تغريبة الثوار..عن الانتصار بطعم الهزيمة
ايد واحدة..ايد واحدة"
حين كنا ننبح أصواتنا في التحرير بهذا الهتاف كنا نصدقه. كنا موقنين أن كل الموجودين هنا وأرواحهم على كفوفهم "ايد واحدة" ضد الفساد والظلم، "ايد واحدة" من أجل اسقاط النظام المباركي بعد أن فاض بنا جميعا الكيل.
في يوتوبيا التحرير اختلفت مشارب الموجودين ومذاهبهم ووحدتهم الأهداف: "عيش. حرية. عدالة اجتماعية".
حررتنا الهتافات من الخوف ومن المواقف المسبقة. لم نعرض عن ملتح ولم يعرض هو عنا –نحن السافرات، بل كان مستعد للموت من أجل حمايتنا. كنا نؤمن أن الحرية التي خرجنا من أجلها تسع الجميع وأن القادم للجميع أفضل.
تغير الكثير في التحرير اليوم.
بعد أن كانت جناحات خفية تحملني الى التحرير، صارت قدماي تخذلاني وأنا أمضي صوب الميدان بعد شهادات التحرش الجماعي وحوادث الاغتصاب هناك. لم يعد في التحرير -الميدان الذي ولدت فيه من جديد- مكان آمن لي.
ولم يعد هتاف "ايد واحدة" هتافي.
انهزم هذا الهتاف مرارا بعد فيراير 2011، وانهزم الى الأبد في أحداث الاتحادية. حينها امتدت أيادي من كانوا "ايد واحدة" لتنال من بعضهم البعض. ابتلعنا مرارتنا ووقفنا نصرخ في وجه الظلم: "احلق دقنك..بين عارك..تلقى وشك وش مبارك". كانت مشكلتنا مع الاخوان أنهم أثبتوا بما لا يدع مجال للشك أنهم ربائب نظام مبارك ولا يرغبون بعد الوصول الى السلطة سوى في الحفاظ عليه. بالنسبة لي شرعية محمد مرسي سقطت منذ أن سالت الدماء وأقيمت غرف التعذيب على أبواب الاتحادية.
ما المطلوب اذن؟
كان المطلوب بالنسبة لي "هنفضل ثورجية لحد ما نوصل للحرية".
إلا أن ما حدث كان استدعاء "الايد الواحدة" مرة اخرى.
في ال18 يوم الأوائل للثورة هتفتها مع الهاتفين للجيش. كنا نتعامى عن تواطىء الجيش مع مبارك لأننا أردنا قارب نجاة. كنا نعتقد أن الجيش قادر على انتشالنا الى حيث لا خوف ولا ظلم ولا داخلية حبيب العادلي-الذي لم يختلف عنه وارثوه.
اليوم تهتف الجموع "ايد واحدة" أمام سيارات الأمن المركزي، وتغني وترقص مع الضباط أمام أقسام الشرطة من أجل "صلح تاريخي" مع "شرطة الشعب".
من هؤلاء؟
الذين يرتدون بطاقات حمراء بلاستيكية مكتوب عليها "ارحل يا مرسي" حول أعناقهم في شكل موحد وتنقلهم ميكروباصات عرفناها جيدا قبل وأثناء الثورة.
هل كانوا معنا يوم جمعة الغضب؟ هل شاهدوا فض الاعتصام الذي فجّر أحداث محمد محمود؟ هل شاهدوا سحل حمادة صابر أمام أسوار الاتحادية منذ بضعة أشهر؟
هي ليست الثورة اذن كما كنا نعرفها. وهي قطعا ليست "ثورة 30 يونيو". لا يوجد سوى ثورة واحدة نعرف أحداثها جيدا وسنحرص على أن نقلّ راحة الجميع بالتذكير الدائم بها.
من خرج يوم 30 يونيو؟
خرجنا نحن أصحاب الخروج الأول وكلنا مرارة. لا نريد أن نستجير من الفاشية الدينية بالفاشية العسكرية التي خبرناها من قبل. خرجنا نحن لأن الإخوان المسلمين اضطرونا لذلك بطغيانهم وبعلوهم في الأرض بعد أن مكنّاهم بأصواتنا. ترددنا في الخروج بسبب تحالف كل من كانوا ضدنا من قبل معنا في الخروج هذه المرة.
خرج آخرون لأنهم لم يجربوا الخروج الأول، أعطتهم "تمرد" فرصة للاحساس بقدرتهم على المشاركة. شعروا –أخيرا- أن هذه بلدهم وأنهم ليسوا أقل حرصا عليها منا. ربما كان هؤلاء القطاع الأكبر. وربما أيضا لهؤلاء –ولنا- أقارب وأصدقاء موجودين الآن في جامع رابعة.
