إدانة دون أدلة: المحاكمة غير العادلة لأبو الفتوح والقصاص ومعاذ الشرقاوي

إدانة دون أدلة: المحاكمة غير العادلة لأبو الفتوح والقصاص ومعاذ الشرقاوي 

المحتويات

أولًا: تمهيد

ثانيًا: التحريات والقبض 

  1. تحريات وشهادات 

  2. القبض والتعذيب

  3. التفتيش والأحراز

ثالثًا: أمام نيابة أمن الدولة

  1. تحقيقات بدون دفاع

  2. اعترافات بالإكراه

رابعًا: ثلاث سنوات دون محاكمة

  1. الإدراج على قوائم الإرهابيين

  2. "التدوير"

  3. أوضاع الاحتجاز

خامسًا: بموجب قانون الطوارئ

  1. غير دستوري

  2. باسم رئاسة الجمهورية

  3. فرق التوقيت

  4. هل كان الأمر طارئًا فعلًا؟

  5. بطلان الإحالة لمحكمة أمن الدولة طوارئ

سادسًا: توصيات

 

 أولا: تمهيد

يوم 29 مايو 2022 أصدرت محكمة جنايات أمن الدولة طوارئ حكمًا غير قابل للطعن، بإدانة 25 متهمًا في القضية 1059 لسنة 2021 (أمن الدولة طوارئ). تراوحت الأحكام من المؤبد إلى السجن المشدد لمدة عشر سنوات، حيث حكمت المحكمة حضوريًا بالسجن المشدد 15 عامًا على كل من المرشح الرئاسي السابق ورئيس حزب مصر القوية عبدالمنعم أبو الفتوح، والقائم بأعمال مرشد الإخوان المسلمين، محمود عزت، وبالسجن المشدد 10 سنوات على كل من نائب رئيس مصر القوية محمد القصاص، ونائب رئيس اتحاد طلاب طنطا السابق وعضو اتحاد طلاب مصر معاذ الشرقاوي. بدأت القضية في 2018 وأحيلت للمحاكمة في 2021، وصدر الحكم بعد بضع جلسات أمام جنايات أمن الدولة طوارئ انعقدت كلها بعد إعلان انتهاء حالة الطوارئ في مصر في أكتوبر 2021. 

شاركت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية في هيئة الدفاع عن المتهمين كممثل قانوني للقيادي الطلابي السابق معاذ الشرقاوي، الذي خضع للمحاكمة وهو مطلق السراح بعد إخلاء سبيله في شهر مارس عام 2020، بعد أن قضى عامًا ونصف رهن الحبس الاحتياطي في سجن طرة. 

لنرجع خطوة إلى الوراء. يوم 25 أغسطس 2021 أصدرت نيابة أمن الدولة العليا أمرًا بإحالة 25 متهمًا لمحاكمتهم أمام محكمة جنايات أمن الدولة طوارئ بالتجمع الخامس على ذمة القضية رقم 1059 لسنة 2021، والمقيدة برقم 440 لسنة 2018 (حصر أمن الدولة العليا طوارئ)، وذلك "لأنهم في غضون عام 1992 حتى 21 أغسطس 2018 بداخل وخارج الجمهورية" ارتكبوا ثماني جرائم متعلقة بالإرهاب، من بينها تولي قيادة جماعة إرهابية والانضمام إليها، وتمويلها، وحيازة أسلحة وذخائر، والترويج لأفكار داعية للعنف.

ظهرت القضية في مطلع عام 2018 في سياق حملة إعادة انتخاب رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي لفترة ثانية. بدأ العام بإعلان القوات المسلحة في بيان رسمي يوم 23 يناير عن استدعائها لسامي عنان رئيس الأركان الأسبق والمرشح الرئاسي المحتمل للتحقيق معه على خلفية اتهامه بتزوير ما يفيد إنهاء خدمته في القوات المسلحة، وإعلان ترشحه للرئاسة دون موافقة القوات المسلحة، وتحريضه صراحة ضد القوات المسلحة و"إحداث الوقيعة بين الجيش والشعب المصري" من خلال بيان ترشحه لرئاسة الجمهورية. بعد القبض على عنان، وإعلان وقف حملته الانتخابية، أعلن المرشح المحتمل المحامي خالد علي أن حملته الانتخابية تتعرض لمضايقات مما دفعه للانسحاب من السباق الانتخابي.

قررت النيابة العسكرية إخلاء سبيل سامي عنان بعد ما يقرب من عامين، بينما مازال العقيد أحمد قنصوة يقضي عقوبة بالحبس ست سنوات مع الشغل، والتي أيدتها دائرة جنح مستأنف شمال العسكرية، وذلك بعد إعلانه نيته الترشح لرئاسة الجمهورية. الحكم الصادر ضد قنصوة جاء بناءً على اتهامه بالقيام "بسلوك مضر بمقتضيات النظام العسكري"، والإدلاء بآراء سياسية. 

وفي سياق متصل، قام تحالف ضم عددًا من الأحزاب من بينها حزب مصر القوية وشخصيات مستقلة بالدعوة إلى مقاطعة الانتخابات الرئاسية وأعلن ذلك يوم 30 يناير 2018. لم يخض تلك الانتخابات لاحقًا سوى اثنين هما الرئيس عبد الفتاح السيسي، ينافسه مرشح واحد فقط هو موسى مصطفى موسى مؤسس حملة "مؤيدون" لدعم السيسي في الانتخابات الرئاسية التي انعقدت لاحقًا في مارس 2018.

نقطة بداية القضية 1059 لسنة 2021 كانت في فبراير 2018. وقتها كانت حالة الطوارئ مفروضة للمرة الثانية بعد فترة غياب، على أن تستمر لمدة ثلاثة أشهر قابلة للتمديد مرة واحدة فقط وفقًا لنص الدستور. وبالتزامن مع حالة الطوارئ المفروضة آنذاك ألقت قوات الأمن القبض على العدد الأكبر من المتهمين على ذمة القضية 440 لسنة 2018 (حصر تحقيق أمن الدولة طوارئ). يوم 11 فبراير عاد عبد المنعم أبو الفتوح من لندن عقب ظهوره في عدة لقاءات تلفزيونية، تطرق خلالها إلى مسألة الانتخابات الرئاسية المرتقبة وما وقع بحق عدد من المنافسين المحتملين للرئيس السيسي. صباح يوم 13 فبراير حرر ضابط بالأمن الوطني محضر تحرياته التي بدأت على أساسها القضية 440، ليكون الفرق الزمني بين كتابة أول محضر تحريات في القضية وبين صدور أمر بضبط وإحضار 16 متهمًا بينهم مرشح رئاسي سابق ورئيس حزب معلن أقل من 24 ساعة. في اليوم التالي أُلقي القبض على أبو الفتوح مع ستة من أعضاء المكتب السياسي لحزب مصر القوية تم إطلاق سراحهم -باستثناء أبو الفتوح- بعد ساعتين تقريبًا دون تحقيق رسمي، بينما باشرت النيابة تحقيقها مع أبو الفتوح في اليوم التالي.

ما بين الرواية الرسمية المعلنة، ورواية المتهمين، والانتهاكات المرصودة من فريق الدفاع عن المتهمين، يستعرض هذا التقرير قائمة بالأسباب والمخالفات التي تقتضي إلغاء الحكم الصادر في القضية 1059 لسنة 2021 جنايات أمن الدولة طوارئ. تقدم المبادرة المصرية في هذا التقرير قراءة للأوراق الرسمية للقضية، وما تقدم به الدفاع من مرافعات، وما قررته المحكمة في حيثيات حكمها، وذلك بالتوازي مع شرح للسياق العام وخلفية الاحتجاز على ذمة التحقيق الذي امتد لما يزيد عن ثلاث سنوات قبل محاكمة استمرت بضعة أشهر، في ظل إطار قانوني استثنائي ينتهك العديد من ضمانات المحاكمة العادلة.

ثانيًا: التحريات والقبض

يوم 13 فبراير 2018، انتهى الضابط في قطاع الأمن الوطني بوزارة الداخلية من كتابة أول مذكرة تحريات تخص 16 متهمًا كبداية، وهو اليوم نفسه الذي أذن فيه المحامي العام الأول لنيابات أمن الدولة العليا بضبطهم وإحضارهم وتفتيش محال إقامتهم. فيما بعد سيزيد عدد المطلوبين على ذمة القضية ليصل إلى 25 متهمًا.

يستعرض هذا الجزء من التقرير الطريقة التي تم بها بناء القضية والإعلان عنها بما يشمل محتويات مذكرات تحريات قطاع الأمن الوطني بوزارة الداخلية، وكيفية القبض على المتهمين، وضبط الأحراز. وذلك من خلال سرد الرواية الرسمية المعلنة على المنصات الإعلامية والمنصات الرسمية على مواقع التواصل الاجتماعي، إلى جانب ما جاء بمحاضر الشرطة، في مقابل رواية المتهمين التي أدلوا بها في التحقيقات أمام نيابة أمن الدولة العليا.

  1. تحريات وشهادات

انبنت القضية بالأساس على محضري تحريات اثنين، أجراهما ضابط بقطاع الأمن الوطني. يتكون المحضر الأول من ست صفحات وتم تحريره في 13 فبراير 2018، والثاني عبارة عن ملحق يقل عن صفحتين تم تحريره يوم 20 من الشهر نفسه. لم يعلن الضابط عن المدة التي قام خلالها بإجراء تحرياته، ولم يسرد شهادته الشخصية على أي وقائع حدثت بالفعل، ليكتب محضر التحريات الأول مستندًا على "معلومات مصادره السرية الموثوق فيها" فقط. وهو الأمر الذي أصبح اعتياديًا في التحقيقات المستخدمة في قضايا أمن الدولة، لتأتي التحريات خالية من أية دلائل حقيقية على الاتهامات التي ستوجه مستقبلًا للمتهمين.

حسب محضر التحريات الأول، ما حدث هو كالآتي: وردت معلومات من "مصادر سرية" تأكد منها ضابط الأمن الوطني من خلال تحرياته، دون تحديد ماهية هذه التحريات. المعلومات مفادها أن هناك "مخطط عام يهدف إلى إشاعة الفوضى بالبلاد(...) لإسقاط الدولة ومؤسساتها" وأن القائمين على هذا المخطط هم ستة أشخاص أطلق عليهم "قيادات تنظيم الإخوان بدولة بريطانيا" هذا المخطط قائم على محورين، الأول هو تصعيد العمليات الإرهابية ضد الدولة والثاني هو استخدام الوسائل الإعلامية في "بث أخبار كاذبة لإثارة الرأي العام".

تحكي التحريات أن القيادات الستة اتفقت مع محمود عزت لإسناد مسئولية تنفيذ المخطط إلى عبد المنعم أبو الفتوح على أن يستغل الأخير "غطاءه الشرعي كرئيس لحزب مصر القوية ليصعد التحرك ضد الدولة"، ثم أضاف الضابط أن تحرياته أكدت استعانة أبو الفتوح بمحمد القصاص "لتنفيذ المخطط"، وأن أبو الفتوح قام بالتواصل مع "مسئولي المكاتب الإدارية بالتنظيم وتكليفهم بتوفير الأسلحة اللازمة لتنفيذ المخطط" وأنه أيضًا قام بتأسيس مجموعات "طلبة مصر القوية" لضمهم للجناح المسلح، وأن تحرياته توصلت إلى أن من بين المنضمين أربعة متهمين من بينهم معاذ الشرقاوي. وهنا تجدر الإشارة إلى أن عددًا من أولئك "الطلبة" كان منهم من تخرج منذ سنة على الأقل وقت كتابة محضر التحريات. أشار الضابط في تحرياته إلى أن أبو الفتوح عندما سافر إلى لندن عقد لقاءات مع عدد من القيادات، وأجرى حوارًا إعلاميًا مع متهم آخر على ذمة القضية. لم يرد في أي موضع في هذه التحريات تواريخ اللقاءات المزعومة، ولم يرد إن كان الضابط على دراية بالفعل بما دار خلال هذه اللقاءات.

في البداية ركزت التحريات على جرائم مستقبلية محتملة لم تقع فعلًا، ولا تتوافر بها أركان الشروع في الجريمة أو حتى الدعوة إليها على أقل تقدير. حيث أشارت المصادر السرية إلى وجود مخططات غير معلنة، وأسندت المسؤولية لتنفيذ هذه المخططات للمتهمين، بالإضافة إلى محاولات لم تتم الإشارة إلى نجاحها من عدمه في استقطاب الشباب والطلبة. مخالفات القانون التي بنيت على أساسها القضية هي وجود النية، وعقد لقاءات تنظيمية لم يتم الوقوف على ما إن كانت انعقدت بالفعل. فالتحريات، التي لا تذكر أي أدلة مادية، فقط تشير إلى معلومات من مصادر مجهلة، بشأن اجتماعات مع أشخاص في أماكن نفى الدفاع وجودهم فيها، وطلب تقديم أدلة من أي نوع على تواجدهم في نفس البلاد التي يفترض وقوع الاجتماعات فيها، ولكن النيابة لم تقدم أيًا من ذلك. إلى جانب هذا أشارت التحريات إلى اللقاء التلفزيوني الذي ظهر فيه عبد المنعم أبو الفتوح على قناة الجزيرة، وأرفقت نسخة منه باعتباره حرزًا. 

