تقييم السياسات الدوائية في مصر
رغم أهمية قضية الدواء وضرورة توافر الدواء الآمن والحق في الوصول إليه في إطار الصحة العامة، فإن هناك ارتباكًا كبيرًا في السياسات الدوائية الرسمية. وحتى الآن ومع اقتراب تطبيق قانون التأمين الصحي الشامل لم تتضح السياسات والخطط الدوائية التي ستطبق في إطار التأمين الصحي الجديد. السياسة الدوائية مكون أساسي من السياسة الصحية، يجب أن يتم التعامل معها كجزء من النظام الصحي العام، ويعتبر وضع هذه السياسة أولوية كبيرة لمصر في الوقت الحالي، بما تمثله من سجل رسمي للتطلعات والأهداف والقرارات والالتزامات، وبدون مثل هذه السياسات الدوائية الواضحة والرشيدة، قد تغيب القدرة على حل المشكلات التي يواجهها القطاع الصحي، والمرضى، نتيجة غياب الأهداف والأولويات الواضحة والتي تساعد على وضع الخطط والالتزام بتنفيذها.
وتتركز أهداف السياسة الوطنية للدواء بالمعنى الأوسع في تعزيز المساواة والإتاحة والاستدامة في الوصول إلى الدواء، وتتحقق هذه الأهداف من خلال التوفير العادل للدواء بغض النظر عن قدرة المرضى على تحمل تكاليفه، وضمان جودة وسلامة وفعالية جميع الأدوية، وتعزيز الاستخدام الرشيد والفعال للأدوية، سواء من جانب الأطباء والصيادلة عن طريق الالتزام بوصف الدواء الأكثر فعالية، أو من جانب المستهلكين، بالإضافة إلى العمل على تحسين الوصول إلى الأدوية الأساسية التي تلتزم الدولة بتوفيرها بحسب منظمة الصحة العالمية.
وتعد صناعة الدواء صناعة استراتيجية هامة، بدأت مصر فيها منذ عقود وحققت تقدمًا في فترة الستينيات من القرن الماضي، إلا أنه حدث تدهور وتدنٍّ في أداء شركات الأدوية الحكومية التابعة لقطاع الأعمال، بينما تحكمت المصالح الضيقة في أداء شركات الأدوية الخاصة، والتي تتحكم في النسبة الأكبر من الصناعات الدوائية المصرية، لذلك يعتبر هذا القطاع من أكبر القطاعات التي تشهد ممارسات احتكارية، ما ينعكس على غياب الاستخدام الرشيد للأدوية، وتضاعف أسعار الدواء مرتين في السنوات الثلاث الأخيرة، ومشاكل نقص الدواء. وتستعرض هذه الورقة أهم المشاكل في قطاع الدواء والبدائل التي يمكن تطبيقها لحل تلك المشاكل.
الحصول على الأدوية الأساسية
هناك عدد متزايد من المنتجات الصيدلانية المتاحة في السوق كل عام، وهناك نمو سريع في استهلاك الدواء. ومع ذلك، لا يمكن للعديد من الناس الحصول على الأدوية التي يحتاجونها، إما لأنها غير متوفرة وإما لأنها ناقصة أو باهظة الثمن، وإما لأنه لا توجد مرافق كافية أو صيادلة مدربون لصرف الدواء، فأغلب الصيدليات الآن تعتمد على مساعدي الصيادلة.
يجد المرضى المصابون بأمراض مزمنة صعوبة في الحصول على الأدوية الأساسية، فمثلًا مرضى السكر يواجهون صعوبات في أسعار الأنسولين المرتفعة، والبنسلين يصعب العثور عليه بشكل متزايد، كما أن الأدوية الخاصة بارتفاع ضغط الدم ونزيف الدم وضمور العضلات ومرض باركنسون ناقصة أو متوفرة بكميات قليلة أو أن المتاح منها دائمًا باهظ الثمن، وفوق المقدرة الاقتصادية للعديد من فئات المجتمع. فالنقص في الأدوية الأساسية أحد التحديات التي يواجهها قطاع الدواء في مصر ويجب مواجهتها ولقد أوصت منظمة الصحة العالمية (WHO) بأن يكون لكل دولة سياسة وطنية للأدوية تضمن الحصول على الأدوية الأساسية، وتوصي بالاستخدام الرشيد كجزء لا يتجزأ من استراتيجية الرعاية الصحية الأوسع التي تتبعها.
