السياسات الصحية الوقائية و مواجهة أزمة فيروس كورونا المستجد

3 أبريل 2020

مقدمة :

من الضرورى فهم الأسباب فى المرض والأوبئة بالذات. فرغم التقدم العلمى والنقلة الكبيرة التى حدثت فى القرن الماضى حيث تم اكتشاف التطعيمات والأمصال والمضادات الحيوية الهامة كالبنسلين إلا أنه على مدار الثلاثين سنة الماضية، زادت حالات تفشى الفيروسات، وأصبح انتشارها سريعا، وأحدثها فيروس كورونا المستجد COVID-19، الذى انتشر فى الصين، وانتقل إلى عشرات الدول الأخرى. وفى هذا السياق  أعلنت منظمة الصحة العالمية في أواخر شهر يناير من 2020 أن فيروس كورونا أصبح يمثل حالة طوارئ صحية عالمية ، و في مارس 2020 أعلنته وباء عالميا

تبدأ هذه الدراسة بعرض لمحة عن تاريخ الوبائيات في مصر في القرن التاسع عشر ، حيث أن الحجر الصحى مفهوم ترسخ منذ بدايات القرن التاسع عشر مع انتشار الأوبئة العابرة للحدود وأشهرها الطاعون و الجدرى والكوليرا . ثم تشرح الرابط بين المحددات الإجتماعية للصحة و انتشار الأوبئة ، و بعدها تنتقل إلى تقييم تعامل الدولة مع جائحة أنفلونزا الخنازير و تستخلص دروسا من هذه التجربة للتعلم منها . و تقدم الدراسة مفهوم الرعاية الصحية الأولية ، في قانون التأمين الصحي الشامل ، باعتباره المدخل الأول لتطبيق خطط السياسات الوقائية و مفتاح لاستدامة هذه الخطط . و تشتبك الدراسة مع السياسات المتبعة في التعامل مع فيروس كورونا المستجد ، و تطرح عددا من التوصيات لصناع القرار الصحي ، حتى نتمكن من تقوية السياسات الصحية الوقائية في إطار نظام التأمين الصحي الشامل .


الوبائيات في مصر في القرن التاسع عشر : 

أصبحت الكوليرا خطرا على مصر أثناء القرن التاسع عشر حينما وسع العبور المتزايد للملاحة عبر المحيط الهندي من تسارع مرور الحجاج عبر السواحل المصرية . على الأقل نصف الأوبئة العشرة التي ضربت مصر بين  1831 و 1902 يمكن تعقب مسارها إلى عودة الحجاج ، و لكن هذه الصلة لم تكتشف إلى في عام 1865 .كان هناك علاقة مشتركة ما بين انتشار الكوليرا و الفقر ، فلقد ارتبطت الكوليرا بمياه الشرب الملوثة ، و الفقر و تدني مستوى المعيشة بشكل عام . و هو مايشير إلى ارتباط انتشار الوبائيات بالمحددات الاجتماعية للصحة ،  فالمحددات الإجتماعية للصحة هي العوامل الإجتماعية والسياسية والإقتصادية والبيئية التي تؤثر على الصحة، على سبيل المثال الغذاء والمأوى والصرف الصحي ومياه الشرب الآمنة و جودة البنية التحتية للمياه. فالمحددات الاجتماعية للصحة ترتبط ارتباطا وثيقا بمسألتي العدالة الاجتماعية والعدالة الصحية .

نعود مرة أخرى إلى الكوليرا ، و التي تم رصد عشر أوبئة ضربت مصر ما بين عامي 1831 و 1902 ، حيث كان أشدها فتكا عام 1831 ، حيث حصدت أرواح 150 ألف من المصريين ( من ثلاثة ملايين نسمة ) . و عندما انتشر وباء الكوليرا عام 1848 تبنت الدولة إجراءات صحية ، كان أبرزها إنشاء مؤسسة متكاملة للحجر الصحي ، و مع ذلك قد بلغت الوفيات نحو 30 ألف حالة ، و عندما ضربت الكوليرا مصر عام 1865 حصدت أرواح 65 ألف من الناس ، و قد هرب الخديو إسماعيل و حريمه و حاشيته إلى استانبول انذاك . 