الضابط الذي أجرى التحريات لم يشر إلى أن ما أدلى به أبو الفتوح في اللقاء التلفزيوني يعد نوعًا من أنواع التحريض على العنف، ولم يثبت في محضره قيام أبو الفتوح بترديد أخبار كاذبة مثلًا، ولكنه اكتفى بالإشارة إلى أن اللقاء كان ضمن المخطط العام الذي يهدف إلى "تصعيد أنشطة التنظيم الإرهابية والتخريبية تجاه الدولة، وإشاعة الفوضى، بغرض الانقضاض على السلطة"، ولذلك كان بطلان التحريات من بين دفوع عدد من المتهمين عند محاكمتهم.

لم يأت تقرير التحريات الثاني بشكل أفضل من حيث الأدلة أو الدقة أو التفصيل في المعلومات. فبخلاف كتابته بعد أسبوع كامل من القبض على أبو الفتوح، أكد الضابط مُحرر التقرير على ثقته في معلومات مصادره السرية، والتي أفادت بقيام عبد المنعم أبو الفتوح باستغلال مزرعة خاصة به، دون تحديد مدة هذا الاستغلال أو أي تفاصيل قانونية أو إدارية أخرى، للقيام بعدد من الجرائم المنسوبة إليه، ومن بينها عقد اللقاءات التنظيمية وتنفيذ تدريبات مسلحة لأعضاء التنظيم. من ناحية قدمت أسرة أبو الفتوح ودفاعه كل المستندات الرسمية التي تنفي صلته بالمزرعة الواقعة أصلاً في حيازة مستأجر منذ سنوات؛ ما يشكك في صحة التحريات من بدايتها. ومن ناحية أخرى لا يوجد سوى تأكيد ضابط في تحرياته التي لم يفصح عن مصادرها على وقوع هذه اللقاءات والتدريبات بالفعل. لا توجد أي أدلة تدعم هذا الادعاء على الإطلاق، فلم تأتِ التحريات بأنه في تاريخ معين عُقد لقاء معين بحضور أشخاص معينة بهدف التدريب على أي من الأشياء التي زعمت التحريات أنهم قاموا بها في التقرير. مذكرة التحريات كلها لا تحتوي على أي شئ يمكن أن يوصف بأنه أكثر من أقوال مرسلة.

تجدر الإشارة إلى أن جميع محاضر التحريات الخاصة بالقضية مبنية على اعتماد الضابط الذي أجراها على "مصادر سرية"، وبناءً على ذلك سيصبح جميع شهود الإثبات في القضية من ضباط قطاع الأمن الوطني نيابة عن مصادرهم، وهو أمر شائع في الكثير من القضايا التي تضطلع بها نيابة أمن الدولة العليا؛ بل إنه أصبح ممارسة ثابتة لا تسائلها المحاكم.

لإثبات تهمة الانضمام إلى جماعة إرهابية، أرفقت النيابة مع أمر إحالة المتهمين، قائمة بأقوال الشهود وأدلة الإثبات والتي تضمنت ما أقره المتهمون خلال التحقيق معهم، باعتباره دليل إدانة، بينما لم تلتفت نيابة أمن الدولة، ومن بعدها المحكمة إلى ما جاء فعلًا في هذه الإقرارات، لتعتمد جزءًا وتتجاهل آخر. أقر عبد المنعم أبو الفتوح بانضمامه فعلًا إلى جماعة الإخوان المسلمين لكنه أقر أيضًا أن ذلك الانضمام استمر فقط حتى عام 2000، وأنه أعلن ذلك في 2009. وأكد إقرار محمود عزت أمام نيابة أمن الدولة على انقطاع صلة الجماعة بعبد المنعم أبو الفتوح بعد قرار صدر بفصله على خلفية قراره خوض الانتخابات الرئاسية في 2012. أما فيما يخص محمد القصاص فالأمر مختلف، دفع محاميه بانتفاء كل من الركن المعنوي والمادي لجريمة الانضمام لجماعة إرهابية، حيث خلت أوراق القضية من الإشارة إلى قيام القصاص بأي فعل يمكن أن تترتب عليه آثار أو نتيجة لوقوع جريمة الانضمام. لم تجد نيابة أمن الدولة في أقوال القصاص ما يمكن اعتباره إقرارًا بالانضمام يمكن ضمه لأدلة الإثبات، فضلًا عن غياب أي أدلة أو قرائن تدعم هذا الاتهام.

عندما صدر الحكم في القضية، شرحت محكمة أمن الدولة طوارئ أنها لم تأخذ بدفع بطلان التحريات التي أجراها ضابط الأمن الوطني. وقررت هيئة المحكمة أنها مطمئنة إلى جدية التحريات، لأنها تبدو لها واضحة، و"تضمنت أسماء المتهمين ومحال إقامتهم"، وكأن هذه أدلة كافية. وأكدت على أن هذا الاطمئنان جاء ثقةً في أقوال مُجري التحريات (شاهد الإثبات الأول) حتى وإن لم يجرِ ما جاء من تحريات بشخصه! 

شهادة ضباط: في الوقت الذي خلت فيه القضية من أي شهود نفي، وصل إجمالي عدد شهود الإثبات في القضية أربعة من بينهم ثلاثة ضباط، إلى جانب خبير أصوات بالهيئة الوطنية للإعلام، والذي أقر بتطابق صوت وصورة أبو الفتوح بما جاء في تسجيل المقابلة التلفزيونية المرفقة ضمن الأحراز. الشاهد الأول هو ضابط قطاع الأمن الوطني الذي أجرى التحريات، ليشهد بما ورد له من معلومات حصل عليها من "مصادر سرية". والشاهد الثاني كان ضابطًا آخر أدلى بشهادته حول ما ضبطه خلال تفتيش ما اعتبره مسكن عبد المنعم أبو الفتوح (رغم نفي أبو الفتوح لذلك وتأكيده على أن هذا عنوان مكتبه وليس مسكنه) عند القبض عليه. والشاهد الثالث هو عقيد الشرطة الذي قام بإلقاء القبض على ستة مزارعين من المزرعة التي نسبت ملكيتها لأبو الفتوح. 

من ناحية أخرى، لم يقدم مجري التحريات أي دليل يدعم الاتهام الوحيد الذي تم توجيهه لمعاذ الشرقاوي، الذي صدر ضده حكم بالسجن المشدد عشر سنوات لإدانته بتهمة واحدة هي الانضمام لجماعة إرهابية استنادًا فقط على شهادة الضابط مُجري التحريات.

أثناء المحاكمة تم تحديد جلسة لمناقشة شاهد الإثبات الأول وهو الضابط الذي أجرى التحريات. ناقشت محامية المبادرة المصرية للحقوق الشخصية المدافعة عن معاذ الشاهد فيما أجراه من تحريات، وسألته إن كان قد لاحظ بنفسه اشتراك معاذ فيما نسب إليه من أنشطة، فأجاب بأن "هذا ما توصلت إليه التحريات". وعند سؤاله إذا ما كان قد رصد قيام معاذ بحضور لقاءات بينه وبين أي من المتهمين الآخرين مما يثبت انضمامه ونشاطه، كانت الإجابة: "مش فاكر"! وعلى الرغم من أن المادة 290 من قانون الإجراءات الجنائية تنص على أنه إذا قرر الشاهد أنه لم يعد يذكر واقعة من الوقائع يجوز أن يتلى من شهادته التي أقرها في التحقيق أو من أقواله في محضر جمع الاستدلالات، لم يقم الضابط مُجري التحريات بالرجوع لما أورده بمحضر تحرياته للإجابة على سؤال الدفاع. والسبب في ذلك هو في الغالب أن تحرياته طبقًا للمذكرة التي قام بتحريرها لم تُشر بأي حال إلى حضور أي اجتماعات أو لقاءات أو لرصد أي من الأنشطة المنسوبة للمتهم بشكل مباشر.

 في حالة معاذ الشرقاوي، أرفقت النيابة إقرارًا له من بين أقواله في التحقيقات بشأن مشاركته في تظاهرات سلمية لا صلة لها بما هو منسوب إليه في محضر التحريات. أخذت النيابة ما رواه معاذ مسلمًا به، بينما لم تلتفت إلى إنكاره المستمر على مدار القضية لانضمامه إلى أي جماعة أو حزب سياسي، ناهيك عن خلو محضر التحريات من أي قرائن أو أدلة تدعم اتهامه، أو وجود أي صلة له من أي نوع بجماعة الإخوان المسلمين أو حزب مصر القوية. كما باشرت النيابة استجواب معاذ دون دفاع، ودون الالتفات إلى ما أقره بشأن تعرضه للاختفاء القسري والتعذيب، ودون أن تتحقق من مدى مطابقة اعترافه مع الحقيقة. اعتبرت النيابة أن إفادة معاذ بالمشاركة في تظاهرات سلمية، في فترات تسبق ظهور القضية التي أُحيل إلى المحاكمة على ذمتها بسنوات أمر كافٍ لمحاكمته. 

في حيثيات حكمها ردت محكمة الطوارئ على هذا الدفع بأن "من المقرر أن الاعتراف في المسائل الجنائية من العناصر التي تملك محكمة الموضوع كامل الحرية في تقدير صحتها وقيمتها في الإثبات". وهكذا لم ترد محكمة الطوارئ بشكل مباشر على ما دفعت به محامية معاذ بأنه لا يصح تأثيم شخص حتى وإن اعترف بنفسه، حال جاء اعترافه مخالفًا للحقيقة. وبشكل ضمني قررت المحكمة اعتبار اعتراف المتهم كافيًا ويغني عن تحريات الداخلية أو تحقيقات النيابة.

جاء الحكم الصادر على معاذ مستندًا على الرأي الشخصي لمجري التحريات ولوكيل النيابة الذي حقق مع معاذ، رغم أن أيًا منهما لم يقدم دليلًا واحدًا ليثبت الإدانة فيما يرتبط بالقضية 1059، في الوقت الذي لا يتذكر فيه مُجري التحريات من الأساس إن كان هناك ما وقع من معاذ الشرقاوي ويمكن اعتباره جريمة يعاقب عليها القانون. 

مرة أخرى أثبت الضابط مُجري التحريات (الشاهد الأول) أن ما جاء في تحرياته لم يكن متسقًا، وأن شهادته لم تكن مدعومة بدلائل حقيقية وقاطعة، عندما ناقشه دفاع أبو الفتوح فيما أورده بخصوص اللقاءات التي ادعى عقدها في لندن بين أبو الفتوح وعدد من "القيادات". سأله الدفاع إن كان هو بنفسه موجودًا في لندن، أم استقى معلوماته من مصدر، دون أن يتلقى ردًا. وأوضح الدفاع أن أحد القيادات المُشار إليها لم يتواجد في إنجلترا من الأصل على مدار سنوات مضت، وطلب مخاطبة الحكومة الإنجليزية بشأن التأكد من دخوله إلى إنجلترا، لكن المحكمة لم تلتفت لهذا الطلب، وقررت اعتماد الرواية المُرسلة التي قدمها مُجري التحريات.

المسار الطبيعي الذي كان ينبغي أن تتخذه هذه القضية هو حفظ التحقيقات أو تبرئة المتهمين لغياب وضعف الأدلة؛ وينطبق هذا على الكثير من القضايا التي انبنت بالكامل على تحريات سرية، حيث استندت كلها إلى مصادر سرية لم يُسمح للمحكمة أو دفاع المتهمين بالاستماع لها أو توجيه أسئلة إلى أي منها، ولا حتى في جلسات مغلقة أو سرية أو تحت أي إطار يضمن حمايتها. أي أن الأحكام الصادرة في تلك القضية -ومثيلاتها من قضايا أمن الدولة في السنوات الأخيرة- هي أحكام غير مستندة إلى أدلة حقيقية؛ فقط آراء الضباط الذين أجروا التحريات. ليس هذا حكمنا، بل هو حكم وتوصيف محكمة النقض، التي أقرت بأن تحريات الشرطة تظل قرينة على الاتهام وليست دليل إدانة بأي حال من الأحوال. وهو ما يعني أن التحريات رأي شخصي للضابط الذي أجراها يجب أن تدعمه أدلة أخرى قبل تقديمه إلى القاضي ولا يمكن أن يرتقي في حد ذاته إلى دليل إثبات. 