وبالتالي فمفهوم الأدوية الأساسية هو مفهوم عالمي، يعزز المساواة ويساعد على تحديد الأولويات لنظام الرعاية الصحية، وجوهره مبني على أن استخدام عدد محدود مختار بعناية من الأدوية على أساس المبادئ التوجيهية السريرية المتفق عليها يؤدي إلى إمدادات أفضل من الأدوية، إلى استخدام أكثر عقلانية للدواء مع خفض التكاليف. إن استخدام القوائم الوطنية الأساسية للأدوية يساهم في تحسين جودة الرعاية ويعمل على توفير كبير في تكاليف الدواء.
الأسعار ونقص الأدوية واختفاء أصناف هامة
مصر بها 14 ألف صنف دواء مسجل، منها 11 ألف لها "أكواد" في شركات التوزيع، في حين أن المتوفر فعليًّا في الصيدليات نحو 7 آلاف صنف فقط، وهو ما يعني أن نصف عدد الأصناف المسجلة غير متوفر، وأن هناك 4 آلاف صنف لم تنتج من الأصل برغم تسجيلها، نتيجة لتسابق الشركات على حجز الأكواد، في إطار التنافس بينها، دون اعتبار لتأثير ذلك على توفير المنتج فعليًّا في السوق.
ويتيح نظام تسجيل الأدوية، المبني على قرار وزير الصحة رقم 499 لسنة 2012، مثل هذه الممارسات، وهو القرار الذي قوبل بنقد كبير وقت صدوره.
ورغم تضاعف أسعار الدواء مرتين في ثلاث سنوات فقط، فإن الشكاوى من عدم توفر الدواء ونقصه ما زالت مستمرة. ووفقًا لنشرة الأدوية الناقصة لشهري يناير وفبراير 2017، التي تصدرها الإدارة المركزية للصيدلة، التابعة لوزارة الصحة، تقسم الأدوية الناقصة في ثلاثة جداول. الأول يوضح أن 282 صنفًا دوائيًّا غير موجود بالسوق ولكن له بدائل، ويجب استشارة الطبيب في حالة صرف البديل أو المثيل، وهذه الأدوية لعلاج نزلات البرد، وقرحة المعدة، ووقف نزيف الدم، والسرطان، والصداع، والقولون، وبعض المضادات الحيوية.
أما الجدول الثاني فيتضمن اختفاءً كاملًا لـ42 صنفًا دوائيًّا ليس لها أمثال أو بدائل في السوق، تستخدم لعلاج أمراض مزمنة، منها: السكر، والكبد، والسرطان، والهيموفيليا، والذبحة الصدرية، وأخرى لمنع الحمل، وأدوية التخدير، وبعض المضادات الحيوية.
وشمل الجزء الأخير من النشرة أدوية كانت تشهد نقصًا وبدأ توفيرها بالأسواق بكميات قليلة بسبب تعطش السوق لها، ويبلغ عددها 322 صنفًا تستخدم لعلاج العديد من الأمراض، منها: الغدة الدرقية وتجلط الدم.
وللأسف لا تتاح هذه النشرات باستمرار في ظل غياب الشفافية والوضوح من جانب شركات الدواء ووزارة الصحة وإدارة الصيدلة، رغم أنها تعدها بشكل شهري. فمن المفترض أن يتم توفير الدواء بعد الزيادات المتتالية في السعر، فلماذا تستمر الشكاوى إذن من نقص الأدوية؟ ولماذا لا تنشر إدارة الصيدلة نشرة الأدوية الناقصة على موقعها الإلكتروني أو ترسلها إلى الصحف بانتظام وتوضح للناس؟ ولماذا دائمًا نجد صعوبة في الوصول إلى هذا النوع من التقارير والبيانات مع أنه حق أصيل لنا كمواطنين وباحثين؟6
ورغم حديث الشركات الكثير عن زيادة التكاليف بعد تعويم الجنيه ومطالبها الدائمة برفع أسعار الدواء، والتي يتم تحديدها بالتنسيق بين الشركات ووزارة الصحة، فلقد حققت مبيعات الدواء في مصر 51 مليار جنيه خلال 2017، ووفقًا لتقرير المؤسسة العالمية للمعلومات والاستشارات الدوائية "IMS"، والخاص بمبيعات سوق الدواء، كانت الزيادة بمقدار 21% عن عام 2016. ولا تتضمن تلك المبيعات مناقصات توريد الأدوية والمستحضرات الطبيةرالتي تجريها جهات عامة مثل وزارة الصحة والقوات المسلحة والشرطة وشركات قطاع الأعمال، والتي تتقدم إليها لشركات الأدوية وتحقق لها أرباحا إضافية.