و من الملفت للانتباه أن الوالي محمد علي كان يعزل نفسه في الجيزة فور ظهور المرض ، ثم في قصره في شبرا فيما بعد ، و كان يرسل أبناء أسرته و حاشيتهم للإلتحاق بإبراهيم باشا حين كان حاكما للصعيد .

أما بالنسبة للجدري و التطعيم المضاد له ، فقد فوض محمد علي عددا من الأطباء الفرنسيين عام 1824 بالتنقل في الريف لتطعيم الأطفال و تدريب الحلاقين على ممارسة التطعيمم ، و أصدر أوامره في عام 1824 بجعل التطعيم إجباريا في المطاعم و المدارس و المصانع و مختلف المشروعات و الهيئات الحكومية التي تضم أعدادا من العمال . 

و من الطريف أنه انتشر بين الفلاحين أن التطعيم يعد حيلة من الحكومة " لوضع علامة " على أبنائهم لتجنيدهم في المستقبل ، و رغم المقاومة من الأهالي في البداية ، إلا أنه مع استمرار الجهود الحكومية في تأسيس مراكز للتطعيم في الأقاليم ، يقوم على هذه المراكز حكيمات لتشجيع النساء و الأطفال على الإقبال على التطعيم ، و بإنشاء مركز للتطعيم في القصر العيني عام 1856 ، لم تلبث هذه المقاومة أن انتهت تدريجيا بعد أن لاحظ الناس نتائج التطعيم ، فصارت النساء يذهبن تلقائيا لتطعيم أطفالهم .

أما في الريف فلقد قامت الحكيمات بمهمة جديدة ، و هي التحقق من أسباب الوفاة بين النساء ، فساهمت الحكيمات في تسجيل و إحصاء الوفيات ، و كان ذلك سببا للتعرف على المشاكل المتطونة و التخطيط لاي برنامج للطب الوقائي .

العدالة الاجتماعية و الصحة :

في سياق ارتباط الأمراض و الأوبئة بالعدالة الإجتماعية ، تنص الاتفاقية الدولية حول الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (ICESCR)، والتي صادقت عليها 160 دولة، على منح كافة البشر الاستحقاقات الأساسية الضرورية لتلبية حاجاتهم، كالحق في العمل والأمن الاجتماعي والحياة الأسرية والتعليم والمشاركة في الحياة الثقافية. ورغم الضرورة الحياتية لكل هذه الأمور، فربما يكون ضمان الاتفاقية الدولية لـ "حق كل فرد في التمتع بأعلى مستوى ممكن من الصحة البدنية والنفسية" هو الأكثر أهمية. فلماذا هذا الحق هو الأهم؟ لأن للصحة معناها الخاص عند الأفراد والمجتمعات ككل، فالصحة الجيدة ضروريةٌ لمعافاة الإنسان،و إذا لم يتمتع السكان بمستوى لائقٍ من الصحة، سيصعب جداً ضمان الازدهار الاقتصادي   و الأمن الجماعي.

لقد استنتجت لجنة منظمة الصحة العالمية المعنية بالمحددات الاجتماعية للصحة أن "الظروف الاجتماعية التي يولد الناس ويعيشون ويعملون فيها هي أهم العوامل المحددة للصحة الجيدة أو الصحة العليلة، والحياة الطويلة والمثمرة أو الحياة القصيرة والتعيسة"