ولأن رواية المصادر السرية التى تفتقر إلى الجدية والكفاءة ليست دليلًا يمكن الاعتداد به وحده لكي تنبني عليه قضية تحوي اتهامات بهذه الخطورة، ستقدم الشرطة فيما بعد أحرازًا ادعت ضبطها في عمليات القبض على بعض المتهمين. بينما ستتعامل النيابة مع الإفادات الواردة بالتحقيقات بشكل انتقائي، ليظهر اعتماد المحققين بعض أقوال المتهمين بوصفها اعترافات، بينما تجاهلوا الكثير من أقوال المتهمين التي تفيد بتعرضهم لعدد من الانتهاكات.

  1. القبض والتعذيب

إدانة قبل التحقيق: بين سنتي 2018 و2020، ألقت قوات الأمن على مجموع عشرة متهمين من أصل 25 متهمًا في القضية، وهم بترتيب القبض: محمد القصاص، وعبد المنعم أبو الفتوح، وستة مزارعين، ومعاذ الشرقاوي وذلك خلال عام 2018، ثم ألقي القبض على محمود عزت في أغسطس 2020.

قبل كتابة محضر التحريات الأول في القضية كان محمد القصاص نائب رئيس حزب مصر القوية محتجزًا بالفعل، بعد القبض عليه في 8 فبراير 2018. يوم القبض عليه خرجت قوتان أمنيتان قامت واحدة منهما بإلقاء القبض عليه أثناء عودته من زفاف أحد أصدقائه، بينما داهمت القوة الأمنية الأخرى منزله؛ وذلك على خلفية اتهامه بالانتماء لجماعة الإخوان وترويج أفكار إرهابية، على ذمة قضية أخرى لم تُحَلْ إلى المحكمة حتى كتابة هذه السطور. ثم بعد ذلك بأسبوع تقريبًا ألقت قوات الأمن على عبد المنعم أبو الفتوح يوم 14 فبراير. سريعًا وفي اليوم التالي أعلنت وزارة الداخلية إدانتها له في بيان يحمل الكثير من الاتهامات، دون أن تنتظر بدء النيابة في القيام بدورها سواء كسلطة تحقيق أو اتهام. أعلنت الداخلية في بيانها الرسمي عن تنفيذ ما أسمته "ضربات أمنية ناجحة موجهة لفصائل النشاط المتطرف وكوادر الجناح المسلح لجماعة الإخوان الإرهابية"، رغم عدم صدور أي حكم قضائي يدين أبو الفتوح من قبل بأي من تلك الأشياء. بل إنه وحتى تاريخ القبض عليه كان يمارس نشاطًا سياسيًا مشروعًا وعلنيًا كرئيس حزب رسمي معترف به من السلطات ومرشح رئاسي سابق.

بعد مرور أسبوع من القبض على أبو الفتوح، وتحديدًا في تاريخ 21 فبراير، أعقبت وزارة الداخلية بيانها ببيان آخر، ومقطع مصور، بعنوان "ضبط 6 عناصر إخوانية فى مزرعة خاصة بالقيادى الإخوانى عبدالمنعم أبو الفتوح بوادي النطرون".نفت عائلة أبو الفتوح وجود علاقة له بالمزرعة في نفس يوم صدور البيان، وأعلنت عن استعدادها لتقديم كافة الأدلة التي تنفي صلته بها. 

تم إدراج المزارعين الستة المقبوض عليهم على ذمة القضية نفسها. وللمرة الثانية، أدانت الداخلية المتهمين علنًا قبل بدء التحقيق معهم، رغم أنهم لم يتم ضبطهم متلبسين بارتكاب الجرائم التي احتواها البيان. قامت الداخلية بممارسة عدد من الاختصاصات الخارجة عن سلطتها، وتعاملت مع نفسها باعتبارها سلطة قضائية، حيث وجهت اتهامات وأصدرت أحكامًا في بيانها، وغاب عنها مفهوم وقاعدة قانونية أساسية لا خلاف عليها، تؤكد على أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته، فنشرت صور المتهمين دون الأخذ في الاعتبار الضمان الدستوري الذي تكفله المادة 51 فيما يخص التزام الدولة باحترام وحماية كرامة كل إنسان.

تاريخان للقبض: يختلف تاريخ القبض الوارد بالمحاضر الرسمية، عن التاريخ الذي أقر به سبعة متهمين عندما مثلوا للتحقيق أمام النيابة (المزارعون الستة ومعاذ الشرقاوي). تقول محاضر الضبط الرسمية أن القبض على المزارعين الستة كان يوم الأربعاء 21 فبراير 2018، في الساعة الرابعة مساءً، وعليه أعلنت الداخلية بعد ساعات عن ضبطهم عبر منصاتها الإعلامية المختلفة، في حين أجمعوا كلهم في تحقيق النيابة على أن القبض عليهم كان يوم الثلاثاء 20 فبراير 2018. 

أجمع المزارعون الستة في أقوالهم على أن قوة أمنية وصلت إلى محل عملهم بالأرض الزراعية وأن القبض عليهم دونًا عن باقي المتواجدين جاء بعد الكشف على بطاقات الرقم القومي للجميع. ويبدو أن قوة القبض قررت القبض على كل من ظهر في الكشف أنه سبق وألقي القبض عليه، رغم عدم علاقة القضايا السابقة بالضرورة بالجريمة محل التحقيق، وبالرغم من محاولة واحد منهم التأكيد على أنه تمت تبرئته بالفعل في المحكمة! 

تقول الرواية الرسمية إن المزارعين الستة ألقي القبض عليهم وتصويرهم في اليوم نفسه الذي نُشر فيه البيان عن ضبطهم في 21 فبراير، ليأتي عرضهم على النيابة في اليوم التالي بما لا يخالف القانون. بينما لم تحقق النيابة في أقوال المزارعين الذين أفادوا بأن القبض عليهم كان يوم 20 فبراير، وأنهم تعرضوا للمعاملة المهينة والضرب طبقًا لأقوالهم في التحقيقات. كما أفادوا باحتجازهم بقسم شرطة النوبارية، قبل أن يتم نقلهم إلى المزرعة مرة أخرى في اليوم التالي، ليُجبَروا على التصوير والإدلاء بأقوال دون الاستعانة بمحام، ثم تم احتجازهم مرة أخرى قبل عرضهم على النيابة. 

من ناحية أخرى أفاد القيادي الطلابي السابق معاذ الشرقاوي بتعرضه لعدد أكبر وأعنف من الانتهاكات خلال الفترة التي سبقت عرضه على نيابة أمن الدولة. "كنت بنام متكلبش لغاية ما جابوني هنا النهاردة"، هذه هي الجملة التي اختتم بها معاذ الشرقاوي إفادته في التحقيق أمام نيابة أمن الدولة حول واقعة القبض عليه. تفيد الأوراق الرسمية بأن محضر ضبط معاذ تم تحريره في الساعة الثالثة وعشرين دقيقة من فجر يوم السبت 13 أكتوبر 2018. وحرر الضابط بقطاع الأمن الوطني بمذكرة التوقيف أنه قام بإلقاء القبض على معاذ بعدما انتقل مع قوة إلى محل سكنه بقرية بمركز طنطا. وبعد الطرق على الباب فتح معاذ وتم إطلاعه على طبيعة المأمورية ثم تفتيشه دون العثور على مضبوطات. وعليه تم عرضه على نيابة أمن الدولة بالقاهرة الجديدة في اليوم نفسه في الساعة الثالثة والنصف عصرًا.

 ولكن معاذ قدم للنيابة رواية مختلفة كليةً، حيث سرد للمحقق بنيابة أمن الدولة أن القبض عليه وقع قبل التاريخ المذكور بـ24 يومًا، وتحديدًا في العاشرة من صباح يوم الأربعاء 19 سبتمبر 2018، وذلك بعد توقيفه في كمين شرطة على طريق شرم الشيخ خلال تأديته لعمله كمنظم رحلات سياحية. قال معاذ إنه تم القبض عليه بدون مواجهته بأمر ضبط، وإنه بعد تقييده ونقله لمقر تابع لأمن الدولة بشرم الشيخ، تم نقله لمقر أمن الدولة بطنطا حيث ظل محتجزًا لمدة 23 يومًا.

" حصل معايا تحقيقات تحت التعذيب عبارة عن كهربا في فخادي الاتنين، وفي عورتي، وفي صُباع إيدي الشمال، وضرب بالإيد والشبشب على وشي، وشتايم، وقلعت هدومي كلها عشان أعترف .. استمر التعذيب ده مرتين أول يوم روحت وبعدها بيومين"

حكى معاذ لمحقق نيابة أمن الدولة عن تفاصيل التعذيب البدني الذي تعرض له، والتحقيقات غير الرسمية التي أجريت معه لإجباره على الاعتراف بالاتهامات التي وُجهت له قبل عرضه على النيابة. وأسهب معاذ في الحديث عن تفاصيل فترة احتجازه بشكل غير رسمي والتي طالت لما يقرب من شهر. وعقب انتهاء أول جلسة تحقيق في النيابة، والتي أجريت في عدم وجود محام للدفاع عنه، قررت نيابة أمن الدولة حبس معاذ 15 يومًا، على أن يتم استكمال التحقيق معه بعد ثلاثة أيام. لم تلتفت نيابة أمن الدولة إلى الشكاوى أو البلاغات الضمنية التي جاءت ضمن أقوال معاذ، لذا لم يصدر أمر من نيابة أمن الدولة بالتحقيق في صحة واقعة القبض بالتاريخ الذي أشار له معاذ، أو واقعة التعذيب أو الاحتجاز في مكان غير قانوني لفترة تجعله يندرج تحت مسمى الاختفاء القسري، وهو ما يترتب عليه احتمالية تزوير محضر الضبط المعروض أمامها. ولم يصدر أيضًا قرار بعرضه على الطب الشرعي للتحقق من صحة أقواله كما ينبغي أن تفعل جهة التحقيق.

كان المحامي العام لنيابة أمن الدولة العليا قد أصدر أمرًا بضبط معاذ وتفتيش مسكنه بتاريخ 13 فبراير 2018 استنادًا إلى محضر التحريات الأول الصادر من الأمن الوطني والذي حوى اسمه ضمن 16 شخصًا آخرين. وعلى الرغم من أن مدة سريان أمر الضبط والإحضار شهر واحد، إلا أن محكمة جنايات أمن الدولة طوارئ لم تلتفت إلى ما قدمته محامية معاذ من دفوع بشأن سقوط أمر حبسه لمضي أكثر من ستة أشهر بين صدور أمر الضبط في فبراير والقبض الفعلي في سبتمبر، بحسب المادة 139 من قانون الإجراءات الجنائية. وحسبما جاء في حيثيات الحكم، أصدرت النيابة أكثر من أمر ضبط وإحضار؛ فبعد شهر من صدور أمر الضبط الأول، صدر أمر جديد في مارس 2018، ثم آخر في أبريل، ثم توقفت النيابة عن إصدار أوامر ضبطه لمدة خمسة أشهر كاملة، لتعود لإصدار أمر ضبط جديد سارٍ لمدة شهر في 20 سبتمبر 2018، أي في اليوم التالي للقبض الفعلي على معاذ طبقًا لأقواله في التحقيقات، والمدعومة بالتلغرافات التي أرسلها أهل معاذ للنائب العام عقب القبض عليه.

لم تعتد المحكمة بدورها بالدفع الخاص بوقوع تزوير في وقائع القبض على معاذ. وسلمت كل من نيابة ومحكمة أمن الدولة بصحة رواية ضباط قطاع الأمن الوطني، رغم أن وزارة الداخلية لم تشر فيما قدمته من أوراق إلى أي محاولة لتنفيذ أوامر النيابة بضبط معاذ، أو انتقال الضباط لمسكنه للقبض عليه طوال الفترة ما بين فبراير (تاريخ صدور أمر الضبط الأول) وحتى أكتوبر 2018. 

وقررت المحكمة أن إجراءات القبض على معاذ وعرضه على النيابة جاءت صحيحة، وأعلنت أنها لم تطمئن لصحة إفادة معاذ بتعرضه للاحتجاز في مقرات غير رسمية، وما أشارت له محاميته من تلغرافات سبق وأن أُرسلت للنائب العام للإبلاغ عن تعرضه للاختفاء القسري لمدة تقترب من الشهر قبل تاريخ الضبط المثبت بالأوراق الرسمية.