خرج آخرون لأنهم يحتقرون الإخوان المسلمين –بينما كانوا يُقدرّون مبارك. هؤلاء صرحاء مع أنفسهم ومعنا. لا يريدون شخصا لا يتقن الانجليزية وزوجته لا تذهب الى مصفف الشعر رئيسا لهم. هم أيضا لا يأبهون بالعدالة الاجتماعية، ولا بالحرية في مطلقها، ولا بالمساواة طبعا. هم طلاب أمن واستقرار في المجمل. هؤلاء يظنون أنهم خرجوا لاصلاح ما أفسدناه نحن في الخروج الأول. هؤلاء سيصفقون بعد أيام قليلة لمحو ذاكرة 25 يناير وتثبيت ذاكرة 30 يونيو.
خرج آخرون لأن الكيل قد فاض بهم من سوء كل شيء فحسب. الاخوان جعلوا كل شيء أسوأ. حقيقي الى حد كبير. ولكن كيف اختفت طوابير البنزين فجأة كما ظهرت فجأة؟ كلنا نشك. قليلون يجاهرون بشكوكهم. ولا أحد يعرف على وجه الدقة.
من حوّل الثورة الى "زفة بلدي" تسب مرسي وتستنجد بالسيسي؟ ثم تهتف "الشعب خلاص أسقط النظام" وتحتفل؟
هتفناها من قبل بفرح مفرط السذاجة ودفعنا الثمن. رأينا كل هذا من قبل. الألعاب النارية. الرقص في الميادين. الفرحة الخالصة بلا تفكير فيما سيلي. ثم كان كل ما جاء من بعد "اسقاط النظام" يوم 11 فبراير قاسيا.
تندرنا على "الدولة العميقة" الفاشلة التي لم تتنبأ بثورة 25 يناير. ولكنها اليوم تستحق منا التحية. هي موجودة وفاعلة.
ماذا الآن؟
يقول الأصدقاء: لا أخلاق في السياسة. اذا أردنا التخلص من بطش الاخوان كان علينا التحالف مع الشيطان. لم يسألني أحد رأيي قبل أن يستلم الشيطان مفاتيح الثورة.
أيضا لم يسألني من قال أن هتاف "يسقط حكم العسكر" كان للوقيعة بين الجيش والشعب. لو سالني كنت ذكّرته أن جرائم العسكر تحدثت عن نفسها، وأن دبابات العسكر التي قتلت مينا دانيال هي ما أجرت هذا الهتاف على لساني. كنت سأقول له أن شارع محمد محمود حمل لنا الحقيقة الكاملة: تحالف العسكر والداخلية من أجل قمع الثورة مرة واحدة وإلى الأبد، وتخلّي الاخوان عنا من أجل الصناديق والصفقات. والعبث أن يهتفه ضدنا الواقفون في رابعة اليوم-هم أنفسهم هتفوا يا مشير انت الأمير حين بح صوتنا هتافا ضد العسكر ومشيرهم. والعبث أن بعض رفاق الثورة يقولون "مش وقت الهتاف ضد العسكر" من باب البراجماتية التي يجب أن نختار فيها أولويات معاركنا.
هل اخترنا معاركنا يوما أصلا أم فرضت علينا كل المعارك؟
كل مرة خضنا المعارك في التحرير كنا نرى الحقيقة الكاملة. كنا نلمس الحلم مغموسا في دماء طاهرة سالت في سبيل الحق والحرية.
هذه المرة لا أرى حقائق ولا أحلام. أرى كوابيس أتمنى أن أفيق منها فورا.
انتصرنا على جبروت الاخوان؟ فليكن. ولكن الثورة لم تنتصر بعد. وينبغي أن تستمر الثورة الى أن تنتصر. محطة الثورة على "السلطوية الاسلامية" ليست هي محطة ذبح الاسلاميين.
لا أريد أن أشارك في ذبح الاسلاميين ولا أحتقرهم. كنت أريد أن تهزمهم الصناديق. وكنت موقنة أن ذلك سيحدث في القريب العاجل. أعرف أن غباء الاخوان وجبروتهم هو ما دفع بنا دفعا الى هزيمة الحلم الأول للثورة: حكم مدني ديمقراطي منتخب. ولكني مرعوبة من التعبئة الفاشية ضد الاسلاميين. كنا ننادي بالحرية سويا. لا أريد الآن أن أصفق للبطش بمن أعرف أنهم كانوا في صفي يوم كان آخرون –هم اليوم ينادون بوحدة الصف- يسفهون من مطلب الحرية.
قليل من العقل يا رفاق الحرية، وكثير من القلب السليم.
بين النفعية البحتة لمن يريدون طي صفحة الاسلاميين وصفحة الثورة معا، والواقعية العاقلة التي لا تأبه التحالف مع الشيطان من أجل "مصلحة الثورة"، والرومانسية الثورية التي كتب عليها شقاء التشبث بنقاء الحلم، أختار مكاني بين صفوف الفريق الثالث.
تندروا اذا شئتم. ولكن بدون هؤلاء الحالمين لم تكن الثورة ستولد. ومن غيرهم سيقود المعارك القادمة؟