ورغم هذه الأرباح فإن أزمة توفر الدواء وإتاحته ما زالت مستمرة ما يشير إلى خلل كبير في السياسات الدوائية المتبعة في مصر.
سيطرة شركات الدواء الأجنبية
يجب الالتفات إلى تزايد سيطرة شركات الدواء الأجنبية على سوق الدواء المصري وزيادة الاعتماد على الأدوية المستوردة، دون إصلاح الخلل في شركات الدواء العامة وعدم تطويرها، وأصبحت شركات الدواء الحكومية تنتج نسبة لا تتعدى 5٪ من سوق الدواء، بعد أن كانت تقترب من 90٪ فى الستينيات من القرن الماضي، وبالتالي عاد الوضع شبيهًا بما كان عليه في النصف الأول من القرن العشرين، من سيطرة للشركات الأجنبية.
إن صناعة الدواء المصرية تعاني من ضعف شديد واعتماد كامل على استيراد المواد الخام والمكونات الدوائية الأخرى من الخارج بالإضافة إلى مستلزمات مواد التعبئة والتغليف المستوردة أيضًا من الخارج.
ومن ضمن الخلل في السياسة الدوائية، أن شركات الدواء الخاصة والأجنبية مسموح لها بأن تفرط في تسجيل الأدوية التي يوجد لها بالفعل بدائل وأمثال عديدة، لكن استخدامها شائع وتسويقها مضمون، مثل المضادات الحيوية والمسكنات، وتعتمد في زيادة مبيعاتها على الدعاية والترويج بين الأطباء لتلك المنتجات، بدلًا من التركيز على البحوث والتطوير في إنتاج الأدوية الجديدة المھمة والخطيرة التي لا تنتجها مصر ويحتاجها المرضى بشدة، مثل الأدوية الخاصة بالأورام وأدوية التخدير.
الاستخدام غير الرشيد للدواء
حتى الأشخاص الذين لا يعانون من نقص الأدوية، ويحصلون على الدواء، فإنهم لا يحصلون على الدواء المناسب بالجرعة المناسبة عندما يحتاجون إليها. فكثير من الناس يشترون أدوية غير مناسبة لاحتياجاتهم، رغم أن استخدام الدواء واستعماله بشكل ملائم شديد الأهمية في عدم إهدار المال العام من جانب، وأموال المواطنين من جانب آخر، حيث يتم إهدار من 10 إلى 20% من ميزانية الأسرة على تلك الأدوية.
ويعني الاستخدام الرشيد للأدوية حصول المرضى على الأدوية المناسبة لاحتياجاتهم السريرية، بجرعات تلبي متطلباتهم الفردية، ولفترة كافية من الوقت، وبأقل تكلفة لهم ولمجتمعهم.
ويمثل الاستخدام غير الرشيد للأدوية في مصر مشكلة كبيرة، ترتبط بممارسات مثل وصفات من جانب المواطنين بعضهم لبعض، أو من خلال الصيادلة ومساعديهم، ما أدى إلى إفراط كبير في تناول الأدوية، وأغلبها أدوية الحساسية والمسكنات والإسهال والبرد والقولون والفيتامينات.
وتحتاج الأنشطة الرامية إلى تعزيز الاستخدام الرشيد للأدوية إلى أن تكون متكاملة تمامًا في النظام الصحي عبر مختلف البرامج والقطاعات والجهات المعنية بالسياسة الصحية الوطنية.
خطوات عاجلة وضرورية وغير مكلفة أيضًا
تنطوي السياسة الوطنية للدواء على عملية معقدة من المراقبة والتنفيذ. أولًا، عملية وضع وصياغة السياسة الوطنية للدواء. ثانيًا، تحديد الإستراتيجيات والأدوات التي يمكن بها تحقيق أهداف السياسة الدوائية بواسطة مختلف الأطراف. وأخيرًا، يتم رصد ومراقبة نتائج هذه الأنشطة والبرامج. طوال العملية هناك حاجة إلى تخطيط دقيق وإشراك جميع الأطراف في جميع الأوقات.