و في سياق عدم الإنصاف واختلال العدالة في مصر، فمن منظور الحالة الصحية: يمكن رصد وملاحظة سمات عدم الإنصاف واختلال العدالة في الفروق المتعلقة بمعدل وفيات الأطفال تحت سن المدرسة (الهدف الإنمائي الرابع في إعلان الألفية) والمتعلقة بوفيات وصحة الأمهات والحوامل (الهدف الخامس) فيما بين المناطق جغرافيا ( شمال/ جنوب/ ريف/ حضر) وفيما بين الشرائح الاجتماعية المختلفة (الأفقر/ والأغنى). كما تتضح من زيادة معدلات وانتشار التقزم بين الأطفال في الفئات الأفقر، مع زيادة معدلات الأمراض غير المعدية والمعدية مثل انتشار الأمراض الكبدية (التهاب الكبدي بي و سي) وعبء الأمراض المتزايد بين الفقراء والذي يؤدي إلى مزيد من الفقر بينهم . 

و من منظور الحماية المالية من عبء المرض: يتضح جليا غياب الحماية المالية من عبء المرض في التأثيرات المفقرة للإنفاق الطبي على الأمراض الكارثية في وجود 50% من المواطنين - هم الأفقر- بلا أية غطاء تأميني صحي أو اجتماعي. وفي عدم الإنصاف لإتاحة موارد العلاج على نفقة الدولة، وفي أن أكثر من 72% من الإنفاق الكلي على الرعاية والخدمات الصحية هو إنفاق ذاتي مصدره من جيوب الأفراد والأسر, وهو لا يعكس القدرة بقدر ما يعكس الحاجة والاضطرار.

والواقع أنه وفق دراسات عبء المرض تعانى مصر من عبء مزدوج للمرض (السارية وغير السارية) وإن كان تركيز النظام الصحى يتزايد فى اتجاه الاهتمام بالأمراض غير السارية كالسكر وارتفاع ضغط الدم وأمراض الكلى وغيرها.

و من هنا تأتي أهمية قانون التأمين الصحي الشامل ، فهو وسيلة لرفع المظالم و تحقيق العدالة الصحية في المجتمع ، حيث يهدف نظام التأمين الصحى الشامل إلى إتاحة وتوفير الرعاية الصحية لجميع المواطنين فى الوطن بلا تمييز وبجودة عالية وبغض النظر عن قدرتهم على تحمل تكاليف العلاج وفق أسلوب تمويلى تضامنى فعال وقوى يعتمد على تأسيس Risk Pool أو صندوق مالى تأمينى يجمع موارده من اشتراكات عادلة بنسبة من دخل كل مواطن حسب قدرته الفعلية لتوفير الرعاية والعلاج للجميع وخاصة غير القادرين على الاشتراك بأى نسبة، وهم الذين سوف تدعمهم الخزانة العامة للدولة من حصيلة إيراداتها المتنوعة، والذين يصلون إلى قرابة 32 % من إجمالى المواطنين كمتوسط عام متغير من عام إلى آخر. ولأهمية هذه الفكرة والمبدأ التمويلى، سيلتزم النظام الجديد ببناء آليات فعالة للمشاركة المجتمعية والمساءلة، تمويلا وإدارة ورقابة على تلك الخدمات وعلى هذه الموارد الكبيرة التى سوف تحصل من القادرين ومن خزانة الدولة.

السياسة الصحية المصرية في التعامل مع الجوائح الصحية ..جائحة أنفلونزا الخنازير نموذجا :

