دراسة جديدة للمبادرة المصرية: فجوات تنفيذ الحد الأدنى للأجر تؤخره عن ملاحقة الأسعار
"4000 جنيه شهريًا لا تغطي التضخم السابق ولا تحمي من موجاته المتوقعة بعد الانتخابات الرئاسية"
"يجب وضع آليات ملزمة لتطبيق الحد الأدنى في القطاع الخاص"
أصدرت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية اليوم دراسة تحليلية بعنوان "نحو أجر منصف للجميع في مصر.. خيارات تعميم الحد الأدنى للأجور"، تقدم تحليلاً لسياسات الأجور في مصر عمومًا في ظل سياسات التقشف والاستدانة وتراجع الإنفاق العام على الخدمات والحماية الاجتماعية، وتفحص التطورات الخاصة بالحد الأدنى للأجر في القطاعين العام والخاص، وترصد الفجوات في التنفيذ وتقدم توصيات لتعميم تطبيقه على كل العاملين بأجر بأوسع نطاق ممكن في ظل الارتفاعات الكبيرة المتواصلة منذ مطلع العام في تضخم أسعار المستهلكين.
كان رئيس الجمهورية قد أعلن في مطلع الأسبوع الجاري عن زيادة الحد الأدنى لأجور العاملين في القطاع الحكومي، ليصبح الحد الأدنى ﻷجر العامل في أدنى الدرجات الوظيفية في الحكومة أربعة آلاف جنيه شهريًا، وأوضح وزير المالية في بيان لاحق أن تطبيق هذه الزيادة سيبدأ في أكتوبر المقبل بعد إقراره من مجلس النواب، وأن الزيادة ستشمل الحد الأدنى لكل الدرجات الوظيفية بما لا يقل عن 500 جنيه لكل العاملين بالجهاز الإداري للدولة والهيئات العامة الاقتصادية.
وجاء الإعلان ضمن حزمة من القرارات شملت زيادة علاوة غلاء المعيشة الاستثنائية من 300 إلى 600 جنيه شهريا، ورفع حد الإعفاء الضريبي بنسبة 25% ليصل إلى 45 ألف جنيه سنويا.
وتعتبر هذه الزيادة الثانية خلال عام واحد للحد الأدنى للأجور خطوة في الاتجاه الصحيح، في إطار تحسين الأحوال المعيشية لقطاع من العاملين بأجر في مصر، مع تصاعد معدلات التضخم خلال الشهور الستة الماضية منذ الإعلان السابق عن رفع الحد الأدنى لأجور العاملين بالقطاع الحكومي إلى 3500 في مارس الماضي. لكن وضعية الأجور الحقيقية تظل أقل كثيرًا من أن تكون منصفة أو كافية لتوقي السقوط تحت خط الفقر.
ورغم إيجابية خطوة رفع الحد الأدنى للأجور ورفع حد الإعفاء الضريبي للشرائح الدنيا، فإن القرار من جهة لا يغطى سوى العاملين في القطاع الحكومي والهيئات التابعة للدولة، ولا يشمل القطاع الخاص أو العمالة غير الرسمية وهي النسبة الأكبر من العاملين بأجر في مصر، وقد يتأخر اجتماع المجلس الأعلى للأجور لتحديث الحد الأدنى في القطاع الخاص إلى نهاية العام، تاركًا ملايين العمال دون تدخل. ومن جهة أخرى، فإن طريقة حساب الحد الأدنى قد تتطلب مزيدًا من المراجعة في ضوء معدلات ارتفاع أسعار الغذاء بشكل خاص، بالإضافة إلى التخفيض المنتظر في قيمة الجنيه بعد الانتخابات الرئاسية وربما قبلها، وما سيرتبه من تراجع في القدرة الشرائية لتلك الأجور، بما يلغى أي أثر إيجابي للزيادة على مستوى المعيشة بمجرد حدوثه.
ولا تعتقد المبادرة المصرية للحقوق الشخصية أن الآثار التضخمية لزيادة الحد الأدنى للأجور ستكون ذات شأن، خاصة وأن هذه الزيادات ستوجه بالأساس إلى الإنفاق على سلع أساسية ضرورية للحياة، بل قد يكون لها أثر تنشيطي على الاقتصاد. وتبلغ تكلفة حزمة القرارات الاجتماعية بحسب وزارة المالية 60 مليار جنيه، وهو رقم ضئيل بحسابات الموازنة العامة، فهو ضعف دعم الصادرات تقريبًا، ولا يمكن مقارنة أثره على العجز بأثر أسعار الفائدة أو تخفيض سعر الجنيه في مواجهة الدولار.
