حتى يكون اعتذار الرئيس لنساء مصر مقبولا
لم يكن الرئيس عبدالفتاح السيسي، أول مسئول مصري على رأس الدولة، يتوجه إلى مستشفى عسكري لزيارة مواطنة مصرية، تعرضت لأبشع أنواع الإنتهاكات في قلب ميدان التحرير. سبقه إلى ذلك المشير حسين طنطاوي في ديسمبر 2011، حين توجه الى مستشفى القبة العسكري، لزيارة هند نافع بدوي، إحدى ضحايا أحداث مجلس الوزراء. لم تُلتقط صور للمشير طنطاوي داخل غرفة هند، ليس فحسب لأنه لم يكن يحمل باقة أزهار حمراء، ولكن أيضا لأن هند انتابتها نوبة غضب ورفضت استقباله.
تروي هند ـ التي كانت تبلغ 22 عاما حينها ـ كيف أن مائة يد امتدت تعبث بجسدها العاري، في هذا المقطع الذي تم تسجيله معها داخل المستشفى، بعد أيام قليلة من إصابتها. وبدلا من التحقيق مع من إتهمتهم هند بإنتهاكها وتعذيبها، أثناء إحتجازها ـ أو بالأحرى إختطافها ـ داخل أروقة مجلس الشورى، تم إتهامها هي بالاعتداء على القوات المسلحة ـ ضمن 269 آخرين ـ في قضية لا تزال منظورة أمام القضاء، بينما أوصدت كل الأبواب التي طرقتها هند ساعية لتحقيق العدالة، ولضمان أن ما حدث لها لن يتكرر مع غيرها.
هل يأمر الرئيس بالتحقيق الفوري والجاد، مع من إنتهكوا هند من أفراد القوات المسلحة، الذين كانوا يرتدون الزي الرسمي، وقدمت هند ضدهم بلاغا، تضمن أسماء اثنين ممن أشرفوا على انتهاكها؟ أم سيطلب من إدارة الـ"يوتيوب" حذف كل فيديوهات أحداث مجلس الوزراء، وعلى رأسها الفيديو الأشهر لـ"ست البنات"، التي تم سحلها وتعريتها وإنتهاكها، في مشهد أثار غضب الآلاف من نساء مصر؟ بدورهم شاهد أعضاء المجلس العسكري ذلك الفيديو حينها، وقدموا الإعتذار في الرسالة 91 التي اعرب فيها المجلس العسكري عن أسفه لنساء مصر عما حدث من "تجاوزات"، وأكد المجلس تقديره الكامل لهن ولحقهن في التظاهر، ووعد بـ"اتخاذ جميع الإجراءات القانونية لمحاسبة المسئولين عن هذه التجاوزات".. إلا أن أحدًا لم يُحاسَب.
كل اعتذار لم تعقبه محاسبة، أدى الى استمرار هذه الانتهاكات وتفاقمها، سواء رأيناها في مقاطع فيديو، أو طوتها جدران الأقسام والسجون.
ربما مثلت أحداث "الأربعاء الأسود" في 25 مايو 2005، نقطة تحول في الانتهاكات التي ارتُكبت ضد نساء مصر، على أيدي أشخاص يحملون صفة رسمية، ويفترض فيهم ليس فحسب احترام القانون وإنفاذه، ولكن أيضا منوط بهم تحقيق الحماية والأمن لهؤلاء اللاتي قاموا بالاعتداء عليهن.
لا أزعم امتلاك تفسيرات قاطعة، تفك لغز تفاقم التحرش الفردي والجماعي والانتهاكات الجنسية على مدار السنوات الأخيرة، ولكن أزعم أن هناك كرة ثلج بدأت في التدحرج منذ ذلك اليوم ـ الأربعاء الأسود ـ حين عبثت الأيدي بنساء مصر، في وضح النهار أمام نقابة الصحفيين، تحت ناظري اللواء اسماعيل الشاعر (رئيس مباحث القاهرة آنذاك). يومها كان العشرات من النشطاء قد استجابوا لدعوة حركة كفاية، للاحتجاج على التعديلات الدستورية، التي كان نظام مبارك بصدد تمريرها، تمهيدا لتوريث حكم آل مبارك إلى ابنه جمال.
تروي نوال علي إحدى ضحايا الأربعاء الأسود ما حدث لها، حين تواجدت مصادفة أمام نقابة الصحفيين في ذلك اليوم: "كانت أيديهم تعبث بصدري، ويتحرشون بكل المناطق الحساسة فى جسدي، مزقوا ملابسي واعتدوا علي بأيديهم... وقعت بوجهي على الأرض وفوجئت بعدد كبير من هؤلاء البلطجية فوقي، يتحرشون بي مرةً ثانية ويعبثون بكل مناطقي الحساسة. بدأت في الصراخ طالبةً النجدة وظللت أصرخ إلى أن فقدت الوعي. لم يكونوا يحاولون أن يضربونني، ولكنهم كانوا يعتدون علي جنسيًا، وكانوا يمزقون ملابسي بكل وضوح. وانتهى بي الأمر وأنا عارية تقريبًا نتيجةً لذلك".