يجب أن نعطي لقطاع الطب الوقائي حقه ، فهو أحد أكثر القطاعات تميزا في وزارة الصحة ، فمصر لديها خبرات جيدة في التعامل مع بعض الأوبئة والأمراض المنتشرة سابقا على سبيل المثال السارس ، و انفلونزا الطيور  ،و انفلونزا الخنازير ، و ،أخيرا الحملة الناجحة لعلاج فيرس سي.
و لكن هذا لا يمنع من تحديد بعض الأخطاء التي حدثت أثناء التعامل مع هذه الأزمات ، حتى يمكن تفاديها مستقبلا ، فعلى سبيل المثال عندما انتشرت جائحة إنفلونزا الخنازير فى 2009، و حدث اضطراب فى تعامل الدولة مع الوضع ، و استوردوا علاجات بكميات كبيرة (عقار «التاميفلو»)، وأعلنوا حالة الطوارئ العامة، وقاموا بالتخلص من آلاف الحيوانات (الخنازير)، و انتهت الأزمة بعدها بشهور قليلة لما تبينوا أنها لا تختلف كثيرا عن أعراض الانفلونزا الموسمية. لقد كان قرار التخلص من الاف الخنازير قرارا خاطئا ، و مخالفا لتوصيات العديد من المنظمات الصحية الدولية وقتها مثل منظمة الصحة العالمية التي انتقدت القرار المصري . بالإضافة إلى  حديث كبير البيطريين بمنظمة الامم المتحدة للأغذية والزراعة (الفاو) الذي قال " لا سبب يدعو الي ذلك. انها ليست انفلونزا في الخنازير انها انفلونزا بشرية ". مضيفا " أن الفاو تحاول الاتصال بمسؤولين مصريين لكنها لم تنجح حتى الان "

وحدات الرعاية الأولية هي المدخل الأول للوقاية من الأوبئة :

الرعاية الصحية الأولية هي الوسيلة الأمثل لتطبيق برامج وقائية لمنع انشتار الأمرض السارية ، وهي أيضا المدخل الأول في حالة حدوث جائحة ما للسيطرة و فرض أي خطط وقائية أو علاجية تضعها الوزارة ، فهذا هو دور وزارة الصحة الأساسي في وضع الخطط الصحية.  

 منذ أكثر من أربعين عامًا ، حدد إعلان ألما آتا التاريخي الرعاية الصحية الأولية باعتبارها مركزًا لتحقيق هدف "الصحة للجميع" بحلول عام 2020. لقد كانت دعوة واضحة لتعزيز النظم الصحية من خلال وضع الرعاية الصحية الأولية في صميمها ، مما يؤكد على أن الصحة حق من حقوق الإنسان الأساسية. أكد الإعلان مسؤولية الحكومات عن صحة شعوبها ، وفي الوقت نفسه ، سلط الضوء على الحاجة إلى المشاركة المجتمعية. اتخذ الإعلان موقفا حازما بشأن قضية العدالة الاجتماعية ودعا الدول إلى تعزيز التضامن العالمي لدفع التقدم الاجتماعي والاقتصادي. وقال: "إن عدم المساواة الفادحة الحالية في الوضع الصحي للناس ، لا سيما بين البلدان المتقدمة والبلدان النامية ، وكذلك داخل البلدان أمر غير مقبول سياسياً واجتماعياً واقتصادياً ، وبالتالي فهو يجب أن يكون موضع اهتمام مشترك لجميع البلدان"  .  

و يعد قانون التأمين الصحي الشامل  مدخلا عظيما في تعزيز و تحسين برامج الصحة الوقائية في مصر ،  حيث تمثل الوحدات الصحية العمود الأساسى لمنظومة التأمين الصحى الشامل، وذلك لانه من خلالها سيتم تحويل المريض إلى المستشفيات على حسب تشخيص الطبيب المتخصص بالوحدة. فطبيب الأسرة ، المدخل الأهم في النظام الجديد ، متفرغ (طبيب واحد لمكان واحد) سيكون مندمج فى قلب المجتمع وقلب المشكلة الصحية. 

و لذلك من الأهمية بمكان الاهتمام بإنشاء و حدات الرعاية الأساسية ، العمود الأهم في المنظومة الجديدة كما تم الذكر سابقا ، و تجهيزها تجيزا جيدا ، و أيضا الاهتمام بتدريب الأطباء على كيفية التعامل مع الاوبئة ( سواء كانت الكورونا أو غيرها ) ، بل إن نظام التأمين الصحي الشامل ، أعطى للوحدات الصحية دورا كبيرا يمكن من خلاله استخدام هذه الوحدات في الترصد الوبائي  : وهي عملية جمع البيانات الصحية بصورة مستمرة ومنتظمة وتبويبها وتحليل وتفسير هذه البيانات بهدف تخطيط وتنفيذ البرامج الصحية, وتحديد الاحتياجات واتخاذ الإجراءات اللازمة في الوقت المناسب وتعميم النتائج على المعنيين وأصحاب القرار.