ويحصل العاملون في القطاع الخاص على حد أدنى للأجور أقل من نظرائهم في القطاع الحكومي، كما يعانون من عدم وجود آلية ملزمة لتطبيقه، فقد رفع المجلس القومي للأجور الحد الأدنى للعاملين بالقطاع الخاص من 2700 إلى 3000 جنيه بداية من شهر يوليو الماضي. وكان المجلس قد أصدر قراره بتحديد حد أدنى للأجور في القطاع الخاص في عام 2021، بعد توقفه عن تعديل قيمة الحد الأدنى لمدة عشر سنوات، وتم تحديده وقتها بـ 2400 جنيه شهرياً، ثم زاد في 2022 ليصبح 2700.
في هذا الشأن، ترى المبادرة المصرية للحقوق الشخصية أنها خطوة أولى في طريق طويل لتحريك أجور العاملين بالقطاع الخاص التي تناقصت قيمتها الحقيقية خلال عشرة سنوات بفعل الزيادات المتتالية في الأسعار، وعدم مواكبة زيادة الأجور لها.
وسجلت دراسة المبادرة تحفظاتها بشأن قضيتين هامتين فيما يتعلق بقرارات المجلس القومى للأجور، الأولى: عدم إشارة قرار المجلس إلى وجود زيادات متدرجة بشكل عام في كل الأجور على غرار القرارات الحكومية بالنسبة للعاملين لدى الدولة.
الثانية: أن المجلس قد قلص 4% من قيمة العلاوة السنوية للعاملين بالقطاع الخاص (بعد أن كانت 7% على الأقل، لتصبح 3%). وهى نسبة متواضعة للغاية، خصوصاً وأن تلك العلاوة هي الوسيلة الوحيدة لزيادة الأجور في القطاع الخاص، بعد أن توقف المجلس القومي للأجور منذ تسع سنوات عن إصدار قرارات خاصة بعلاوات غلاء المعيشة للعاملين بالقطاع الخاص، أو أى آليات أخرى لزيادة الأجور، بالتوازي مع الزيادة الدورية التي تصدر بالنسبة للعاملين بالحكومة. (وكان المجلس يقرر زيادة للقطاع الخاص بالتوافق مع القطاع الحكومي حتى عام 2014)؛ كأن ما يمكن أن يُعطى باليمين أُخذ مقابله مسبقًا باليسار.
يُضاف إلى ذلك أن الحكومة تقوم بتحديث الرقم الخاص بالحد الأدنى للأجور بناء على تطور معدل التضخم الرسمي وذلك شيء إيجابي عموما. ولكن ذلك يتم بداية من عام 2013، في الوقت الذي كانت المطالبة بالحد الأدنى للأجور محسوبًا كحد أدنى لتكلفة المعيشة في عام 2010، كما أنها لا تراعي أن من يتم وضع الحد الأدني للأجور لهم يستهلكون أغلب دخلهم في الطعام والشراب، كذلك التفرقة القائمة ما بين العاملين بالقطاع الحكومي والقطاع الخاص.
لذا نرى أن نهج التحديث المستمر وفقاً للتضخم مسألة مهمة، غير أنه يجب أن يصدر بقانون يشمل جميع العاملين بالقطاع الحكومي والعام والخاص، به عقوبات رادعة على من لم يلتزم بالتنفيذ، وأن تكون نقطة بداية التحديث هي 2010، مع الوضع في الاعتبار مسألة الأرقام القياسية للطعام والشراب.
تحلل الدراسة تطور أجور العاملين في القطاع الخاص المنظم والقطاع الحكومي خلال عشر سنوات، لتصل إلى أن العاملين في القطاع الخاص فقدوا خلال تلك الفترة 33% من قيمة أجورهم الحقيقية، بينما زادت أجور العاملين بالقطاع العام بنحو 9% في نفس الفترة.
وتشرح الدراسة لماذا يعتبر تحديد حد أدنى عادل للأجور وتعميمه على جميع العاملين بأجر فى مصر أولوية الآن فى ثلاثة نقاط، وهي:
-
يعتبر الحد اﻷدنى للأجر أداة للحد من الفقر وتنشيط الطلب المحلي.