بعد القبض على معاذ في 19 سبتمبر 2018، أرسل اثنان من أشقائه عددًا من التلغرافات لكل من النائب العام، والمحامي العام الأول لنيابات أمن الدولة، ووزير الداخلية، وذلك التماسًا لفتح تحقيق في واقعة القبض على معاذ، ومطالبةً بإطلاق سراحه، وبإبلاغهم إن كان مطلوبًا على ذمة أي قضايا لتمكين محاميه من حضور التحقيق معه. لم تجرى النيابة التحقيق في الأمر ولا في أقوال معاذ بتعرضه للتعذيب والاختفاء القسري، وتزوير محضر ضبطه. علمًا بأن هذا قصور؛ فالنيابة هنا بصفتها جهة تحقيق قبل أن تكون جهة اتهام عليها أن تتعامل مع أقوال الطرفين المتخاصمين بنفس القدر من الجدية والحيدة. لم تبذل النيابة أدنى مجهود، وقررت تجاهل أقوال معاذ "المحتجز" التي تطابق ما جاء في تلغرافات أهله عن تاريخ القبض عليه، حتى أنها لم ترفق مع أوراق القضية شهادة الضابط الذي يفترض أنه ألقى القبض على معاذ حسبما جاء في الأوراق الرسمية، باعتباره شاهد إثبات كما هو الحال مع الضباط الذين تولوا ضبط أبو الفتوح أو المزارعين الستة.

عللت المحكمة تسليمها التلقائي بصحة الإجراءات بالرغم من وجود الكثير من العوامل التي تستدعي التشكيك بأنه "من السهولة لأي شخص أن يبادر إلى اللجوء إلى هذه الوسيلة عند شعوره بالملاحقة الأمنية لكي يشكك المحكمة في صحة إجراءات ضبطه". وقررت محكمة الطوارئ -دون بحث أو تحقيق- عندما أصدرت حكمها أن البرقيات التي بعث بها أهل معاذ ليست حقيقية، رغم أن محكمة النقض سبق وأصدرت حكمًا اعتمدت فيه البرقيات المرسلة باعتبارها دليلًا على ميعاد الضبط المخالف لما يشهد به شهود الإثبات ممن قاموا بضبط المتهم. كما قررت محكمة النقض أنه يعتبر من قبيل الإخلال بحق المتهم في الدفاع أن يصدر الحكم "دون أن يمحص البرقيات المرسلة تدليلًا على حصول القبض (...) قبل الإذن به". 

عمليًا، نجد أن هيئة المحكمة تسلم بأي رواية تقدمها جهات القبض والتحقيق مهما كانت الأدلة عليها ضعيفة أو منعدمة. بينما من ناحية أخرى تقرر التعامل بانتقائية مع أقوال المتهمين، فتعتمد منها ما قد يساعد على إدانة المتهمين، بينما تتجاهل أي أقوال ينكرون فيها ما يواجهونه من اتهامات أو تفيد بتعرضهم للانتهاك، وكأن إجراءات التقاضي والدفاع ومحاولة تقديم أو طلب أدلة على الاتهامات لا جدوى لها ولا طائل منها.

الثابت مما قررته محكمة النقض في حالات مشابهة أنه يجوز للمحكمة ألا تلتفت إلى البلاغات الرسمية التي تفيد الاختفاء باعتبارها دليلًا، عندما لا تتماشى مع الحقيقة التي اطمأنت لها المحكمة. ولكن هذا لا يجب أن ينطبق على حالة معاذ، فتجدر الإشارة إلى أنه في الفترة ما بين صدور أمر الضبط الأول في فبراير، وقبل تعرض معاذ للاختفاء والاحتجاز غير القانوني في سبتمبر، تم إدراج اسمه على قوائم الإرهابيين. وعليه تقدم بطعن على هذا الإدراج أمام محكمة النقض. وإلى جانب ذلك تقدم بأوراق تجنيده للجيش -وكل هذا مثبت بالتواريخ في أوراق رسمية يمكن للمحكمة الحصول عليها. لم يتم إخطاره بصدور أمر بالقبض عليه، ولم تتوجه أي قوة أمنية لمحل سكنه خلال هذه الفترة. وعليه لا يوجد على الإطلاق ما يثبت -بل إن هذه التعاملات الرسمية التي باشرها بنفسه تنفي- احتمالية شعوره "بالملاحقة الأمنية" كما ادعت المحكمة.

وهناك الكثير من الأدلة في قضايا أمن الدولة المماثلة لتكرار هذه الممارسة من قِبل قطاع الأمن الوطني -أي إخفاء المتهمين لفترات قبل عرضهم على النيابة ثم تحرير مذكرة قبض بتاريخ يسبق العرض بيوم واحد. ولعل تسليم المحاكم في قضايا أمن الدولة بشكل مستمر بما تقدمه جهة القبض وجهات التحقيق ساهم في ترسيخ هذه الممارسة المتكررة من قبل أمن الدولة. ففي كل هذه الحالات الموثقة يقوم الأهل أو المحامون بتقديم تلغرافات للنيابة العامة لمحاولة معرفة مكان الاحتجاز وإثبات الواقعة، إذ أن الشرطة عادة ما تنفي وجود الأشخاص المحتجزين بشكل رسمي لديها. ومن الصعب تقبل أن كل هذه الوقائع هي محاولات لتزوير الاختفاء من قبل الأهل أو المتهمين. ولكن لا يوجد لدينا أي أمثلة في أي من عشرات القضايا التي قمنا بتمثيل متهمين فيها أو بتوثيقها أو دراستها في السنوات الأخيرة على مرة واحدة التفتت هيئة المحكمة فيها إلى هذا العوار في إجراءات القبض أو اعتبرته خللًا يستحق الانتباه أو السؤال عنه.

  1. التفتيش والأحراز

طبقًا للمادة 51 من قانون الإجراءات الجنائية يمكن لقوة الضبط أن تقوم بتفتيش ممتلكات أو محل سكن المطلوب ضبطه بأمر قضائي، وتلتزم القوة قانونًا بأن تقوم بالتفتيش بحضور المتهم أو من ينوب عنه، أو في وجود شهود يفضل أن يكونوا من أقارب المتهم أو جيرانه، ويثبت ذلك في محضر رسمي. ووفقًا لأوراق القضية، قامت وزارة الداخلية بتفتيش مكانين أثناء حملات القبض التي قامت بها في فبراير 2018، المكان الأول هو ما اعتبرته منزل عبد المنعم أبو الفتوح عندما تم القبض عليه، والثاني هو مزرعة بوادي النطرون بمحافظة البحيرة، نسب ضابط الأمن الوطني مجري التحريات ملكيتها لأبو الفتوح.

التفتيش الأول: أشارت الداخلية في محضر ضبط عبد المنعم أبو الفتوح إلى التزامها بإجراء تفتيش سليم قانونيًا. إلا أنه حسبما أفاد أبو الفتوح خلال تحقيق النيابة، تم القبض عليه من مكتبه وليس من محل سكنه، وهما مكانان مختلفان، وأكد أمام النيابة على أنه تم إخطاره بصدور أمر بضبطه وإحضاره، دون اطلاعه على نص هذا الأمر. بينما لم يبلغه أحد بصدور أمر بالتفتيش.

 حسبما جاء بالأوراق لم تقم النيابة بالاطلاع على المضبوطات أو تدون ملاحظاتها عليها في حضور المتهم كما تسمح لها المادة 206 من قانون الإجراءات الجنائية. وخلال أول جلسة تحقيق معه طلب دفاع أبو الفتوح الاطلاع على محضر إجراءات الضبط الخاص به، ومحضر التحريات التي أجريت بشأنه، لكن الطلب تم رفضه بدعوى تعارض ذلك مع مجريات التحقيق، وهو ما يخالف المادة 84 من قانون الإجراءات الجنائية التي تنص على حق المتهم ليس فقط في الاطلاع ولكن أيضًا في طلب صور من أوراق القضية أيًا كان نوعها على نفقته. أصر أبو الفتوح على أن الأحراز الوارد ذكرها بالتحقيق لم يتم ضبطها في حضوره، ونفى وجود أي صلة تربطه بها من الأصل.

أثبت تقرير الطب الشرعي أن عبد المنعم أبو الفتوح لم يكتب أيًا من الأوراق التي تم ضمها إلى الأحراز والتي وصل عددها إلى 145 ورقة موزعة على 21 عنوانًا. تمت الإشارة إلى هذه الأوراق على أنها مطبوعات تتضمن الترويج وإذاعة أخبار وبيانات كاذبة تروج لأفكار داعية للعنف. وبخلاف تأكيد أبو الفتوح على أن هذه الأوراق لا تخصه ولم يتم ضبطها معه، وغياب شهود على عملية ضبط هذه الأوراق كما ينص قانون الإجراءات الجنائية، رفضت المحكمة دفوع أبو الفتوح بعدم صلاحية اعتبار هذه الأوراق لتكون دليلًا على ارتكابه ما هو منسوب إليه من اتهامات، واكتفت المحكمة في تعليل رفضها بأن اعتبرت الدفع "منازعة للقوة التدليلية لأقوال شاهد الإثبات"، وهو توصيف ينطبق في أغلب الأمر على أي محاولة لنفي ما ورد في شهادة شاهد الإثبات. ولا ندري كيف يقلل من وزن الدفع وكيف يبرر أن المحكمة لم تأخذ في اعتبارها كل المخالفات الإجرائية التي أدت لضم هذه الأحراز للقضية من البداية.

في الوقت الذي انفرد فيه الضابط مُجري التحريات (الشاهد الأول) بالشهادة بدعوى حماية مصادره السرية، لم يكن هناك أي مبرر للاكتفاء بشهادة الضابط الذي قام بضبط وإحضار عبد المنعم أبو الفتوح (الشاهد الثاني) الذي أفاد بأنه ألقى القبض عليه، وفتش مسكنه الذي عثر به على "أوراق تنظيمية خاصة بجماعة الإخوان". أشار دفاع أبو الفتوح إلى قصور تحقيقات النيابة التي لم تستوضح أسماء القوة التي رافقت الضابط في الضبط والإحضار، وحجبهم عن الإدلاء بشهادتهم، في ظل إجراء التفتيش في غياب أبو الفتوح أو أي شهود آخرين.

التفتيش الثاني: تضمنت أدلة الثبوت في القضية شهادة عقيد بقطاع الأمن الوطني (يشار إليه بالشاهد الثالث). أفاد الشاهد بأنه انتقل لمزرعة بوادي النطرون بمحافظة البحيرة، نسب تبعيتها لعبد المنعم أبو الفتوح بعد أسبوع من القبض عليه، وألقى القبض على ستة مزارعين. كما أشار إلى أنه بعد تفتيش لم يحضره أبو الفتوح أو أي من المقبوض عليهم، أو أي شهود آخرين -بمخالفة قانون الإجراءات الجنائية- عثر على سيارة ربع نقل، وثلاث بنادق إلى جانب ذخيرة.

اتهمت نيابة أمن الدولة أبو الفتوح بحيازة وإحراز أسلحة، وتوفير مقر لارتكاب جريمة إرهابية، ما يعتبر من جرائم تمويل الإرهاب، بالرغم أن تحريات ضابط قطاع الأمن الوطني خلت من أي دليل على وجود أي صلة حقيقية لأبو الفتوح بالمزرعة المنسوبة إليه، سواء بملكيتها أو حيازتها أو إدارتها. لم تلتفت النيابة أيضًا إلى إجماع المزارعين الستة المقبوض عليهم على أنهم لا تربطهم بأبو الفتوح أي علاقة عمل، أو حتى معرفة شخصية. 

مثلما انفرد الشاهد الثاني بشهادته حول القبض على أبو الفتوح، وتجاهلت النيابة استدعاء أي شهود آخرين لتأكيد روايته، انفرد بالشهادة أيضًا ضابط الأمن الوطني (الشاهد الثالث). وإلى جانب عدم استدعاء النيابة أيًا من أفراد القوة التي قامت بالتفتيش للإدلاء بشهادتهم، لم تتعامل حتى مع أي من باقي الأفراد العاملين بالمزرعة، أو المتواجدين بالمصنع المجاور كشهود مثلًا ليؤكدوا أو ينفوا صحة عقد اللقاءات أو التدريبات محل الاتهام. 

تجدر الإشارة إلى أن أوراق القضية ضمت شهادة أربعة مزارعين قاموا بتوثيق شهادتهم بالشهر العقاري، إلا أن نيابة أمن الدولة تجاهلتها، على الرغم أن هؤلاء المزارعين أتت شهادتهم على النقيض من شهادة ضابط الأمن الوطني، ومطابقة لأقوال المزارعين الستة المتهمين، حيث أكدوا أن القبض تم يوم 20 فبراير 2018، وأن قوة الشرطة بعد التفتيش لم تعثر على أي مضبوطات.

 

ثالثًا: أمام نيابة أمن الدولة

عندما ترافع دفاع المتهمين أمام محكمة أمن الدولة طوارئ، دفع المحامون بوجود أكثر من شائبة في إجراءات التحقيق، من بينها قصور التحقيقات، وبطلان الاستجواب، فضلًا عن عدم التحقيق في وقائع انتهاكات تعرض لها المتهمون. خلال التحقيقات أمام النيابة طلب المتهمون ودفاعهم عددًا من الطلبات وتقدموا بعدد من الشكاوى منها ما تم النظر فيه، ومنها ما تم تجاهله بالكامل. في هذا الجزء نقوم باستعراض سلامة سير التحقيقات وأبرز المشاكل في استجواب المتهمين.

  1. تحقيق بدون دفاع

حدد قانون الإجراءات الجنائية عددًا من الضوابط لسير استجواب المتهمين، أولها وأكثرها بديهية جاء في المادة 124 والتي تنص على عدم جواز استجواب المتهم أو مواجهته بغيره من المتهمين أو الشهود إلا في حضور محاميه. ورغم أن المادة تكفل للمتهمين حق الدفاع والاستعانة بمحام، إلا أنها تحدد حالتين تسمح فيهما بمباشرة الاستجواب في غياب محام، الأولى هي التلبس، وهي حالة لم تنطبق على أي من المتهمين في القضية، والحالة الثانية هي "السرعة بسبب الخوف من ضياع الأدلة على النحو الذي يثبته المحقق في المحضر".

حققت نيابة أمن الدولة مع بعض المقبوض عليهم في حضور محام دفاع، كما كان الحال مع عبد المنعم أبو الفتوح، ومحمد القصاص، ومحمود عزت. بينما حققت لأول مرة مع كل من معاذ الشرقاوي، والمزارعين الستة، دون وجود محام يمثلهم، أو انتداب محام للدفاع عنهم، بدعوى "الخوف من ضياع الأدلة".

تؤكد الأوراق الرسمية على أن المزارعين الستة المقبوض عليهم من مزرعة وادي النطرون تم ضبطهم في الساعة الرابعة من مساء يوم الأربعاء 21 فبراير 2018، وأن عرضهم على النيابة للتحقيق معهم كان ما بين الساعة الثالثة والساعة الرابعة والنصف من مساء يوم الخميس 22 فبراير 2018، مما يعني أن العرض تم تقريبًا خلال المدة القانونية التي يقرها قانون الإجراءات الجنائية.

تنص المادة 36 من قانون الإجراءات الجنائية على أنه يجب على مأمور الضبط القضائي أن يرسل المتهم إلى النيابة العامة المختصة خلال 24 ساعة، ثم يكون على النيابة أن تستجوبه في ظرف 24 ساعة آخرى. كل مزارع من المزارعين تم التحقيق معه بواسطة محقق مختلف، دون حضور محام للدفاع عنه. وتكرر السبب المكتوب في محاضر التحقيق لمباشرة الاستجواب دون دفاع "لتوافر حالة الضرورة المتمثلة في خشية سقوط المدة القانونية لاسيما وأن غدًا الجمعة إجازة رسمية".

يظل هذا السبب غير كافٍ لمباشرة التحقيق مع المتهمين دون دفاع، لأنه من المتعارف عليه أن النيابة تعمل فترة مسائية في أيام الجمعة لضمان التحقيق مع المتهمين في الميعاد القانوني. علمًا بأن اللجوء لهذا الاستثناء الذي ينتقص من سلامة سير التحقيقات لا يجب أن يحدث بشكل متكرر ومع عدد كبير من المتهمين، وهو الأمر الواقع بالفعل في العديد من قضايا أمن الدولة.

 أثبت المحققون الستة مخاطبتهم لنقابة المحامين الفرعية الكائنة بمحكمة القاهرة الجديدة (حيث تقع نيابة أمن الدولة العليا) لانتداب أحد المحامين للحضور رفقة المتهم، إلا أن أيًا من المتهمين لم يحصل على محام لحضور التحقيق معه لأسباب متباينة أبدتها النيابة في أوراق التحقيق؛ وهذا على الرغم من أنهم جميعًا تم التحقيق معهم في نفس الوقت. علل بعض المحققين أن سبب غياب محام هو أن النقابة كانت مغلقة بالأساس خلال يوم عمل رسمي، بينما برر بعض المحققين عدم حضور المحامين الموجودين بالفعل لانشغالهم. حسب الأوراق الرسمية مرت 24 ساعة ويزيد على المزارعين الستة ما بين ضبطهم وعرضهم للنيابة، استطاعت خلالها وزارة الداخلية أن تقوم بتصويرهم، ونشر بيانات مكتوبة، ومقاطع مصورة عنهم وعن الاتهامات الموجهة لهم -ولكنها وجدت صعوبة في أن تمكن أيًا منهم من الاتصال بمحام خاص به أو في توفير محام من النقابة لهم.

من ناحية أخرى تجدر الإشارة إلى أنه حسب رواية المزارعين الستة أمام النيابة، فإن القبض عليهم حدث بتاريخ 20 فبراير وليس يوم 21، مما يعني أن عرضهم على النيابة في ذلك الوقت كان بعد المدة القانونية. إلا أن أيًا من المحققين الستة بنيابة أمن الدولة لم يلتفت لهذه الإفادات التي يمكن اعتبارها بلاغات بوقوع انتهاك.

يختلف الأمر في حالة معاذ الشرقاوي، حيث تم التحقيق معه دون دفاع بلا مبرر رسمي حقيقي. في حال سلمنا بصحة محضر ضبطه، فإن القبض عليه والتحقيق معه كانا في اليوم نفسه. الرواية الرسمية تقول إن القبض على معاذ كان في طنطا فجر يوم السبت 13 أكتوبر 2018، وعليه تم نقله من محافظة الغربية إلى القاهرة الجديدة للتحقيق معه بعد القبض عليه باثنتي عشرة ساعة تقريبًا. حسبما جاء في محضر التحقيقات قررت نيابة أمن الدولة أنه في الساعة الثالثة ظهرًا لم يتواجد محام واحد بمقر النيابة أو بمقر النيابة الفرعية بمحكمة القاهرة الجديدة، وعليه تم استجواب معاذ بغير دفاع "خشية سقوط المدة القانونية ولوجود حالة من حالات الضرورة". لم يثبت المحقق طبيعة الضرورة. في حالة المزارعين الستة كان المبرر هو عدم إمكانية تأجيل الدفاع لليوم التالي لأنه كان يوم إجازة رسمية، أما في حالة معاذ فقد كانت هناك فرصة ممتدة لأكثر من 12 ساعة كاملة، كان يمكن خلالها تمكين معاذ من التواصل مع أهله أو محاميه ولو من أجل استكمال الشكل القانوني.كان من الممكن تأجيل التحقيق مع معاذ بضع ساعات في إطار المدة القانونية، لحين وصول محام للدفاع عنه، لكن ذلك لم يحدث.

أما فيما يخص المتهمين الذين باشرت نيابة أمن الدولة التحقيق بحضور محاميهم، كما في حالة عبد المنعم أبو الفتوح، فلم تلتزم نيابة أمن الدولة بنص المادة 125 من قانون الإجراءات الجنائية، بشأن السماح للمحامي بالاطلاع على التحقيق في اليوم السابق على الاستجواب. وهكذا باشر المحامون حضور التحقيقات دون تمكينهم من الاطلاع على أوراق القضية، ليتمكنوا من تحديد طلباتهم وبناء دفوعهم بشكل ملائم. ولكن هذا الانتهاك القانوني الصارخ يحدث بشكل منهجي في نيابة أمن الدولة العليا حتى أنه أصبح أمرًا اعتياديًا لا يقبل النقاش. 

  1. اعترافات بالإكراه

حسب معاذ الشرقاوي، استمر التحقيق معه أمام نيابة أمن الدولة لأكثر من عشر ساعات حتى الثالثة فجرًا، أثبتت النيابة في الأوراق الرسمية شعور كاتب التحقيق بالإرهاق، ليتم استبداله بآخر، دون الإشارة إلى توقيت هذا الاستبدال، ثم تم إثبات أقوال لمعاذ اعتبرتها المحكمة فيما بعد اعترافات تدينه.

 تجدر الإشارة إلى أنه في 9 أغسطس 2022، أرسل عدد من المقررين الخواص بالأمم المتحدة، خطابًا للسلطات المصرية بشأن الحكم الصادر على معاذ الشرقاوي، ومن خلال الخطاب أعرب عن قلقه كل من المقرر الخاص بأوضاع المدافعين عن حقوق الإنسان، والفريق العامل المعني بحالات الاختفاء القسري أو غير الطوعي، والمقرر الخاص المعني بتعزيز وحماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية في سياق مكافحة الإرهاب. أدان الخطاب الحكم، إذ صدر في إطار أهدر ضمانات المحاكمة العادلة، وطالب السلطات المصرية بتوضيح المعلومات حول ادعاءات معاذ بتعرضه للاختفاء القسري والتعذيب، فضلًا عن ضرورة إجراء تحقيق عاجل في الأمر. وحتى كتابة هذا التقرير لم ترد السلطات المصرية على أي من الأسئلة والمطالبات الواردة في الخطاب.

رابعًا: ثلاث سنوات دون محاكمة

خلال الفترة ما بين 2018 وحتى 2021، وقعت أحداث كثيرة على الأصعدة التشريعية والقضائية والسياسية، من بينها على سبيل المثال: استمرار إعلان حالة الطوارئ في مصر بشكل متعاقب، وموافقة البرلمان على مشروع قانون لإنشاء مجلس أعلى لمواجهة الإرهاب والتطرف، لم يبدأ عمله حتى الآن. ظهرت قوانين عدة، وأجريت تعديلات على قوانين أخرى. عُقدت الانتخابات الرئاسية، ثم طرأ على دستور 2014 تعديلات أبرزها تمديد الفترة الرئاسية من أربع إلى ست سنوات والسماح بفترة ثالثة استثنائية للرئيس الحالي. اجتاح وباء كورونا العالم وشكل تحديًا سياسيًا واجتماعيًا غير مسبوق. 

من الطبيعي أن تقع الكثير من الأحداث خلال ثلاثة أعوام، لكن ما لم يكن طبيعيًا هو استمرار القبض الاحترازي على ذمة القضية 1059 لسنة 2021 دون إحالة للمحاكمة، ليظل المتهمون معلقين دون فصل واضح في مصيرهم لسنين. في نفس الوقت الذي تسبب عدد من الإجراءات التي وقعت عليهم في توقيع ما يمكن اعتباره عقوبات استباقية وتنكيلًا قانونيًا بحقهم. يعرض هذا الجزء أبرز ما طرأ على حيوات كل من محمد القصاص ومعاذ الشرقاوي وعبد المنعم أبو الفتوح طوال السنوات الثلاثة الممتدة ما بين القبض وحتى الإحالة للمحاكمة وصدور الحكم بشكل عاجل.

  1. الإدراج على قوائم الإرهابيين

يوم 17 فبراير 2018 حررت النيابة محضرًا لمخاطبة رئيس المكتب الفني للنائب العام، لطلب النيابة إدراج المتهمين الستة عشر المتهمين على ذمة القضية 440 لسنة 2018 على قائمة الإرهابيين استنادًا على التحريات التي أجراها قطاع الأمن الوطني بوزارة الداخلية، ثم في يوم 19 فبراير تم عرض الطلب على الدائرة الخامسة والعشرين بمحكمة الاستئناف التي حكمت في اليوم نفسه بإدراج جميع الأسماء المعروضة عليها على قوائم الإرهابيين لمدة خمس سنوات.

حسب نص المادة 3 من قانون تنظيم قوائم الكيانات الإرهابية والإرهابيين، رقم 8 لسنة 2015، لا يحتاج إصدار قرارات الإدراج سوى طلب من النائب العام إلى الدائرة المختصة، مع تقديم مستندات، أو تحريات، أو تحقيقات، أو أي معلومات تؤيد هذا الطلب. ثم تُصدر المحكمة حكمها اعتمادًا على تقديرها لجدية ما هو معروض عليها فقط، دون أن يسمح للمُدرجين بالإدلاء بأقوالهم أو تقديم دفاعهم عن الاتهامات الموجهة إليهم ودون أن يكونواً طرفًا بأي شكل في عملية الإدراج القضائي على قوائم الإرهابيين. ولأن القانون لا ينص على وجوب إعلان المدرجين، فقد فوجئ معاذ الشرقاوي في مارس 2018 بتداول الأخبار حول إدراج اسمه على قائمة الإرهابيين، بناءً على القرار الصادر عن محكمة جنايات جنوب القاهرة. جاء إدراج معاذ ضمن 16 اسمًا من بينهم عبد المنعم أبو الفتوح ومحمد القصاص اللذان اعتبرتهما نيابة أمن الدولة متهمين بالفعل على ذمة القضية التي لم يكن معاذ يعلم وقتذاك أنه مطلوب على ذمتها.

 لم يفهم معاذ سبب إدراجه رغم أنه لم يسبق وأن أُلقى القبض عليه لأي سبب، ولم تتم مواجهته بأي اتهامات من قبل. ولم يتمكن دفاعه وباقي المتهمين من الاطلاع على الأدلة التي تم تقديمها وقبولها بشأن إدراجهم، لذا لم يتأكدوا من مدى صلاحيتها. وعندما تقدموا بطعن على الحكم لم يسمح لأي منهم بتقديم دفوع موضوعية. ورغم أن محكمة النقض قبلت الطعن على الإدراج في 1 فبراير 2020 وقضت بإلغائه، فقد صدر قرار جديد بإدراج الأسماء نفسها على قوائم الإرهابيين بموجب القضية 1 لسنة 2020 (إدراج إرهابيين) في 25 يناير 2021. طعن المدرجون على القرار مرة أخرى، لكن محكمة النقض أيدت الإدراج في حكم بات أصدرته في نوفمبر 2021. وعليه أصبح هناك عدد من الآثار المترتبة على المتهمين بموجب المادة 7 من قانون قوائم الإرهابيين من بينها: المنع من السفر، وفقدان شرط حسن السمعة، وتجميد الأموال والأصول، ووقف العضوية في النقابات، وغيرها. وهو الأمر الذي يمكن اعتباره عقوبة استباقية، دون إدانة.

ينص الدستور في المادة 95 على أنه لا عقوبة إلا بحكم قضائي. والحكم القضائي لا يصدر إلا من خلال دعوى جنائية يتحقق بها شرط علانية مواجهة أطرافها، وهو الأمر الذي لا يتحقق في قضايا الإدراج على قوائم الإرهابيين. فقد ولد قانون الكيانات الإرهابية بعد عام من انتخاب الرئيس السيسي بنصوص تتناقض بشكل صريح مع الدستور ومع أبسط مفاهيم الحق في التقاضي وفي الدفاع عن النفس أمام القضاء. ولم ينص هذا القانون على طريقة وميعاد لإعلان المطلوب إدراجهم بجلسة النظر في طلب النيابة بشأنهم. استغلت محاكم الجنايات هذا الأمر، لتبدأ عرفًا جديدًا سمحت فيه لنفسها بإصدار قرارات الإدراج دون حضور الخصم أو حتى إعلانه. وذلك علمًا بأن آثار الإدراج تمتد إلى خمس سنوات قابلة للتجديد، وهو الأمر الذي لا يمكن التعامل معه على أنه إجراء احترازي وحسب. يُحاكي الإدراج العقوبات الجنائية، لأن تطبيقه يتعدى على عدد من حريات مكفولة دستوريًا، مثل حرية التنقل، والملكية، وغيرها.

  1. "التدوير" 

حدد قانون الإجراءات الجنائية الحد الأقصى للحبس الاحتياطي بثمانية عشر شهرًا في قضايا الجنايات (أو سنتين بجد أقصى في الجرائم المعاقب عليها بالمؤبد أو الإعدام). غير أنه خلال الأعوام السابقة ظهرت ممارسة جديدة، تتحايل على نص القانون صارت معروفة باسم "التدوير". يتم إعادة توجيه الاتهامات نفسها في قضايا جديدة، وعليه يبدأ التحقيق مرة أخرى مع المتهم، واحتساب فترة حبسه احتياطيًا من البداية، دون الأخذ في الاعتبار احتجازه السابق دون إدانة باعتبارها قضية منفصلة. يتعرض المتهمون للتدوير خلال حبسهم احتياطيًا كإجراء احترازي يحول دون تنفيذ قرار إخلاء سبيلهم إن صدر، أو بعد إخلاء سبيلهم على ذمة القضية الأولى أو بعد انتهاء المدة القانونية لحبسهم احتياطيًا، أو حتى بعد صدور حكم محكمة ببراءتهم، لتصبح هناك صبغة قانونية صورية لحبسهم احتياطيًا لمدد مفتوحة لا نهاية لها.

عندما أحيلت القضية للمحاكمة في أغسطس 2021 كان كل من عبد المنعم أبو الفتوح ومحمد القصاص رهن الحبس الاحتياطي لما يزيد عن ثلاث سنوات ونصف. في الوقت نفسه، وحسب الأوراق الرسمية، لم يكن هناك متهمون محبوسون على ذمة القضية عند إحالتها لمحكمة أمن الدولة طوارئ، سوى محمد القصاص. من بين المتهمين العشرة الذين ألقي القبض عليهم على ذمة القضية، صدرت قرارات بإخلاء سبيل عدد منهم، بينها ما تم تنفيذه بالفعل، كما في حالة معاذ الشرقاوي الذي أمضى عامًا ونصف من الحبس الاحتياطي قبل أن يخرج بتدابير احترازية، إلى جانب المزارعين الستة الذين أخلي سبيلهم أيضًا. أما فيما يخص أبو الفتوح فقد استمر حبسه بعد قرار بإخلاء سبيله في 15 يونيو 2021 بسبب إعادة حبسه من جديد على ذمة قضية جديدة باتهامات مشابهة أو متطابقة. وبالنسبة لمحمود عزت فقد كان محتجزًا بسبب تنفيذ أحكام صدرت ضده بالفعل في قضايا أخرى.

رغم أن محمد القصاص كان محتجزًا قبل أسبوع تقريبًا من صدور تقرير التحريات الأول في القضية 440 لسنة 2018، والمقيدة برقم 1059 لسنة 2021، إلا أن التحقيق الأول معه في هذه القضية كان يوم 27 يونيو 2021، أي بعد ثلاثة أعوام و خمسة أشهر من حبسه احتياطيًا! استمر حبس القصاص احتياطيًا لمدة أربعة سنوات ونصف، تم التحقيق معه خلال هذه المدة على ذمة أربعة قضايا، في كل مرة يصدر قرار بإخلاء سبيله على ذمة قضية ما يظل القرار حبرًا على ورق، يبدأ التحقيق معه على ذمة قضية جديدة مشابهة لها -بدون أن يخلى سبيله فعليًا في أي مرة من تلك المرات. 

أما في حالة أبو الفتوح، فإن تجديد حبسه احتياطيًا على ذمة نفس القضية استمر لمدة ثلاثة أعوام و ثلاثة أشهر بمخالفة أي تفسير محتمل لقانون الإجراءات الجنائية. في 30 يونيو 2020، تقدم دفاع أبو الفتوح بطلب للنائب العام برقم (26489 لسنة 2020 عرائض النائب العام)، لإخلاء سبيله لسقوط أمر حبسه على ذمة تحقيقات القضية لتجاوز أقصى مدة للحبس الاحتياطى مسموح بها، ولم ترد النيابة على الطلب. وبعد عام كامل أصدرت النيابة العامة قرارًا بإخلاء سبيله بضمان محل إقامته، ما لم يكن مطلوبًا لسبب آخر. ولأن أبو الفتوح كان مطلوبًا -كما يحدث في الكثير من حالات تدوير المتهمين في قضايا أمن الدولة- لم يتم تنفيذ قرار إخلاء السبيل. فقد كانت نيابة أمن الدولة العليا قد أدرجته متهمًا على ذمة قضية جديدة برقم 1781 لسنة 2019، في 2 فبراير 2020، قبل 14 يومًا من وصوله إلى أقصى مدة من الحبس الاحتياطي على ذمة القضية الأولى. واتهمته مرة أخرى بتولي قيادة جماعة إرهابية وارتكاب جريمة من جرائم تمويل الإرهاب.

  1. أوضاع الاحتجاز 

بدأ احتجاز أبو الفتوح عندما كان يبلغ من العمر 67 عامًا. وقتها كان مريضًا بالسكري وارتفاع ضغط الدم، إلى جانب تشخيصه منذ 2006 بحالة مرضية تنتج عنها أزمات انقطاع للتنفس أثناء النوم، مما يستلزم استعانته بجهاز للتنفس. تم السماح لأبو الفتوح بالحصول على الجهاز داخل زنزانته بعد القبض عليه، لكن الجهاز لم يعد يعمل بسبب ظروف الاحتجاز في الزنزانة وارتفاع درجة الحرارة بها. وعلى مدار السنوات الأربع الفائتة تعرض أبو الفتوح لأزمات قلبية متكررة، فضلًا عن رفض كل ما تقدم به من طلبات أثناء حبسه احتياطيًا لنقله إلى مستشفى خاص على نفقته الشخصية لإجراء جراحة بالبروستاتا.

الحبس الانفرادي عقوبة إضافية داخل السجن، حددتها المادة 43 من قانون تنظيم السجون على ألا تزيد عن 30 يومًا بحد أقصى. في الوقت الذي يُحظر فيه الحبس الانفرادي المطول، أو استمراره إلى أجل غير مسمى، باعتباره أمرًا يرقى إلى مرتبة التعذيب أو غيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، حسبما حددت قواعد الأمم المتحدة النموذجية الدنيا لمعاملة السجناء. 

قضى كل من عبد المنعم أبو الفتوح ومحمد القصاص في زنزانة انفرادية ما يزيد عن أربع سنوات مُنعا خلالها من ممارسة حقهما في التريض وحُرما خلالها من التواصل اللائق مع أسرتيهما؛ الأمر الذي زاد بشكل أكبر بعد انتشار فيروس كورونا، وانقطاع أخبارهما بشكل كامل لمدة خمسة أشهر في الفترة التي قررت فيها وزارة الداخلية تعليق الزيارات بالسجون من مارس إلى أغسطس 2020، دون تقديم بدائل حتى مثل المكالمات الهاتفية. وبغض النظر عن كون الحبس الانفرادي المطول لسنوات غير قانوني وغير إنساني وأمرًا يرقى إلى مرتبة التعذيب، فحتى الحبس محدود المدة الذي ينظمه قانون تنظيم السجون هو أداة من أدوات العقاب على مخالفات داخل السجن. ولكنه في حالة أبو الفتوح والقصاص شكل من أشكال التنكيل بهما لشخصهما، فهما محبوسان انفراديًا منذ أول يوم لهما في سجن طرة.

يوم 23 أبريل 2022، رفضت محكمة القضاء الإداري الدعوى رقم 60756 لسنة 74 ق، التي أقامها أبو الفتوح لتمكينه من حقوقه التي يكفلها القانون والدستور كمحبوس احتياطيًا، والسماح له بإدخال الكتب، ودخول مكتبة السجن، والاشتراك فى الصحف، والتريض في الشمس، إلى جانب تمكينه من حقه في المكالمة التليفونية والتراسل؛ وكل هذا لا يتجاوز الحد الأدنى من حقوق السجناء الذي تقره القوانين المصرية والمواثيق الدولية.

في الوقت الراهن وبعد أكثر من شهرين على صدور الحكم في القضية 1059 لسنة 2021، أصبح عمر أبو الفتوح 71 عامًا. في يوليو 2022 تقدمت أسرة أبو الفتوح بطلب مباشر لمأمور سجن المزرعة بطرة لنقله للمستشفى، إلا أن إدارة السجن رفضت استلام الطلب. تقدم الأهل بعد ذلك بعشرة طلبات عبر التلغراف لكل من النائب العام، وعدد من المسئولين بوزارة الداخلية، والمجلس القومي لحقوق الإنسان، لنقله بصورة مؤقتة لأي مستشفى سواء داخل السجن أو خارجه على نفقته الخاصة، حتى يتم تشخيص حالته الصحية بدقة، لتحديد العلاج المناسب لحالته، لكنهم لم يتلقوا أي رد.

في أغسطس 2022، أعلنت أسرة أبو الفتوح عن تعرضه للأزمة القلبية الرابعة خلال شهرين، دون حصوله على الحد الأدنى من الرعاية الصحية، في سجن المزرعة بطرة؛ وعلى إثر ذلك تم تقديم طلب لرئيس الجمهورية بشأن التدخل للإفراج الصحي عنه، لكن وضع أبو الفتوح استمر كما هو.

في أكتوبر 2022، وقبل أيام من صدور هذا التقرير، تم نقل أبو الفتوح ومحمد القصاص وعدد كبير من المحتجزين بسجن طرة إلى مجمع سجون بدر. ورغم أن محمد القصاص استطاع أن يحصل أخيرًا على حقه الذي يكفله له القانون المصري في التريض، ليرى الشمس خارج زنزانته لأول مرة منذ احتجازه منذ أكثر من أربع سنوات، وأصبح يتشارك زنزانة جماعية مع عدد من السجناء السياسيين الآخرين، إلا أن وضع أبو الفتوح أصبح أسوأ. امتنع أبو الفتوح عن الزيارة التي سمحت له بالخروج من زنزانته لأول مرة بعد ثمانية أيام لم يخرج فيها، لأن الزيارة المسموحة له كانت من وراء حاجز زجاجي، دون وجود مبرر لذلك. ومازال أبو الفتوح -حسب أسرته- رهن الحبس الانفرادي، وممنوعًا من التريض ومحرومًا من متعلقاته الشخصية، ينام على الأرض في زنزانة مضاءة ومراقبة بالكاميرات على مدار الأربع وعشرين ساعة.

خامسًا: بموجب قانون الطوارئ 

رغم أن المحاكم الاستثنائية محظورة بنص المادة 97 من الدستور (2014)، ظل قانون الطوارئ رقم 162 لسنة 1958 ساريًا ويسمح بمحاكمات استثنائية عند إعلان حالة الطوارئ أمام محاكم أمن الدولة طوارئ التي لا يسمح بالطعن على أحكامها. وقد عاشت مصر أغلب تاريخها المعاصر في حالة طوارئ شبه مستمرة منذ تأسيس الجمهورية. 

واجهت محاكم أمن الدولة طوارئ منذ إنشائها للمرة الأولى عددًا من المآخذ والدفوع بعدم دستورية تشكيلها وعملها لعدة أسباب، من بينها كبداية، الطعن في صحة تشكيلها من الأساس لإنشائها بقرار جمهوري رغم أنه من المفترض إنشاء المحاكم بقانون تقره السلطة التشريعية؛ فضلًا عن تعارض مواد بعينها من قانون الطوارئ مع نصوص الدساتير المصرية المتعاقبة. 

بنظرة سريعة على سير القضية 1059 لسنة 2021، يظهر أن المشكلة ليست فقط في استثنائية المحكمة أو عدم دستورية بعض مواد قانون الطوارئ، بل أيضًا في عدم التزام الجهات المعنية بنص مواد القانون نفسه في عدة مواضع، وهو ما يتضح عند النظر في مدى صحة عدد من الإجراءات منذ بداية القضية وحتى صدور الحكم على المتهمين فيها. يستعرض هذا الجزء من التقرير مشكلات المحاكمة عمومًا في ظل قانون الطوارئ، وما يشوب عددًا من مواده من شبهات عدم الدستورية، بالإضافة إلى تتبع المشاكل الإجرائية وغياب التزام حقيقي حتى بنصوص القانون نفسها التي تم الدفع بعدم دستوريتها. 

  1. غير دستوري

إحالة متهم للمحاكمة بموجب قانون الطوارئ تعني أنه سيواجه خطر الحكم عليه في إطار يخل بقاعدة المساواة، ويهدر قرينة البراءة، فضلًا عن حرمانه من الطعن على الحكم الصادر ضده وذلك الحق، الحق في الطعن أو في إعادة النظر في الأحكام الصادرة ضده، هو أبسط الحقوق التي يجب أن تتاح لأي متهم في أي قضائية جنائية أو غيرها، وبدونه لا تتمتع المحاكمة بالحد اﻷدنى من العدالة. بطبيعة الحال، عانى كل المتهمين في القضية 1059 لسنة 2021 من كل أوجه القصور تلك. خلال المحاكمة تم الدفع بعدم دستورية أربع مواد على الأقل من قانون الطوارئ لما تسببت فيه من تغييب لضمانات المحاكمة العادلة التي يكفلها الدستور.

تجدر الإشارة إلى أن المادة 29 من قانون المحكمة الدستورية العليا رقم 48 لسنة 1979 تعطي لمحكمة الموضوع -جنايات أمن الدولة طوارئ هنا- تقديرًا مطلقًا فيما يخص دفوع عدم دستورية مواد قانونية، فلها أن توقف الدعوى المنظورة أمامها تعليقيًا لحين فصل المحكمة الدستورية في مدى دستورية هذه المواد، ولها ألا تأخذ بهذه الدفوع. لا توجد طريقة أخرى أمام المتقاضين في مصر للدفع بعدم دستورية مواد قانونية بدون تجاوز محكمة الموضوع نفسها.

اعتمادًا على ما لها من سلطة تقديرية واسعة، لم تصرح محكمة جنايات أمن الدولة طوارئ للدفاع بإجراء الطعن أمام المحكمة الدستورية العليا للفصل في دستورية المواد 12 و 14 و 19، ولم تقبل التماس الدفاع بوقف الدعوى تعليقيًا لحين فصل المحكمة الدستورية في مدى دستورية المواد 12 و 14 و 20 من قانون الطوارئ. وفي حيثيات حكمها، قررت محكمة جنايات أمن الدولة طوارئ، أن هذه الدفوع غير جدية، وأن دفاع المتهمين يقصد "إطالة أمد التقاضي".

  1. باسم رئاسة الجمهورية 

تخلق المادة 12 من قانون الطوارئ مسارًا استثنائيًا موازيًا للتعامل مع صدور الأحكام، وذلك من خلال مخالفتين أساسيتين: الأولى تتعلق بعدم السماح بالطعن على الأحكام، وحرمان المتهمين من التقاضي على أكثر من درجة، والثانية مرتبطة بنهائية الأحكام التي لا تصبح نافذة إلا بقرار من رئيس الجمهورية.

طال أمد القضية بشكل عام قبل حتى بدء التقاضي الفعلي، بعدما استغرقت نيابة أمن الدولة أكثر من ثلاث سنوات قبل إحالة المتهمين للمحاكمة. المفارقة كانت أن محكمة الطوارئ رفضت دفع المتهمين بعدم دستورية مواد قانون الطوارئ الذي يحاكمون بموجبه، مدعية أن المتهمين يماطلون في تحديد موقفهم القانوني. بينما عللت المحكمة رفضها إحالة المادة 12 من قانون الطوارئ للفصل في عدم دستوريتها، بأن هدف المادة من قصر التقاضي على درجة واحدة هو "سرعة البت في هذا النوع من القضايا" -في نفس القضية التي استغرقت أكثر من ثلاث سنوات لإحالة المتهمين فيها للمحاكمة، والذين كان من بينهم من استمر حبسه احتياطيًا لما يزيد عن الحد الأقصى الذي يقره القانون المصري! منهم من استمر تجديد حبسه على ذمة القضية نفسها بمخالفة القانون، ومن بينهم من كان حبسه الاحتياطي الممتد لسنوات قانونيًا بشكل ظاهري، إلا أنه أمر لا يمكن تفسيره سوى أنه التفاف على القانون وإساءة استعمال نيابة أمن الدولة لسلطتها بقبولها إعادة توجيه اتهامات مشابهة للمتهمين على ذمة قضايا جديدة لإعادة حبسهم لمدد لا يمكن التنبؤ بنهايتها أو ما يسمى بالاصطلاح الدارج "تدويرهم".

تجدر الإشارة إلى أنه في الفترة ما بين إحالة القضية 1059 لسنة 2021 للمحاكمة أمام محكمة أمن الدولة طوارئ في أغسطس، وبين الإعلان عن إلغاء حالة الطوارئ في أكتوبر من نفس السنة، أطلق رئيس الجمهورية بنفسه الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان في سبتمبر 2021. ذكرت الوثيقة - الأولى من نوعها - أن من بين أهدافها، في إطار تعزيز ضمانات المحاكمة المنصفة، إصدار قانون يتيح استئناف الأحكام الصادرة في الجنايات من جميع أنواع المحاكم، في إشارة لوجود توجه لضمان حق التقاضي على أكثر من درجة لجميع المتهمين دون استثناء -وهو الهدف المنصوص عليه كالتزام دستوري في دستور 2014، والذي تم تجاهله باستمرار منذ إقرار الدستور عام 2014. وفي حال تم تنفيذ هذا الالتزام سيستلزم الأمر تعديل عدد من مواد قانون الطوارئ.

  1. فرق التوقيت 

يمكن أن يستدل على ولاية قانون الطوارئ بسهولة من اسمه، فمن المفترض أن اللجوء إليه يكون عند إعلان حالة الطوارئ التي تستوجب اتخاذ عدد من التدابير والخطوات القانونية السريعة، من بينها تشكيل وعمل محكمة أمن الدولة طوارئ بشكل استثنائي -استثنائي من حيث تجاوزه لإجراءات الأوقات العادية ومن حيث كونه محكومًا بإطار زمني محدد - فالاستثناء لا يجب أن يتحول إلى القاعدة بطبيعة الحال. وفي هذه الحالة تنظر محكمة أمن الدولة القضايا التي حدثت وقائعها وأحيلت للمحاكمة خلال فرض حالة الطوارئ. وتنظم المادة 19 من القانون مواعيد ظهور هذه المحكمة ومواعيد وقف أعمالها. وبموجب هذه المادة تظل محاكم أمن الدولة مختصة بنظر القضايا التي أحيلت إليها بالفعل أثناء الطوارئ، حتى بعد انتهاء حالة الطوارئ قانونًا. أما القضايا التي تشكلت خلال حالة الطوارئ، دون إحالتها للمحكمة، فتكون من اختصاص المحاكم العادية.

في حين تؤكد المادة 53 من الدستور على أن كل المواطنين لدى القانون سواء ولا تمييز بينهم، تميز المادة 19 من قانون الطوارئ ما بين مواطنين متهمين لهم المركز القانوني نفسه. ما يعني أنه إذا واجه فردان اتهامات مماثلة في ظل فرض حالة الطوارئ، وتمت إحالة واحد منهم فقط للمحاكمة في ظل حالة الطوارئ بينما تأخرت إحالة الآخر إلى ما بعد انتهاء إعلان الطوارئ، فإن الأول سيواجه خطر محاكمة استثنائية بموجب مواد قانون الطوارئ التي تشوبها عدم الدستورية وتحد من ضمانات المحاكمة العادلة، بينما سيكون أمام الثاني فرصة للمثول أمام قاضيه الطبيعي، والطعن على الحكم الصادر ضده أمام محكمة أو دائرة قضائية جديدة، والتقاضي على أكثر من درجة، ولا يوجد ما يبرر ذلك على الإطلاق غير نص قانوني يشوبه العوار.

  1. هل كان الأمر طارئًا فعلًا؟

حسب المادة 154 الدستور المصري (2014)، "يعلن رئيس الجمهورية، بعد أخذ رأي مجلس الوزراء حالة الطوارئ، على النحو الذي ينظمه القانون، ويجب عرض هذا الإعلان على مجلس النواب خلال الأيام السبعة التالية ليقرر ما يراه بشأنه. (..) فى جميع الأحوال تجب موافقة أغلبية عدد أعضاء المجلس على إعلان حالة الطوارئ، ويكون إعلانها لمدة محددة لا تجاوز ثلاثة أشهر، ولا تمد إلا لمدة أخرى مماثلة، بعد موافقة ثلثي عدد أعضاء المجلس." ما يعني أن حالة الطوارئ الواحدة يمكن أن تستمر لمدة ستة أشهر بحد أقصى حتى بعد التجديد. ويكون من البديهي بقراءة هذا النص الدستوري أنه بانقضاء حالة الطوارئ هذه، لا يمكن أن يتم إعلان حالة طوارئ، مباشرة بعدها، مرتبطة بنفس الظروف والأسباب. فالمعنى الكامن في هذا النص الدستوري أن حالة الطوارئ لا يجب بأي حال من الأحوال أن تطول عن ستة أشهر -أي أنه لا يستقيم أن تكون البلد في حالة طوارئ طولها عامين أو ثلاثة أو حتى سبعة أشهر أيًا كانت الملابسات؛ الدولة عليها مسؤولية أن تعود بالأمور إلى نصابها الطبيعي في إطار زمني له سقف محدد. لذا من المفترض أن تبدأ كل حالة طوارئ جديدة بعد إعلانها بإجراءات منفصلة ولأسباب منفصلة عن حالة الطوارئ المنقضية، لتعمل في إطار زمني مستقل.

في أبريل 2017 أُعلنت حالة الطوارئ لأول مرة بعد فترة توقف طويلة نسبيًا في التاريخ المصري المعاصر، وعليه نشرت الجريدة الرسمية قرار رئيس الجمهورية رقم 157 لسنة 2017 بفرض حالة الطوارئ من الساعة الواحدة من مساء يوم الإثنين 10 أبريل، وبتفويض رئيس الوزراء في اختصاصات رئيس الجمهورية التي ينص عليها قانون الطوارئ. وبعد ثلاثة أشهر بالضبط صدر قرار آخر برقم 289 لسنة 2017 بمد حالة الطوارئ من الساعة الواحدة من يوم الإثنين 10 يوليو 2017. كان المفروض أن تنتهي تلك الحالة بعد انقضاء ثلاثة أشهر من تاريخ 10 يوليو 2017.

ولكن ما حدث عمليًا هو أن حالة الطوارئ نفسها ظلت مفروضة في مصر لمدة أربع سنوات ونصف دون انقطاع -فبعد كل حالة انقضاء شكلي كان يصدر قرار في الجريدة الرسمية بإعلان حالة طوارئ مستجدة في اليوم التالي. وفي 25 أكتوبر 2021، أعلن عبد الفتاح السيسي رئيس الجمهورية، عن طريق تدوينة على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك أنه قرر "لأول مرة منذ سنوات، إلغاء مد حالة الطوارئ في جميع أنحاء البلاد". ليصبح إجمالي مدة فرض الطوارئ منذ 2017 هو 54 شهرًا. 

بالقانون يظل الوضع كالآتي: في الفترة ما بين أبريل 2017 وأكتوبر 2021 صدرت تسعة قرارات بفرض حالة الطوارئ، وصدرت لها قرارات بالمد تسعة مرات، بينها فوارق زمنية لا تتعدى أكثر من يوم في بعض الأحيان وتصل لبضعة أيام في حالات أخرى. أي أنه وبالرغم من الإدراك العام بأن حالة الطوارئ مستمرة دون انقطاع، الانطباع الذي ينعكس بصراحة في بيان الرئيس بانتهاء الحالة المشار إليه أعلاه، تظل السنوات الأربعة مقسمة على تسع فترات طوارئ منفصلة ومستقلة، كل فترة استمرت ستة أشهر، بادعاء أنه لا توجد علاقة بين كل فترة طوارئ والفترة التالية لها في تسع حالات متتابعة.

تعامل رئيس الجمهورية باعتبار أن الطوارئ انعقدت بشكل دائم، وهو ما يخالف روح ونص الدستور في شكل حالة طوارئ واحدة ممتدة بغض النظر عما يقره الدستور. وعليه ظهر احتفاء رسمي بالقرار باعتباره خطوة إيجابية تبشر بتحسن الأوضاع، على أمل عودة أعمال القضاء بلا إجراءات استثنائية.

  1. بطلان الإحالة لمحكمة أمن الدولة طوارئ 

بعد أكثر من ثلاث سنوات على بداية القضية 1059 لسنة 2021، وبعد جلستي تحقيق فقط مع بعض المتهمين، ارتأت نيابة أمن الدولة أن القضية تستلزم بدء محاكمة طارئة، وعليه أحالت 25 متهمًا لمحكمة جنايات أمن الدولة طوارئ، في 25 أغسطس 2021، وذلك قبل شهرين فقط من إعلان وقف تمديد حالة الطوارئ. أوضح أمر الإحالة أن الجرائم المنسوبة للمتهمين وقعت في مدى زمني كانت نهايته يوم 21 أغسطس 2018، أي خلال فترة الطوارئ رقم ثلاثة،بينما صدر أمر الإحالة للمحاكمة بعد انقضاء فترة الطوارئ التي وقعت خلالها الجرائم المنسوبة للمتهمين، ومن بعدها خمسة حالات طوارئ جديدة ومنفصلة نظريًا.

في الوقت الذي لم تظهر أي أدلة جديدة، ولم يستكمل قطاع الأمن الوطني تحرياته بعد فبراير 2018، كان من المفترض أن تحيل النيابة القضية للمحاكمة خلال فترة الطوارئ المفروضة آنذاك، بدلًا من فترة الطوارئ رقم تسعة التي فرضت بعد ثلاث سنوات، والتي لا تربطها بالقضية أي صلة. إلا أن النص الحالي للمادة 19 من قانون الطوارئ، إلى جانب تكرار فرض الطوارئ -رغم تحديد المدة الذي تنص عليه المادة 154 من الدستور- خلق محاكاة لفترات الطوارئ الممتدة التي شهدتها مصر قبل 2014 -وقبل أن ينص الدستور الجديد بشكل صريح على عدم جواز امتداد الطوارئ على غرار طوارئ ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي. 

طبقًا لقانون الطوارئ، فإن العامل الأساسي في صحة الإحالة للمحاكمة الاستثنائية هو تاريخ الإحالة، وليس تاريخ وقوع الجريمة. حيث تنص المادة 19 على أنه: "عند انتهاء حالة الطوارئ تظل محاكم أمن الدولة مختصة بنظر القضايا التي تكون محالة عليها وتتابع نظرها وفقاً للإجراءات المتبعة أمامها. أما الجرائم التي لا يكون المتهمون فيها قد قدموا إلى المحاكم فتحال إلى المحاكم العادية المختصة وتتبع في شأنها الإجراءات المعمول بها أمامها." هنا تظهر إشكالية المادة التي جعلت من نص الدستور على استقلال حالات الطوارئ المتعاقبة، وانفصالها عن بعضها، أمرًا بلا معنى.

بموجب المادة 19، لا تنظر محاكم أمن الدولة طوارئ سوى القضايا المحالة إليها خلال فترة الطوارئ، بغض النظر عن وقت وقوع الجريمة نفسها، أو ما سببته الجريمة أو الواقعة محل التحقيق نفسها من تهديد حقيقي للأمن العام. وهو ما أوضحه النائب العام في الكتاب الدوري رقم 7 لسنة 2017 بشأن تطبيق أحكام قانون الطوارئ، حيث أكد على أنه خلال فرض حالة الطوارئ، تجب إحالة الجرائم التي وقعت قبل فرض الطوارئ ولم يكن قد تم التصرف فيها، إلى محكمة أمن الدولة طوارئ، ما يجعل الهدف من المحاكمة ليس الفصل فيما وقع من جرائم في ظل فرض حالة الطوارئ، وإنما الهدف منها هو إحالة أكبر عدد من الجرائم للمحاكم الاستثنائية، أي أن المحاكمة الاستثنائية أصبحت غاية في ذاتها، وليست ضرورة فرضها ظرف طارئ.

لا يمكن تجاهل حقيقة أن الجهات المعنية تعاملت مع القضية 1059 لسنة 2021 طوال ثلاث سنوات على أنها لا تحتاج إلى تحرك طارئ أو استثنائي، في ظل إخلاء سبيل المتهمين على ذمتها، فضلًا عن فترات التحقيق المتباعدة، دون استكمال التحريات ودون سؤال المتهمين لسنوات، أو ظهور أدلة جديدة. وهو ما يجعل ميعاد الإحالة للمحاكمة أمرًا لافتًا للنظر. دون أن يستجد أمر يختلف عن السنوات التي ظلت فيها هذه القضية مفتوحة قيد التحقيق، قررت نيابة أمن الدولة إحالة القضية للمحاكمة بشكل مفاجئ، قبل وقت قصير من إعلان رئيس الجمهورية عن وقف تجديد إعلان حالة الطوارئ مرة أخرى. إحالة القضية قبل وقف الطوارئ إذًا كان هدفه ضمان تطبيق المادة 19 لمحاكمة المتهمين استثنائيًا. 

ورغم التوجه التشريعي الذي يساعد على إحالة أكبر قدر ممكن من القضايا إلى المحاكمة الاستثنائية أمام محكمة أمن الدولة طوارئ، تظل إحالة القضية 1059 لسنة 2021 لمحكمة الطوارئ أمرًا يشوبه البطلان.

من ناحية، شرح دفاع أبو الفتوح سبب تمسكه بعدم اختصاص محاكم أمن الدولة طوارئ بنظر القضية، وفقًا للمادة 19 من قانون الطوارئ، التي فرقت بين القضايا المحالة لمحكمة أمن الدولة طوارئ، وبين القضايا التي لم يُقدم فيها المتهمون للمحاكمة. شرح الدفاع أن اتصال محكمة الجنايات بالدعوى لا يكون صحيحًا إلا بعد ثلاث خطوات، هي : صدور أمر الإحالة -إعلان الأمر للمتهم- وتكليفه بالحضور. ما يعني أن القضايا التي تكون محالة وتستمر محكمة الطوارئ في نظرها بعد انتهاء الطوارئ يجب أن يكون المتهم قد تم إعلانه وتكليفه بالحضور في ميعاد محدد.

أحالت النيابة القضية 1059 لسنة 2021 إلى محكمة أمن الدولة العليا طوارئ يوم 25 أغسطس 2021، ما يعني أن ملف القضية انتقل من حيازة نيابة أمن الدولة إلى حيازة محكمة الاستئناف، التي يفترض أن يقوم رئيسها بتحديد ميعاد النظر بها. أوضح دفاع أبو الفتوح أن موكله لم يتم إعلانه أو تكليفه بحضور جلسة محاكمته، فضلًا عن أن أوراق القضية لا يوجد بها ما يمكن الاستدلال به على ذلك، حيث علم أبو الفتوح بإحالته للمحاكمة خلال أول جلسة عقدتها المحكمة في 24 نوفمبر 2021، أي بعد انتهاء حالة الطوارئ بشهر كامل.

رفضت محكمة الطوارئ دفوع المتهمين بشأن بطلان الإحالة للمحاكمة، لمخالفة نص المادة 19، وبررت ذلك بأنه بما أن قرار الإحالة صدر قبل إعلان رئيس الجمهورية عدم نيته فرض الطوارئ مرة أخرى، فإن ذلك يجعل منه قرارًا منضبطًا، وهو ما ما لا يتسق مع نص ولا روح الدستور -بخلاف دفعنا بأن حالات الطوارئ المتعاقبة غير ذات علاقة ببعضها وإلا تكون غير قانونية طبقًا للدستور المصري. 

سادسًا: خاتمة وتوصيات

حتى صدور هذا التقرير وبعد مرور أكثر من خمسة أشهر على النطق بالحكم في القضية 1059 لسنة 2021، يظل الحكم غير قابل للطعن بموجب قانون الطوارئ، لكنه ليس نهائيًا بعد، ولم يبدأ أي من المحكوم عليهم المحتجزين في تنفيذ العقوبة؛ ما زال مصيرهم معلقًا في انتظار عرض الحكم على رئيس الجمهورية، ليصدر قراره بشأن قبوله أو تخفيفه أو إلغائه والأمر بإعادة المحاكمة حسب السلطات الاستثنائية الممنوحة له بموجب قانون الطوارئ المعيب.

رفضت محكمة الطوارئ كامل الدفوع المعروضة عليها، لم تقبل منها واحدًا، وسلمت بكامل رواية قطاع الأمن الوطني ونيابة أمن الدولة، رغم أنه بنظرة سريعة على أوراق القضية، تظهر قائمة من الانتهاكات والمخالفات القانونية، فضلًا عن عدد من المغالطات المنطقية التي تجعل من توجيه الاتهامات في شكلها الحالي، ناهيك عن إدانة المتهمين بها أمرًا مقلقًا، ويعطي رسالة واضحة، بأنه يمكن ملاحقة المواطنين وعقابهم في إطار يهدد حياتهم، ويهدر كامل ضمانات المحاكمة التي يكفلها كل من القانون المصري، والقانون الدولي الإنساني.

اللحظة الراهنة فرصة قد لا تتكرر، لإثبات وجود إرادة حقيقية لمراجعة الموقف وإحقاق العدالة كما جاء في تصريحات رسمية سابقة لرئيس الجمهورية، وهو ما لن يحدث إلا من خلال عدد من الخطوات:

1. إجراء تحرك سريع بشأن حماية حياة المحتجزين على ذمة القضية 1059 لسنة 2021 المنتظرين التصديق على الحكم الصادر ضدهم، وعليه يجب توفير الرعاية الصحية العاجلة لعبد المنعم أبو الفتوح، ونقله إلى مستشفى لوضع حد لتدهور حالته الصحية. فضلًا عن ضرورة ضمان تمتع كافة السجناء بالحقوق المنصوص عليها في لائحة السجون بما في ذلك وقف الحبس الانفرادي المطول، والسماح لهم بالزيارة اللائقة، والتريض، والقراءة.

2. إلغاء الحكم الصادر بحق المتهمين استنادًا لسلطة رئيس الجمهورية بموجب المادة 14 من قانون الطوارئ رقم 162 لسنة 1958، وحفظ كافة القضايا المشابهة التي تم تدوير المتهمين على ذمتها.

3. فتح تحقيق جاد في الانتهاكات الواقعة بحق المتهمين في القضية بما في ذلك الاختفاء القسري، والتعذيب، والإجبار على الاعتراف، والإهمال الطبي، ومحاسبة القائمين على هذه الانتهاكات.

4. تعديل قانون الطوارئ بما يضمن وقف إصدار أحكام غير قابلة للطعن، والسماح للمتهمين باستئناف الأحكام الصادرة ضدهم، فضلًا عن وقف تطبيق نص المادة 19 بأثر رجعي، بما يسمح بإحالة المتهمين لمحاكمات الطوارئ بغض النظر عن تاريخ الواقعة المتهمين بها، أو القبض عليهم أو التحقيق معهم.

5. تعديل قانون تنظيم قوائم الكيانات الإرهابية والإرهابيين، رقم 8 لسنة 2015، لوضع تعريف محكم لماهية الإرهابي، وحماية ضمانات المحاكمة العادلة، بإقرار حق المطلوب إدراجهم في سماع أقوالهم، وتمكينهم من الدفاع بافتراض براءتهم، بدلًا من السماح بإدراجهم دون علمهم؛ فضلًا عن إعادة النظر في الآثار المترتبة على الإدراج بما يضمن عدم تحولها إلى عقوبات استباقية.

6. الإفراج الفوري عن كافة المحبوسين احتياطيًا لمدة تجاوزت الحد الأقصى المسموح به قانونًا، وإنهاء ممارسة "التدوير"، من خلال عدم السماح بتوجيه ذات الاتهامات لنفس الأفراد على ذمة قضايا مختلفة.