ماتت نوال علي في 2009، دون أن يعتذر لها أي مسئول في الدولة، أو يحمل لها باقة أزهار حمراء، أو يأمر بمحاسبة من اعتدى عليها. وحتى اليوم، لم تستجب السلطات المعنية لقرار اللجنة الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب، الذي طالب الحكومة بإعادة فتح التحقيقات في وقائع الأربعاء الأسود ومحاكمة المتهمين، وتعويض الشاكيات عن الأضرار الجسدية والنفسية التي تعرضن لها.
هل من الممكن أن نثق في أن أفراد الشرطة سيقومون بحماية نساء مصر من جرائم التحرش، طالما لم يحاسب أفراد من الشرطة أيضا ارتكبوا نفس الانتهاك ولم يحاسبوا؟
هل من الممكن أن يكون اعتذار الرئيس مقبولا، بينما هناك 17 فتاة انتهكن في السجن الحربي في 9 مارس 2011، وتمت تعريتهن وأخضعن لأمر خارج نطاق العقل، ولم يرد في أي قانون ـ هو كشف العذرية ـ بينما اعتبره قادة الجيش حينها "اجراء روتيني"؟ هل تابع الرئيس قصة سميرة ابراهيم التي قدمت بلاغ الى النيابة العسكرية، حول ما حدث لها من انتهاك داخل السجن الحربي، فما كان من القاضي العسكري سوى تبرئة متهم واحد في القضية، هو طبيب ـ عسكري أيضا ـ وأغلق باب العدالة في وجهها؟
هل تخبرنا السلطات المختصة بما أفضت اليه التحقيقات فى واقعة قيام ضابط شرطة برتبة رائد بخطف واغتصاب موظفة بإحدى الشركات الخاصة في القاهرة الجديدة تحت تهديد السلاح بعد توقيفها في كمين بطريق القاهرة - العين السخنة في مايو 2013.
طالما استمرت حالة غياب المحاسبة والإفلات من العقاب، التي ينعم بها مرتكبي الانتهاكات والجرائم ضد نساء مصر، من قبل مرتدي الزي الرسمي وأصحاب الرتب، فلا فائدة تُرجى من الاعتذارات. حتى يكون اعتذار الرئيس مقبولا، ينبغي أن تفتح كل تلك الملفات، وتكون هناك محاسبة شاملة، تضمن إنفاذ القانون على الجميع، وأولهم الموظفين الرسميين في الدولة، وبالتالي تضمن الردع، وتضمن عدم تكرار تلك الجرائم.
لا شك في أن ما فعله النقيب مصطفى ثابت، الذي تدخل لإنقاذ إحدى ضحايا الاغتصاب في ميدان التحرير، يوم 8 يونيو، هو أمر يستحق الإشادة والاحترام. تدخل النقيب مصطفى مستخدما سلاحه الميري، وأطلق النار في الهواء لتفريق عشرات المعتدين، الذين كانوا ينهشون في جسد الفتاة العاري، وذكر النقيب مصطفى أيضا في تصريح صحفي أنه "خالف التعليمات" لأن "التعليمات الواردة من الوزارة إلينا كضباط تمنع من دخول الميدان".
كان النقيب مصطفى يقوم بواجبه ـ الذي لم تنص عليه التعليمات ـ مسلحا بمسدس ميري.
لا مشكلة لدي في التكريم والاهتمام الاعلامي الذي حظى به النقيب مصطفى، لأنه قطعا تصرف بشجاعة بالغة، والأهم أنه تصرف بما يمليه عليه ضميره وواجبات مهنته ـ التي يفترض أن تحكم عمل كل أفراد الشرطة ويفترض أيضا أن تنص عليها "التعليمات". ولكني أتذكر بمرارة، كيف رأيت عن قرب عشرات الشباب والفتيات من المتطوعين والمتطوعات، في قوة ضد التحرش/الاعتداء الجنسي الجماعي ـ منذ تأسيسها في نوفمبر 2012 ـ يأخذون على عاتقهم التدخل لإنقاذ عشرات من ضحايا التحرير والتظاهرات الأخرى، وهم بلا سلاح يعينهم أو يحميهم، مخاطرين بسلامتهم الجسدية والنفسية، من أجل انقاذ هؤلاء الفتيات، وضمان حد أدنى من الشعور بالأمان للنساء المشاركات في التظاهرات، بعد أن تصاعدت جرائم الانتهاكات الجنسية خلال تلك التظاهرات، دون أي تدخل من أفراد الشرطة على مدار الأعوام الثلاثة الماضية، بل وأحيانا في ظل تعنت سلطات المستشفيات مع متطوعي القوة، وعدم تقديرهم لما يقومون به من محاولات لتقديم الإسعاف والمساعدة للضحايا من الفتيات.
تحية واعتذار وباقة أزهار حمراء مني لتلك المجموعة، التي عرفت فيها فتيات وشباب من أنبل وأشجع من رأيت.. هؤلاء من تحملوا بلا أي مقابل، ودون أن ينتظروا تكريم ما، جبنت أنا عن تحمله لأني رأيته فوق طاقة البشر.
تم نشر النشر بمدي مصر بتاريخ 16 يونيو 2014