مصانع (من مجموع 21 مصنعًا) لا يمكن السماح لها إطلاقًا باستخدام الفحم لوجودها في مناطق سكنية. وهو ما لم يؤخذ به للأسف عند التنفيذ.
إذن فالضرر ثابت وهو أيضًا معلوم.
والقاعدة في إصدار القرارات الإدارية هي أنها جميعها وبغير استثناء يجب أن تستهدف تحقيق المصلحة العامة، ويكون القرار الإداري مشوبًا بالانحراف في السلطة إذا خالف ذلك. من المفترض أن ينصب هدف تعديلات اللائحة إذن على تنفيذ مبادئ حماية البيئة والصحة وليس الضرر بها. وبخاصة أنه ليس حقيقيًّا أن استخدام التقنيات الحديثة كفيلة بحماية السكان والبيئة من الضرر، فكما رأينا هذا غير صحيح، وإنه ليس حقيقيًّا أن هذا خطأ السكان الذين أتوا للسكن بجوار المصانع، أولاً لأن هذا غير صحيح في بعض الحالات على الأقل، حيث كانت المصانع هي التي أتت لتجاور السكان، مثل ما حدث في وادي القمر في الإسكندرية وحلوان في القاهرة، وفوق ذلك فإتاحة السكن الملائم والصحي خصوصًا لغير القادرين هو واجب الدولة في الأساس.
وفي الأخير ليس حقيقيًّا أن تشجيع النمو الاقتصادي والاستثمار على حساب الصحة والبيئة يحقق تلقائيًّا تحسين أحوال المجتمع أو أي صالح عام، فحسب دراسات صندوق النقد الدولي ذاته فإن السياسات التي تؤدي إلى إثراء الطبقات الغنية، لا تنساب فوائدها إلى باقي طبقات المجتمع الأدنى، لكنها توسع الفجوة بين الطبقات وتبطئ النمو الاقتصادي وتعطله وهو ماحدث في مصر بالفعل، إذ خلال العقود الماضية حققت مصر معدلات نمو مرتفعة ومع ذلك نجد أن معدلات الفقر ارتفعت بشكل مستمر وكذا معدلات البطالة وأيضًا الفجوة بين الفقراء والأغنياء، بحسب ما ورد في خطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية 2014-2015، الصادرة عن وزارة التخطيط المصرية.
يصعب حقيقة تصور بواعث «الضرورة والصالح العام» التي تتحقق من السماح باستخدام وتخزين الفحم قرب التجمعات السكنية، هذه البواعث التي تجيز الإضرار بصحة آلاف السكان المعرضين أصلًا للخطر بحكم سكنهم قرب المصانع، والتي تزيد التزامات الدولة لتوفير الرعاية الصحية لهم. في الواقع لا تحقق التسهيلات والاستثناءات التي أتت بها تعديلات اللائحة، سوى المصلحة الخاصة لبعض أصحاب المصانع والشركات التي تحرق الفحم أو تخزنه قريبًا من التجمعات السكنية، وذلك في خفض النفقات وزيادة أرباحها المرتفعة أصلًا، بالرغم من العبارات الفضفاضة التي وضعها السيد رئيس الوزراء (الضرورة والصالح العام) لتمرير القرارات وجعلها مشروعة.
تم نشر هذا المقال عبر منصة المصري اليوم بتاريخ 4 مايو17 20