حقائق وأساطير بشأن العمالة الحكومية.. هل حقا لدينا جهاز حكومي كبير؟
بمناسبة النقاش الدائر حول قانون الخدمة المدنية.. تساءل الرئيس عبد الفتاح السيسي في لقائه المتلفز: هل الجهاز الإداري حجمه حجم طبيعي ومناسب لدولة بحجم مصر؟ عرض أيضًا لتطور فاتورة الأجور وحجم العمالة الحكومية خلال سنوات الثورة، وأرجع زيادتها غير الطبيعية- من وجهة نظره- إلى ظاهرة "المطالب الفئوية". ورغم تعهده بأن القانون الجديد لن يمس حجم العمالة الحالية ولن يمس مقدار فاتورة الأجور؛ فإنه عبر عن عدم رضائه عن تضخم الجهاز الإداري للدولة.
المتابع للخطاب الحكومي حول العمالة المدنية سيجد تركيزًا بالغًا على فكرة محورية هي أن فاتورة الأجور الحكومية مرتفعة بشكل اسثنائي، وهي المسئول الأول عن عجز الموازنة الحكومية. الإلحاح على هذه الفكرة بمختلف الطرق أشاعت حالة من التوجس بين الخاضعين لقانون الخدمة المدنية باعتبار أن الغرض الرئيسي منه هو التخفف من هذا العبء الثقيل على الموازنة عن طريق التخلص من العمالة أو تقليص الأجور.
لم تزد الأجور كنسبة من إجمالي الإنفاق العام زيادة كبيرة خلال الأعوام الخمسة الماضية (حوالي 2% فقط). وهذا على عكس الانطباع بالزيادة في فاتورة الأجور بالمليار جنيه من حوالي 85 مليار جنيه في 2009/2010، إلى حوالي 178 مليار جنيه في السنة المالية 2013/2014، إلا أننا لو أخذنا هذه الزيادة كنسبة ﻹجمالي إنفاق الحكومة خلال الفترة نفسها، سنكتشف أن التطور النسبي للزيادة كنسبة من إجمالي الإنفاق قد تطور من 23.3 % في 2009/2010 إلى 25.4 % في 2013/2014. هذه الزيادة في نفقات الأجور كوزن نسبي ليست بالارتفاع الذي يصوره الزيادة بالأرقام المطلقة[i]. أي أن الأجور في القطاع الحكومي لم تزد بشكل خاص، ولكنها كانت جزءًا من ظاهرة ارتفاع الإنفاق الحكومي بشكل عام.
كذلك إذا قمنا بحساب قيمة الأجور الحكومية كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي[ii]، سنكتشف أنها تطورت خلال الفترة نفسها من 7% في 2009/2010 إلى 8.9% في 2013/2014.
نعم لقد تطورت فاتورة الأجور كقيمة مطلقة، وأيضًا تطور وزنها النسبي من إجمالي النفقات العامة، وكنسبة من الناتج المحلي الإجمالي.
ورغم عدم توفر معلومات موثقة عن حجم عمالة القطاع العام الآن؛ فإن آخر بيانات متاحة على موقع "الجهاز المركزي للتنظيم والإدارة" في 2010، تشير إلى رقم إجمالي يصل إلى 5.6 مليون موظف حكومي، ومتوقع أن تكون هناك زيادة في الأعداد؛ حيث تتحدث بعض التقارير الصحفية عن إضافة حوالي800 ألف موظف بعد الثورة.
ولكن السؤال الذي نطرحه هنا هو: هل تعد هذه النسب مرتفعة بالقياس إلى تجارب الدول الأخرى؟ بغض النظر عن إجابة الرئيس التي أشرنا إليها أعلاه، أو الخطاب الحكومي عن فاتورة الأجور الحكومية؛ فهناك أيضًا تأكيد لدى العديد من المعلقين والإعلاميين وخبراء المؤسسات الدولية والدائنين، ولدى الرأي العام أيضًا، بأننا إزاء وضع استثنائي أو كارثي فيما يخص حجم العمالة الحكومية وتكلفتها.
هذا الانطباع ليس مقصورًا على الاختصاصيين الاقتصاديين، ولكنه يشمل أيضًا علماء السياسة الذين يحاولون تفسير التعثر الديموقراطي بالتضخم البيروقراطي؛ حيث يزداد عدد المواطنين الذين يعتمدون في بقائهم الاقتصادي على دور الدولة السلطوية في خلق الوظائف الحكومية. يسود هذا الانطباع أيضًا في أوساط القوى الثورية؛ حيث ينظر لموظفي الدولة باعتبارهم "حزب الكنبة المحافظ", هذا الحزب الذي خذلهم طوال السنوات الأربع الماضية من عمر الثورة.
هذا المقال لا يبغي الاشتباك مع القضايا التي يطرحها قانون الخدمة المدنية، أو القضايا التي يثيرها التطور الديموقراطي، بقدر ما يبغي أن يجيب عن هذا السؤال البسيط: هل حقا لدينا حكومة متضخمة؟
في محاولة الإجابة عن هذا التساؤل، لا ينطلق المقال من أية مناقشة نظرية حول الحجم الأمثل للعمالة الحكومية من حيث الكفاءة والرشادة الاقتصادية وتكلفتها على الموازنة العامة.
بدلا من ذلك يستند هذا المقال في محاولة تقييمه لحجم الجهاز الإداري وتكلفته في مصر إلى المقارنة مع دول متنوعة من حيث الثروة والشوط الذي قطعته في التنمية.
سنستند في المقارنة إلى دراسة أجراها "صندوق النقد الدولي" في 2010[iii]، لتقييم حجم العمالة الحكومية من حيث التكلفة المالية كنسبة في الموازنة العامة والناتج القومي الإجمالي، وأيضًا من حيث حجم العمالة كنسبة من السكان؛ حيث استندت دراسة الصندوق إلى بنك معلومات منظمة العمل الدولية لقياس الوزن النسبي للعمالة كنسبة من السكان. سنقوم هنا بمقارنة مصر في كل من المؤشرات السابقة مع النتائج المتحصلة من دراسة "صندوق النقد الدولي" المشار إليها.
بشكل عام، الدول المتقدمة تحظى بحكومة كبيرة، بينما تحظى الدول النامية والفقيرة بحكومات أصغر حجمًا. أي أن اقتصادات السوق المتقدمة تعتمد على جهاز دولة كبير، وبخاصة في مجالي التعليم والصحة.
إذا عقدنا هذه المقارنة لتكلفة العمالة الحكومية بالنسبة للناتج المحلي الإجمالي، فسيتضح ارتفاع هذه النسبة في الدول المرتفعة الدخل (وهي دول متصور أنها دول تتبع اقتصاديات السوق)؛ حيث تبلغ 10.4% بالمقارنة مع الدول متوسطة الدخل؛ حيث النسبة 8.7% والدول منخفضة الدخل حيث النسبة 7%. إن النسبة في مصر وهي 8.9% متقاربة مع الدول متوسطة الدخل والتي تنتمى إليها مصر وفقًا لتصنيفات البنك الدولي.
أما إذا عقدنا مقارنة دولية بين نسب الإنفاق على الأجور إلى الإنفاق العام، فسنجد أن هذه النسبة هي 28% بالنسبة للدول المرتفعة الدخل وتبلغ 31.8 بالنسبة للدول متوسطة الدخل (مصر تقع في هذه الفئة)، وتصل إلى 31% بالنسبة للدول منخفضة الدخل. مصر بالقياس لهذه الدول، حتى مع الأخذ بعين الاعتبار الارتفاع الكبير في فاتورة الأجور بعد الثورة لا تقع في مرتبة أعلى؛ حيث تبلغ نسبة الإنفاق على الأجور 25.4% من الإنفاق العام في 2013/2014.
ماذا تقول هذه الأرقام ببساطة؟
أولًا: فإن اقتصاد السوق لا يعني بالضرورة انخفاض حجم الإنفاق على العمالة الحكومية. بالنسبة للدول الغنية المتقدمة لا يعني بالضرورة انخفاض فاتورة العمالة الحكومية كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي أو كنسبة من الإنفاق العام.
ثانيًا: ارتفاع تكلفة الأجور الحكومية- بحد ذاتها- ليست عائقًا أمام التنمية الاقتصادية، بدليل أن الدول ذات الإنجاز التنموي الأبرز هي الأعلى إنفاقًا على العمالة الحكومية.
ثالثًا: النسبة في مصر ليست مرتفعة بشكل استثنائي عندما نقارنها بغيرها من الدول من مختلف مجموعات الدخل.
قد يقول قائل: حسنًا ربما كان انخفاض تكلفة العمالة الحكومية لدينا ناتجًا عن الانخفاض النسبي في الأجور الحكومية بالقياس إلى الدول الأخرى، وأننا إذا نظرنا إلى الوزن النسبي لعدد المتوظفين في الحكومة كنسبة من السكان، ربما بدا الأمر مختلفًا؛ حيث ترتفع نسبة العمالة الحكومية لدينا بالقياس إلى المعدلات العالمية. هل هذا صحيح؟ تشير البيانات الواردة بالجدول رقم 2 إلي أن نسبة العمالة الحكومية إلى العدد الإجمالي للسكان، هي 7.11 % في عام 2010، وأن متوسط النسبة المناظرة في البلدان المتوسطة الدخل، هي 5.3%. نعم النسبة مرتفعة نسبيًا في مصر بالقياس إلى الدول المتوسطة الدخل فعلًا, ولكنها أقل من متوسط العمالة كنسبة من السكان في دول الاتحاد الأوروبي التي تبلغ 7.9%، أو في بلد متطرف في رأسماليته مثل الولايات المتحدة؛ حيث النسبة هي أعلى من مصر برغم الحديث المتكرر عن تراث الدولة الناصرية "الاشتراكية" القائمة على الدولة كمشغل رئيسي.
الا، لم يكن القصد من هذا المقال القصير أن يؤكد أن هيكل العمالة الحكومية في مصر على ما يرام، ولكن الغرض الرئيسي هو أن يشير إلى طبيعة مشكلة الجهاز الإداري في مصر، بأنها لا تتعلق أساسًا بارتفاع حجمه أو تكلفته، ولكن أساسًا بانخفاض كفاءته وتشوه هيكل العمالة فيه. فلا يزال معدل الأطباء لكل ألف من السكان أو معدل المدرس الواحد لعدد التلاميذ أكثر انخفاضًا من مثيله في دول العالم الأخري. الحقيقة نحن قد نكون بحاجة إلى زيادة الإنفاق على العمالة الحكومية وليس تقليصها.
حتى لو كان هناك إمكانية في توفير أعداد من العمالة الحكومية الزائدة عن الحاجة، وهو أمر ممكن، إلا أن هناك أيضًا ضرورة لزيادة رواتب العاملين بالجهاز الحكومي. هذه الزيادة في الرواتب التي تعد شرطًا ضروريًا للحديث عن الكفاءة، قد تعوض أو حتى تتجاوز الوفر الحادث بسبب تخفيض العمالة كحجم كلي. الخلاصة هي: إذا أردنا أن نقلل العجز في الموازنة الحكومية، فعلينا البحث عن حلول بعيدة عن "إصلاح الجهاز الإداري". لا يجب أن نخلط أجندة إصلاح الجهاز الإداري بأجندة برامج التقشف النيوليبرالي، بل علينا أن نفكر في كيفية زيادة الحصيلة الضريبية ومكافحة الفساد والهدر الناتج عنه، لكي نواجه عجز الموازنة.
إصلاح هيكل العمالة الحكومية ورفع كفاءتها هو مهمة ضرورية، ولكن لا يجب أن ينظر إليها كمشكلة مالية عامة أساسًا (كيف نخفض من فاتورة الأجور لتقليل حجم العجز في الموازنة), ولكن كمشكلة رقابة ديموقراطية على حجم العمالة الحكومية وتحديد الاحتياجات على المستوى المحلي وخلق بيئة تسمح بالمحاسبة والمسؤولية. إن محاولة تعديل هيكل العمالة الحكومية يجب أن تكون تدريجية وأن تستند إلى عملية تفاوض اجتماعي ورؤية تنموية بعيدة المدى.
تم نشر هذا المقال على موقع مدى مصر بتاريخ 27 أغسطس 2015