و من الجدير بالذكر أن مفتاح الاستدامة طويلة الأجل في خطط الصحة الوقائية هو أن يتم دمج هذه الخطط في وحدات الرعاية الصحية الأولية ، و بذلك ستساعد على ضمان الاستدامة طويلة الأجل لجهود القضاء على الجوائح الصحية

و أن يتم الإهتمام بأن يكون نظامنا الصحي الجديد مرنا و قادرا على التكيف مع الطوارئ ، فمرونة النظام الصحي هي قدرة الجهات الفاعلة والمؤسسات الصحية على الاستعداد للأزمات والاستجابة لها بفعالية ، و الحفاظ على الوظائف الأساسية في تقديم الخدمة الطبية عندما تحدث الأزمة ، و التعلم من  الدروس و الخبرات في التعامل مع الأوبئة السابقة ، و إعادة التخطيط و التنظيم للتعامل مع الجائحة إذا كانت الظروف تتطلب ذلك "

 فيروس كورونا المستجد :

فصيلة فيروسات كورونا هي فصيلة كبيرة تشمل فيروسات قد تسبب طائفة من الأمراض للإنسان، تتراوح بين نزلات البرد الشائعة ومتلازمة الالتهاب الرئوي الحاد الوخيم (السارس) ، و ظهر بمنطقتنا من نفس السلالة سابقا فيروس كورونا لمتلازمة الشرق الأوسط التنفسية، و هو مرض قديم ظهر في السعودية سنة 2012 وكان السبب فيه انتقال الفيروس من الجمال للبشر .

فيروس كورونا  المستجد عبارة عن فصيلة من فيروسات كورونا لم يتم تحديدها من قبل في البشر.  بعد البحث اتضح أن مصدره سوق بمدينة ووهان، والمرضى الأوائل كانوا من العاملين في السوق ، و مازال العلماء يعملون على فهم آلية بدء انتقاله للبشر.

 يكون الفيروس أكثر حدة بالنسبة لبعض الأشخاص ويمكن أن يؤدي إلى التهاب رئوي أو صعوبة في التنفس ، و يبدو أن كبار السن والأشخاص الذين يعانون من حالات طبية موجودة مسبقًا (مثل مرض السكري وأمراض القلب) أكثر عرضة للإصابة بالفيروس بشدة.

تستخدم منظمة الصحة العالمية  مصطلح حالة الطوارئ الدولية أو تحديدا "حالة طوارئ صحية عامة ذات اهتمام دولي"  عندما يكون هناك "حدث غير عادي" في مجال الصحة العامة له أهمية عالمية. وتحدث حالة الطوارئ هذه عندما يؤثر تفشي مرض على أكثر من دولة، وتكون هناك حاجة إلى استراتيجية تنسيق دولية. ويجب أن يكون للحدث تأثير خطير على الصحة العامة وأن يكون "غير عادي" وأن يأتي بشكل "غير متوقع". القرار النهائي بشأن ما إذا كانت هناك حالة طوارئ في مجال الصحة العامة ذات اهتمام دولي يقع على عاتق المدير العام لمنظمة الصحة العالمية، حالياً تيدروس أدهانوم غيبريسوس، من إثيوبيا.

مع اللوائح التي اعتمدتها 196 دولة عضو في مايو 2005، أنشأت جمعية منظمة الصحة العالمية أساسا قانونيا دوليا لتكون قادرة على التعامل بشكل أكثر فعالية مع التهديدات العالمية في المستقبل. وإجمالا تشتمل اللوائح الصحية الدولية على 66 مادة وتسعة ملاحق، وتمثل علامة فارقة في تنفيذ نظام عالمي لمكافحة الأوبئة.