-
تشير التجارب الدولية إلى أن الحد اﻷدنى للأجر أداة لتحقيق توزيع أكثر عدل للدخول.
-
إن تبني حد أدنى للأجور مقبول من جميع أصحاب المصلحة، من شأنه أن يقلل من الاحتجاجات الاجتماعية والعمالية.
كما تستعرض الدراسة مشكلة الحد الأدنى للأجور المطبق حاليا، وذلك فى أربعة نقاط، هى:
-
عدم وجود حد أدنى يشمل جميع العاملين بأجر، في القطاعات الحكومية والخاصة، ويشمل بشكل خاص العمالة غير الرسمية.
-
عدم صدور قانون لتطبيق الحد الأدنى عبر البرلمان، مما يسهل التحايل على تطبيق القرارات الخاصة به، وعدم تنفيذها.
-
غياب آلية إلزام بتطبيق الحد الأدنى ومراجعته سنويا.
-
عدم وجود آلية للشكاوى في حالة عدم الالتزام بتطبيق قرارات الحد الأدنى للأجر،ولا حصانة للعاملين من الأعمال الانتقامية فى حال مطالبتهم بتنفيذ ما يصدر من قرارات الحد الأدنى للأجور.
-
قيمة الحد الأدنى للأجور، تحتاج إلى مراجعة من زاوية الأجر المعيشي الأدنى، ﻷنها تضع من يتحمل وحده عبء الإنفاق على أسرة -مكونة من 4 أفراد- ويحصل علي الحد الأدني للأجر تحت خط الفقر، وهو ما يظهر فى الزيادة المستمرة في نسبة العاملين الفقراء.
كل هذا يجعل قرار الحد الأدنى الأخير خطوة للأمام ولكن تظل أقل من أن تلبي ما ينص عليه الدستور المصرى، أو اتفاقيات منظمة العمل الدولية بالنسبة للحد الأدنى الفعال للأجور.
ولما كان من المتوقع أن تؤدى الموجة الحالية من التضخم إلى سوء أوضاع المشتغلين بشكل عام، (ارتفع التضخم بنحو 60.5% من أكتوبر 2020 إلي أغسطس 2023) فإن ضعف الحد الأدنى للأجور وعدم تعميمه يمنعه من أن يقوم بوظيفته في إنقاذ العمالة الهشة من براثن الفقر.
وترى الدراسة لذلك أنه أصبح من الضروري الآن إصدار قانون موحد بإعادة هيكلة أجور كل العاملين بأجر في مصر، بحيث تزيد أجورهم زيادات تتناسب مع ارتفاعات الأسعار على الأقل، ووضع حد أدنى للأجور يكفي احتياجات العاملين وأسرهم، ومراجعته كل ستة أشهر في ظل الزيادة المستمرة في الأسعار. كما يجب وضع آليات ملزمة لتطبيق الحد الأدنى في القطاع الخاص، وإلزام أصحاب العمل غير الملتزمين كل ما انتقصوه من أجور العمال، وتعويضهم بشكل مناسب عن الضرر جراء تعرضهم وأسرهم للفاقة بسبب حرمانهم من جزء من أجورهم.
وتأتي هذه المطالبة في ظل وجود إمكانية فعلية لتحقيقه خصوصاً وأن نصيب العاملين من القيمة المضافة في القطاع الخاص بلغ 20% فقط، بينما يحصل أصحاب الأعمال على 80% منها، علاوة على استردادهم لكل ما دفعوه في العملية الإنتاجية، بما فيه قيمة استئجار مكان العمل (أو ما يوازيه لو كان ملكاً لهم)، والفوائد في حال القروض (أو ما يساويها لو عملوا بمالهم الخاص)، وقاموا بسداد كل ما تطلبه الدولة من ضرائب ورسوم وغيرها.
تقترح الدراسة آلية عاجلة لزيادة الأجور وتحديد الحد اﻷدنى للأجر، وتشير إلى إمكانية تطبيق آليات آخرى لكنها تتطلب وقتًا أطول، وتحتاج إلى تعديل بعض السياسات لكي يتمكن الطرف المغيب عن صنع القرار (العمال) من أن يكون موجودًا وفاعلًا، حتى يتسنى الحديث عن مفاوضة جماعية حقيقية ثلاثية الأطراف.