لقاح كوفيد ــ 19 وعدالة التوزيع

15 سبتمبر 2020

هل هناك قانون دولى للصحة ملزم وقابل للتطبيق فى ظل جائحة كوفيدــ19 وإشكالياته المتشعبة والعديدة سياسيا واقتصاديا ووبائيا؟ حيث تبرز فى الآونة الأخيرة أخبار عن قرب الوصول إلى لقاح (تطعيم) يحمى البشرية من آثار الوباء الواسعة فى المدى الحالى والمستقبلى، باعتباره الأمل الأبرز فى الحد من تفشى فيروس كوفيد ــ 19. وتتصارع الدول الكبرى اقتصاديا فى العالم الآن فى سعة الوصول لهذا اللقاح (الصين، وأمريكا، وروسيا، وأوروبا وغيرها).
وتنتظر البشرية نتائج التجارب السريرية فى مراحلها الأخيرة لهذه التجارب، ويستخدم الصراع فى إعلانات سياسية لتدعيم نظم سياسية تواجه أزمات مع شعوبها سواء لقرب انتخابات أو لضرورات تأكيد سلطة النظام بشكل عام.
والسؤال فى ظل هذا الصراع، وفى وجود منظمة الصحة العالمية، سارعت قوى كبرى كأمريكا بالخروج منها، فى حال الوصول للقاح فعال وآمن وأثبتت التجارب السريرية فعاليته وأمانه، هل هناك قانون دولى للصحة عموما يعمل على تنظيم إتاحة فرص متساوية لجميع البشر.
***
كشفت جائحة كوفيد ــ 19 هشاشة كثير من النظم الصحية عالميا وكشفت أيضا مشاكل الرعاية الصحية المركبة، والمتروكة منذ سنوات دون حل، ونشوء واتساع أزمات الصحة العامة خاصة فى البلدان الفقيرة ومنخفضة الدخل، إلى جانب تحديات اللوائح التنظيمية لأنشطة أعضاء المهن الصحية، وتأثيرات العولمة السلبية على نظم الرعاية الصحية. فلقد كشفت الأزمة العالمية عن إخفاق التشريعات المنظمة لقواعد العمل الصحى فى استجابتها اللازمة للجائحة. ولذلك، أصبح من الواضح علينا كمدافعين عن الحق فى الصحة للجميع، وعلى واضعى السياسات الصحية، التركيز أكثر مما قبل على القيم المعيارية المحددة لمعالم الحق فى الصحة والعدالة والانصاف فى توزيع مصادر الصحة عالميا ومنها على وجه الخصوص اللقاحات اللازمة والأدوية والمستلزمات والأجهزة الطبية ومستلزمات التحاليل الطبية لمواجهة الأزمة، وذلك فى إطار تشاركى تضامنى عالمى، لا يميز الأغنياء عن الفقراء، سواء على المستوى المحلى أو الدولى. فالوباء يمس الجميع، ولا يجب أن يتم تمييز أحد، أو أن تكون دولة مميزة فى الحصول على اللقاح بكميات أكبر من غيرها، خاصة أن اللقاح سيكون عنصرا أساسيا فى استراتيجيات مواجهة العدوى.
وفى هذا السياق، فإن أحد القيم الجوهرية فى الحق فى الرعاية الصحية عموما فكرة ضمان اللقاحات والدواء وخدمات الرعاية الصحية للجميع بدون تمييز، كحق أصيل من حقوق الإنسان، حيث حددت العديد من المواثيق الدولية والوطنية كلا من محتوى ومجال تطبيق هذا الحق، ولعبت الدساتير الوطنية والمعاهدات الدولية دورا مهما فى وضع حماية قانونية متعلقة بالرعاية الصحية، كما أكدت الحاجة إلى وضع احتياجات ميدان الرعاية الصحية فى سلم أولويات الدول (ومن ضمنها الأدوية واللقاحات).
والإنصاف فى مفهوم الوصول إلى الرعاية الصحية تفسر بالقدرة المتساوية على الوصول إلى الخدمة اللازمة. بالإضافة إلى أنه يجب أن يكون هناك تمييز إيجابى لصالح الفئات الأكثر تعرضا لخاطر الوباء (كأصحاب الأمراض المزمنة وكبار السن والعاملين بالقطاع الصحى، ومن يعملون فى الوظائف والقطاعات الحيوية والأساسية لاستمرار الحياة مثل العاملين بمحطات المياه والكهرباء وعمال المخابز والمواصلات العامة وغيرهم). الإنصاف هنا أساسى وهو جوهر فكرة العدالة ويقوم على التضامن والتشاركية.
والإشارة إلى التضامن بوصفه شرطا للقدرة المتساوية على الوصول إلى الرعاية الصحية تصل بنا إلى فكرة العدالة فى الصحة، وتقتضى الفكرة حتما المساواة فى توزيع السلع المنتجة. ويتطلب التمييز الإيجابى تبريرا حسب (راولز Rawls) فى كتابه A Theory of Justice، حيث دافع عن التمييز الإيجابى بناء على الاحتياج إذا كان ذلك مصمما بحيث يعود بأعظم فائدة ممكنة للآخرين الأسوأ وضعا، كما طور الفكرة لتصبح أكثر قبولا (فالتزر Welzer) الذى نادى بأن تكون توزيع السلع الطبية المنتجة (كالأدوية واللقاحات) قائمة على معايير توزيع مختلفة، حيث يقول «كل حسب احتياجاته ومن كل حسب قدرته عالميا».
***
من هذا المبدأ يجب أن يكون الانطلاق فى التفكير على ضرورة توزيع اللقاح بشكل عادل، والتركيز على إنصاف الدول الأفقر التى ليس لديها قدرة على تحمل تكلفة اللقاح.
(من كل حسب قدرته أو موارده إلى كل حسب احتياجاته المعترف بها عالميا) يجب أن يكون المفهوم السائد فى حال الوصول للقاح كوفيدــ19. على سبيل المثال، إذا توصلت أمريكا إلى لقاح فعال وآمن، فى حين إن البرازيل مثلا كانت الأكثر عرضة لانتشار الفيروس وفى وضع وبائى أصعب، فالمبدأ هنا أن قانون الصحة الدولى (القائم على المعاهدات والالتزامات الدولية لحقوق الإنسان)، يحتم أن تقوم أمريكا بتوزيع اللقاح للبرازيل مباشرة ودون مقابل، وليس بعد أن يتم تجاوز إنتاج أمريكا احتياجها.
فى هذا الظرف، يجب أن يتم تطبيق قانون دولى صحى لمواجهة الأزمة قائم على الإنصاف فى توزيع اللقاحات والأدوية، وتقوم منظمة الصحة العالمية بدور المنسق لتحقيق هذا الهدف الإنسانى المشروع.
وفى الخلاصة، هناك صراع بين رؤيتين للرعاية الصحية. النظرة الأولى للرعاية الصحية باعتبارها تعاونية وتشاركية غرضها الأول العناية بالمرضى، والنظرة الثانية تتعامل مع الرعاية الصحية كعملية تجارية بحتة وبيزنس غرضه (تعظيم الأرباح وزيادتها).
تتعامل وجهة النظر الأولى مع الرعاية الصحية وتقديم الخدمات الطبية بقيم التشارك والتعاون والتكاتف حيث حاجة المريض هنا هى الأساس والهدف الأول من مجمل الرعاية الصحية. أما المفهوم الثانى للرعاية الصحية يستند على مفاهيم التنافس وتعظيم الربح وتزداد أهمية (المبيعات) و(التسويق) فغرض الرعاية الصحية وفقا لهذه المبادئ زيادة الربح. ويجب أن يكون التوجه العالمى فى هذا الوقت لصالح قيم التعاون والتضامن، فمع التقدم السريع فى تطوير اللقاحات المحتملة لـ«كوفيدــ19»، نحتاج إلى الاستثمار الآن فى البنية التحتية لتوزيع اللقاح عالميًا على أساس عادل، بمجرد أن يثبت أنه آمن وفعال. تخدم اللقاحات وظيفتين مترابطتين فهى تحمى الأشخاص الملقحين ضد العدوى، وتقلل من انتقال العدوى، وتحمى أولئك الذين لم يتم تطعيمهم عن طريق تقليل عدد الأشخاص الذين يمكنهم نقل المرض، وتعمل على تقليل انتشار المرض بشكل كبير لتحقيق الحماية لأكبر عدد ممكن من السكان.

نشر هذا المقال علي موقع  الشروق  بتاريخ ٦ سبتمبر ٢٠٢٠