ولقد استخدمت منظمة الصحة العالمية عبارة "حال طوارىء صحية ذات بعد دولي" لحالات نادرة من الأوبئة التي تتطلب ردا عالميا قويا، مثل إنفلونزا الخنازير (إتش1 إن1) سنة 2009 وفيروس زيكا سنة 2016 وحمى إيبولا في غرب أفريقيا بين عامي 2014 و2016. 

وفي نفس السياق ، أعلنت منظمة الصحة العالمية يوم 30 يناير 2020  أن فيروس كورونا المستجد الذي ظهر في الصين وانتشر في العديد من مناطق العالم يشكل "حالة طوارئ صحية ذات بعد دولي"، لكنها شددت في نفس الوقت على أن إعلان حالة الطوارئ لا يستدعي المبالغة في رد الفعل.

حتى الآن لا نعرف الخطورة الحقيقة لفيروس كورونا، ولم يتوصل أحد لعلاجه بعد. ما لدينا هو إحصائيات بالغة الدقة، للمصابين والمتعافين وأماكن انتشار الفيروس، و تأثير هذه الخطورة ( سواء كانت خطورة من الناحية الصحية أو الاقتصادية ) على مصر أو العالم لا يزال متفاوتًا و هو أمر لا تحسمه الأرقام وحدها مهما بلغ صدق ودقة المصادر . 

و لكن ، هناك نقطة يجب الوقوف عندها و التحذير منها و هي ظاهرة الوصم و التمييز المرتبطة بفيروس كورونا الجديد تجاه الصين أو الصينيين  خاصة من بعض وسائل الإعلام ، فهذا الاتجاه غير مقبول بشكل كامل و مطلق ، و الواجب تشجيع روح التضامن والتعاون وتجنب الوصم، سواء كان وصم الأفراد أو الدول. و الحقيقة أن الصين تتعامل هذه المرة بشفافية وتنشر التقارير الطبية وتشارك العالم بما تعرفه عن الفيروس حيث أشادت منظمة الصحة العالمية بدور الحكومة الصينية وشفافيتها واستعداداتها للتعامل مع الأزمة. 

في سياق استعداد مصر لمواجهة فيروس كورونا المستجد ، يجب الإشادة بالاستعدادات و الإجراءات التي اتخذتها الدولة ، حيث تقرر إرسال طائرة مجهزة طبياً لإجلاء المصريين من مدينة ووهان الصينية ، و بحسب شهادات المصريين اللذين  عادوا من الصين المنتشرة على مواقع التواصل الاجتماعي  فإن إدارة الأزمة كانت جيدة ، سواء مراحل مساعدتهم للعودة، أو إجراءات الحجر الصحي التي حدثت بعد عودتهم ، و الأرجح أن عدد المصريين في مدينة ووهان غير الكبير ، و معظمهم باحثين في جامعات ومراكز بحثية وبالتالي لديهم وعي مسبق ، ساعد كل ذلك في إتمام هذه الإجراءات على نحو جيد  .

 و لكن هناك بعض السلبيات التي حدثت و يجب لفت الانتباه لها ، على سبيل المثال الطريقة التي  اختارت بها وزارة الصحة الطواقم الطبية  للسفر للحجر الصحي في مرسى مطروح كانت مثيرة للجدل ، لأنها لم تكن بالموافقة المسبقة ، و هو أمر يجب تفاديه مستقبلا فيجب الاهتمام ببرامج لتدريب الطواقم الطبية على كيفية التعامل مع فيروس كورونا المستجد على المستوى الوطني و على مستوى الرعاية الأساسية  ، بالإضافة إلى الالتزام باللامركزية في التعامل مع هذا الملف ، و الاهتمام بمداخل البلاد في المطارات و الموانئ ، و أن يكون هناك أكثر من نقطة للحجر الصحي ، بالإضافة إلى إعداد مستشفيات الحميات لأن هذا هو دورها الطبيعي في مثل هذه الأزمات . 

الخلاصة و التوصيات :

في تقرير " مؤشرات أمان الصحة العالمي " الذي يقيم قدرة الدول على منع الأوبئة أو التخفيف من حدتها ( من الوقاية و منع انتشار مسببات الأوبئة و الاكتشاف المبكر و الاستجابة السريعة إلى قدرة النظم الصحية على علاج المرضى و السيطرة على انتشار الوباء ) المؤشر وضع مصر في المركز ال 87 عالميا ، بحسب المؤشر  أضعف تقييم حصلت عليه مصر كان في مؤشر وفرة الموارد البشرية في القطاع الصحي و مدى اتاحة الخدمة الصحية بشكل شامل لجميع المواطنين ، و هو ما يدفع إلى الاهتمام بتقوية نظامنا الصحي في جانبه الوقائي ، وخاصة أن قطاع الطب الوقائي بوزارة الصحة له تاريخ عريق في مكافحة الأوبئة.

 و في الخلاصة ، فإن مبادئ و استراتيجيات الوقاية لمنع أو الحد من انتقال العدوى تتلخص فيما يلي  :

تقييم حالة المرضى ، و الكشف المبكر ، و التحكم في مصادر العدوى (عزل المرضى الذين يعانون من فيروس كورونا المستجد  ) وذلك بواسطة نظامًا يشمل الفحص السريري لتقييم جميع المرضى عند الدخول للمنشأة الصحية مما يسمح بالكشف المبكر على العدوى المحتملة  والعزل الفوري للمرضى المشتبه بهم في منطقة منفصلة عن المرضى الآخرين .

و لتسهيل التعرف المبكر على فيروس كورونا المستجد  يجب الاهتمام بالاتي :

 • الاهتمام بتدريب الطواقم الطبية تدريبا جيدا 

 • إنشاء مكان لفحص المرضى مجهز تجهيزًا جيدًا عند مدخل مرفق الرعاية الصحية  

 •  توفير كواشف كورونا بمقدار ملائم 

 •  تعتبر نظافة اليدين والنظافة التنفسية وممارسات الغذاء المأمونة من التدابير الوقائية الأساسية.

 2.تطبيق التدابير الوقائية العالمية لجميع المرضى في المستشفيات و وحدات الرعاية الصحية  

 3. تطبيق تدابير وقائية إضافية للحالات المشتبه في إصابتها بفيروس كورونا المستجد 

 4. الاهتمام بالضوابط الإدارية ( مثل توفير التدريب الكافي للطواقم الطبية مع  التزام الصراحة مع الطوقم الطبية و إعلامهم بطبيعة أي مهمة يقومون بها ).

5. الالتزام بالشفافية التامة في التعامل مع فيروس كورونا المستجد ، فلا جدال على حق الناس في الوصول للمعلومات ، و كشف الملابسات عن أي إصابات بالعدوى بشكل سريع تكون تفصيلية و دقيقة حتى يتمكن الخبراء و المعنيين من تقييم الوضع و تقديم الإقتراحات لصناع القرار. 

6. الإهتمام بالتوعية المجتمعية عن طريق إعلام رشيد يقدم الحقائق بلا تهويل أو تهوين ، و في الوقت المناسب

أخيرا ، قد يكون الاهتمام الكبير بفيروس كورونا المستجد فرصة جيدة لمراجعة السياسات الصحية الوقائية في مصر ، و فتح النقاش حول ارتباط قوة النظام الصحي بانشار الأوبئة ، و حاجتنا الملحة إلى استكمال منظومة التأمين الصحي الشامل و إنشاء وحدات صحية أساسية مجهزة تجهيزا جيدا في ربوع البلاد .

قاما بكتابة هذا المقال كلا من دكتور علاء غنام مسئول ملف الحق في الصحة و أحمد عزب الباحث في ملف الصحة تم نشر هذا المقال بمجلة الديمقراطية في العدد 78 لشهر أبريل 2020