يظهر من العرض السابق الحاجة الماسة إلى إصلاح القطاع الصحي ومن ضمنه قطاع الدواء، عن طريق سياسات دوائية جديدة، تشجع وتلتزم بمعايير الجودة في التصنيع الدوائي، والعدالة في التوزيع، والكفاءة، والإتاحة للدواء، وتلائم الظروف الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع في إطار التأمين الصحي الجديد.
على المدى القريب يجب إعادة وضع سياسات تسعيرية جديدة تراعي الظروف الاجتماعية والاقتصادية وإعادة تنظيم سياسات ونظم تسجيل الدواء، وسن تشريع خاص لقائمة الأدوية الأساسية، استرشادًا بقائمة الأدوية الأساسية التي تضعها منظمة الصحة العالمية، يعمل على إتاحة هذه الأدوية للمواطنين بأسعار غير مكلفة في إطار التأمين الصحي الجديد، ويشجع على تصنيعها بدلًا من اللجوء إلى استيراد المواد الخام ومواد التعبئة والتغليف.
على المدى المتوسط والبعيد يجب إنشاء هيئة عليا لشئون الدواء مستقلة عن وزارة الصحة، وإزالة هذا العبء الكبير عن وزارة الصحة، والاستثمار في التنمية البشرية في العدد الكبير من الصيادلة عن طريق التدريب على التصنيع الدوائي والبحوث العلمية الدوائية والكيميائية، بدلًا من ميل معظم الصيادلة إلى الدعاية أو السفر أو الهجرة، فهذا العدد الكبير من الصيادلة طاقة كبيرة جدًّا من الممكن تحويلها في اتجاه التصنيع الدوائي عن طريق برامج تدريب وطنية وتوفير التمويل اللازم والضروري للبحوث الدوائية ووضع خطط طموحة للتعاون بين كليات الصيدلة وشركات الدواء العامة، وربط البحوث الأكاديمية في أقسام كليات الصيدلة بسوق الدواء المصري وبحاجة المريض.
إن المشكلة الأساسية لقضية الدواء في مصر هي غياب السياسة الدوائية، فيجب أن يتم وضع سياسة دوائية قائمة على العدالة في التوزيع والتي تهتم بالحقوق الأساسية من إتاحة الدواء وضمان الوصول إليه وتوفره باستمرار، وتراعي الظروف الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين، ولذلك فإن مشكلة الأسعار ونقص الدواء هي جزء من مشكلة أكبر وأهم، هي غياب السياسية الدوائية العادلة.
ووضع خطة للسياسة الدوائية دون جدول والتزام بالتنفيذ، يجعلها تولد ميتة، لذلك يجب تحديد خطوات التنفيذ والأنشطة اللازمة للوصول إلى النتائج المتوقعة طوال العملية. وفي هذا الصدد هناك أنواع مختلفة من الخطط. الأول هو على الأرجح الخطة الإستراتيجية لتطوير السياسة نفسها، والتي يجب أن تحدد الخطوات المختلفة في عملية التطوير، وتوضح خطة التنفيذ ما يجب القيام به ومن المسؤول، ليقدر الميزانية ويقترح إطارًا زمنيًّا.
من المهم أيضًا إشراك جميع الأطراف طوال عملية تنفيذ السياسة (وليس فقط في مرحلة التطوير) ويجب تشجيع التشاور والحوار والمفاوضات مع جميع الفئات المهتمة وأصحاب المصلحة. وتشمل جميع فئات الرعاية الصحية من الأطباء، والصيادلة والممرضات، والصناعات الدوائية المحلية والدولية، وموزعي الأدوية، الأوساط الأكاديمية والمنظمات غير الحكومية والجمعيات المهنية وجماعات المستهلكين. من المهم أيضًا التشاور مع المسؤولين عن الوحدات الصحية والموظفين الإداريين.
من المحتمل أن يكون هناك بعض الخلاف بين أصحاب المصلحة. على سبيل المثال، قد يشعر مصنعو الأدوية أن مصالحهم التجارية قد تكون مهددة. أي طرف يستفيد من الوضع الحالي سيكون قلقًا بشأن التغيير. إنه تحدٍّ حقيقي لإنشاء نظام دوائي عادل يهدف إلى تحقيق مفهوم الإتاحة بغض النظر عن المستوى الاقتصادي للمرضى.
مصادر: