على خطى الصندوق: قراءة في مشروطية قرض الاتحاد الأوروبي الجديد لمصر

بيان صحفي

4 نوفمبر 2025

وافق مجلس النواب المصري مطلع الأسبوع الجاري على مذكرة التفاهم بشأن قرض جديد من الاتحاد الأوروبي بقيمة 4 مليارات يورو، تصل مصر في شرائح خلال مدة زمنية تقدر بسنتين ونصف، تنتهي بنهاية 2027.

القرض الذي وقعه الرئيس المصري وقادة الاتحاد في القمة المصرية- الأوروبية الأولى من نوعها التي انعقدت في بروكسل يوم 22 أكتوبر الماضي، يأتي في إطار إعلان الشراكة الاستراتيجية والشاملة بين الجانبين التي أعلنت في مارس 2024، وجدد خلالها الاتحاد التزامه بدعم جهود مصر الرامية إلى تحقيق الاستقرار والمرونة على مستوى الاقتصاد الكلي، من خلال حزمة دعم بقيمة 7.4 مليار يورو. وتتضمن الحزمة خمسة مليارات يورو من القروض الـ"ميسرة"، ضمن آلية المساندة المالية الكلية (صُرِف منها مليار يورو نهاية عام 2024، و 1.8 مليار يورو في صورة اتفاقات للاستثمار، و600 مليون يورو منحًا في مجالات مختلفة، تم تحديد 200 مليون يورو منها لدعم 'إدارة الهجرة'". 

وتكشف مذكرة التفاهم الخاصة بقرض الأربعة مليارات يورو أن الحزمة التمويلية مكملة لبرنامج التسهيل الائتماني المقدم من صندوق النقد الدولي. وأنها تهدف لمعالجة قيود التمويل الخارجي الناتجة عن العجز في ميزان المدفوعات. وبينما وُقع اتفاق القرض الأول في مارس 2024، فإن بعض التغيرات قد طرأت منذ ذلك الحين. لكن ذلك لم ينعكس بشكل كبير على مستوى مشروطية القرض. فقد نصت مذكرة التفاهم على التنسيق مع صندوق النقد من أجل تنفيذ الإصلاحات الهيكلية التي تعهدت بها الحكومة أمام الصندوق، وأهمها مرونة سعر الصرف وتخارج الدولة من النشاط الاقتصادي. وإذا كانت المشروطية لا تختلف كثيرًا في التوجه والتشخيص عن صندوق النقد، فإنها أضافت بنودًا تفصيلية تتعلق بخصخصة المياه على وجه السرعة.

يُصرف القرض الحالي على ثلاث دفعات بواقع مليار يورو للدفعة الأولى، ومليار ونصف يورو لكلتا الدفعتين التاليتين. وترتبط تلك الدفعات بعدد من الإصلاحات الهيكلية التي يجب أن تنفذها الحكومة المصرية. وتلتزم الحكومة بموجب مذكرة التفاهم بتقديم "إعلان التزام Compliance Statement، تجري بعده مفوضية الاتحاد الأوروبي تقييمًا لمدى وفاء مصر بمشروطية "إجراءات سياسة الإصلاح الهيكلي" الواردة في المذكرة  قبل صرف كل دفعة. 

 

المشروطية السياسية: الاستثناء المصري

 

تشترط آلية المساندة المالية الكلية Macro-Financial Assistance بالاتحاد الأوروبي أن تفي الدولة المُقترضة بما تسميه الآلية "الشروط المسبقة"، وهي أن يكون لدى الدولة اتفاق ائتماني غير احترازي قائم مع صندوق النقد الدولي، وسجل مُرضٍ في تنفيذ إصلاحات برامج صندوق النقد الدولي، وكذلك أن تكون الدولة تحترم حقوق الإنسان وبها آليات ديمقراطية فعّالة، بما في ذلك نظام برلماني متعدد الأحزاب وضمان سيادة القانون. 

غير أن الاتحاد الأوروبي في حالة قرضه الجديد لمصر قرر منح الحكومة المصرية استثناءً غير مسبوق، ليحذف احترام حقوق الإنسان من بين الشروط المسبقة، ويستبدله باشتراط أن تواصل مصر "اتخاذ خطوات ملموسة وذات مصداقية" في ملف حقوق الإنسان والديمقراطية. 

ثم جاءت مذكرة التفاهم (برنامج الإصلاحات الملزمة لمصر لاستحقاق القرض) باستثناء آخر، حيث لم ترد بها أية تعهدات بشأن "الخطوات الملموسة وذات المصداقية" فيما يخص حقوق الإنسان. وفي المقابل، تضمنت المذكرة ما يزيد على 60 إجراءً محددًا في مجال الإصلاحات المالية والاقتصادية، وبعض إجراءات الحماية الاجتماعية التي تتناولها هذه الورقة. 

بالمثل، تضمن الإعلان الصادر عن القمة الأولى المنعقدة في بروكسل إشارات عمومية إلى تجديد الطرفين للالتزام المشترك بالقيم العالمية للديمقراطية وسيادة القانون واحترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية، وترحيبًا "بالجهود الجارية لتعزيز سيادة القانون وفقًا للمعايير الدولية"، وتأكيدًا على استمرار الحوار والتعاون "في مجال حقوق الإنسان للجميع، على نحو شامل، مع إيلاء اهتمام خاص للأشخاص في أوضاع هشة، بما في ذلك حقوق النساء والفتيات، بهدف ضمان جميع الحقوق، بما في ذلك حرية التعبير والتجمع السلمي وحرية تكوين الجمعيات، من بين حقوق أخرى". كما يتعهد البيان بتعزيز التعاون في مجال الحوكمة الشاملة الفعالة الخاضعة للمساءلة، من خلال "دعم السياسات القائمة لتعزيز المؤسسات العامة والقدرات لمواصلة تطوير سياسات شاملة، وتحديث الخدمات العامة ومكافحة الفساد"، مع إشارة إلى دور هام للمجتمع المدني "في الشراكة بيننا وتنفيذ اتفاقية المشاركة".


المشروطية الاقتصادية: نفس الدواء للأزمة المصرية

 

لا يختلف الاتفاق الحالي عن اتفاق الصندوق فيما يتعلق بتشخيص العوامل الهيكلية للأزمة الاقتصادية في مصر كما يظهر في محوره الأول. حيث يرى أن المشكلة كانت ولا تزال في مرونة سعر الصرف. وهو تقييم يتجاهل التكلفة الاجتماعية الكبيرة التي أنتجتها تخفيضات سعر صرف العملة المحلية مقابل العملات الأجنبية، والتي عمقت من مستويات الفقر واللامساواة في مصر. وثمة مشكلة كبيرة في إتاحة وجودة البيانات التي تمكن المتابعين من التأكد من تلك التأثيرات؛ حيث تحجب الحكومة المصرية أرقام الفقر، وتنخفض جودة البيانات المتعلقة بالأمن الغذائي واللامساواة بشكل بالغ يعيق تقييم الآثار الاجتماعية الحقيقية للالتزام بسياسة سعر الصرف المرن.

ومن المدهش أن الاتحاد الأوروبي اشترط على الحكومة قياس نسب الفقر في مصر من خلال نتائج مسح الدخل والإنفاق والاستهلاك، على أن تشاركها فقط "مع الهيئات الحكومية المعنية ومؤسسات دولية شريكة يتم اختيارها"، دون اشتراط نشر النتائج للمواطنين المصريين كما كان يحدث حتى خمس سنوات مضت، بل كما يشترط صندوق النقد نفسه.

كذلك الأمر على مستوى حشد الإيرادات الضريبية، حيث يتجاهل القرض بشكل واضح التأكيد على الحاجة لإصلاح شامل للنظام الضريبي، وليس فقط زيادة الإيرادات. فالنظام الضريبي القائم ما زال يعتمد بشكل كبير على الضرائب غير المباشرة. ومن ثمّ فالإصلاح الحقيقي يبدأ بإعادة تقييم شرائح الدخل، واستحداث ضرائب جديدة على الثروة وتفعيل ضريبة الأرباح الرأسمالية التي بقيت مؤجلة لأكثر من عشر سنوات حتى الآن، ومكافحة الهروب نحو الملاذات الضريبية.

وفيما يتعلق بإدارة المالية العامة، مازال هناك الكثير مما يجب أن يتم، وعلى رأسه تطبيق مبدأ وحدة الموازنة، حيث تدار ميزانيات الهيئات الاقتصادية بمعزل عن الرقابة. وعلى الرغم من صدور قانون المالية الموحد الذي أثني عليه صندوق النقد والاتحاد الأوروبي؛ إلا أنه لم يطبق بعد. وما زالت البيانات المالية للهيئات الاقتصادية غير مضمنة في الموازنة العامة.

أما فيما يتعلق بالحماية الاجتماعية، فإن القرض يركز على مقاربة كمية تشترط توسيع قاعدة المستفيدين من برنامج تكافل وكرامة بإضافة 60 ألف أسرة مع الدفعة الثانية للقرض، و90 ألفًا أخرى مع الدفعة الثالثة، وكذلك تنفيذ 20 ألفًا من القروض الصغيرة في الدفعة الثانية و30 ألفًا في الدفعة الثالثة، دون أية إشارة لرفع كفاءة تلك البرامج، سواء برنامجي تكافل وكرامة أو برامج الإقراض الصغير. 

وتعاني برامج الإقراض الصغير من مشكلات عدة في مصر، وتتحول مع الوقت لممارسات إقراض افتراسية تعيد إنتاج الفقر من خلال تحويل الفقراء لمديونين وغارمين، أغلبهم من النساء. وفي ظل غياب رقابة فعالة على أسعار الفائدة في تلك القطاعات؛ فإنها تتحول لعبء أكبر على الفقراء بدلًا من المساهمة في التمكين الاقتصادي لتلك الفئات. كما أن برنامج الحماية الاجتماعية الأساسي "تكافل وكرامة"، مازال يكتنفه الكثير من الغموض بسبب غياب البيانات. ولم يجر تقييم مستقل مستفيض ومعلن لهذا البرنامج رغم مرور ما يزيد على عشر سنوات منذ بدء تطبيقه، ومع ارتفاع معدلات الفقر بشكل حاد خلال تلك السنوات.

تخارج الدولة لصالح الاحتكارات الخاصة

يرتكز تقييم الاتحاد الأوروبي في المحور الثاني على المفاهيم ذاتها التي يتبناها صندوق النقد الدولي، وعلى رأسها " تكافؤ الفرص بين القطاعين العام والخاص". غير أن هذا التقييم يستخدم مُبررًا لعمليات بيع الأصول المكثفة تحت ضغط الأزمة الاقتصادية في السنوات الأخيرة، والتي تُباع لشركات القطاع العام في قطاعات إستراتيجية، بدون تنفيذ إصلاحات مطلوبة تتعلق بتخارج الجيش من القطاعات المدنية. 

وتؤكد مذكرة التفاهم على تخفيف بصمة الدولة في الاقتصاد من خلال نشر قاعدة بيانات للشركات المملوكة للدولة وتقارير متابعة "وثيقة ملكية الدولة"، بالضبط كما ينص برنامج صندوق النقد الدولي. إلا أن غياب النشر المنتظم والتفاصيل الدقيقة يجعل هذه الخطوات أقرب إلى واجهة بيروقراطية. فعمليات البيع أو "الشراكة" التي تتم مع مستثمرين محددين لا تعني بالضرورة زيادة المنافسة، بل قد تنقل الاحتكار من يد الدولة إلى يد القطاع الخاص الكبير، أو إلى شركات ذات صلة وثيقة بالسلطة. والمثال الواضح هو صفقة "الشرقية للدخان" التي لم تفتح السوق، بل أعادت هيكلة الاحتكار في ثوب جديد.

يبقى تعزيز صلاحيات جهاز حماية المنافسة مؤشرًا إيجابيًا ومطلوبًا ضمن شروط القرض، لكنه يظل خاليًا من ضمانات الاستقلال المؤسسي. فالجهاز يعمل ضمن منظومة تنفيذية خاضعة للسلطة السياسية، ما يُفقده القدرة الحقيقية على ضبط الممارسات الاحتكارية، خصوصاً تلك المتصلة بشركات الجيش والأجهزة الأمنية أو النخب المقربة من الحكومة.

وبينما يشيد الاتفاق بالتعديلات على قانون الاستثمار والحوافز الضريبية الممنوحة للمستثمرين الكبار، فإنه لا يلتفت لكون تلك التعديلات والحوافز لم تنشئ بيئة عادلة أو مستدامة، بل عمّقت التفاوت بين الشركات الكبرى التي تستفيد من الإعفاءات، وسواها من المشروعات الصغيرة التي تواجه تكاليف تشغيل مرتفعة وانعدامًا شبه كامل في النفاذ للتمويل وتعقيدات بيروقراطية مرهقة.

 

جذب الاستثمارات "الخضراء" قبل العدالة البيئية والاجتماعية

يقدم تقييم القرض وشروطه في محوره الثالث رؤية محدودة للانتقال الأخضر، تتجاهل السياق الاقتصادي والاجتماعي في مصر. فعلى الرغم من الضرورة التي يفرضها الواقع الاقتصادي للانتقال نحو الطاقة المتجددة، إلا أن تلك المشروعات الكبرى الممولة بالقروض، غالبًا ما تضيف الكثير لعبء الديون القائم. وتتجاهل الوثيقة الدور المهم الذي يمكن أن تلعبه الشركات المحلية الصغيرة والمتوسطة في هذا القطاع، سواء عبر نقل التكنولوجيا أو خلق التنمية محليًا، وخلق فرص العمل في هذا القطاع الضروري بشكل مستدام. ومن ثم فإن مشروطية  القرض تجعل جذب الاستثمارات أولوية على حساب العدالة البيئية والاجتماعية.

تتضح هذه المفارقة في حالة الهيدروجين الأخضر، حيث تروّج الحكومة – بدعم أوروبي – لمشروعات موجهة أساساً للتصدير إلى أوروبا ضمن خططها لتنويع مصادر الطاقة بعد الحرب في أوكرانيا. إلا أن هذه المشروعات لا تستهدف تلبية الاحتياجات المحلية أو تخضير الصناعات الوطنية الملوثة مثل الأسمدة الكيماوية أو الأسمنت. والنتيجة أن مصر تتحول تدريجياً إلى موقع إنتاج تابع في "سلاسل الطاقة الخضراء" الأوروبية، بينما يبقى استهلاكها المحلي معتمداً على الوقود الأحفوري، وتبقى قطاعاتها الإنتاجية عاجزة عن التحول الحقيقي.

تتضمن مشروطية هذا المحور أيضًا التوجه نحو إشراك القطاع الخاص في مشروعات المياه، ما يمثل تحولًا قد يحمل مخاطر كبيرة بخصخصة مورد عام شديد الأهمية، في بلد يعاني من الفقر المائي بالأساس. ومن ثم فإن خصخصة مشاريع المياه سواء المخصصة للزراعة أو للشرب قد تؤدي إلي رفع الأسعار وتقليص إمكانية الوصول للمياه في المناطق الفقيرة، وبالأخص في ظل غياب آليات فعالة للمساءلة والرقابة كما تكشف تجارب خصخصة المياه السابقة عالميًا.

كما تتضمن مشروطية الانتقال الأخضر تقييمًا شاملًا لوضع التجارة بين مصر والاتحاد الأوروبي وخاصة فيما يتعلق بالمناخ، مع التركيز على القطاعات كثيفة الانبعاثات مثل الأسمنت والصلب والألمونيوم والهيدروجين. وعلى الرغم من التأثير المتوقع لتطبيق ضريبة "تعديل حدود الكربون الأوروبية CBAM" على صادرات مصر للاتحاد الأوروبي، فإن تلك النظرة تعكس قصورًا واضحًا. فالدراسة المقترحة تهدف للحفاظ على تنافسية الصادرات المصرية، ما يعني أن الدافع الأساسي ليس خفض الانبعاثات محليًا أو تحسين الأداء البيئي لتلك القطاعات الصناعية الملوثة؛ بل الامتثال لمتطلبات السوق الأوروبية وإلا فقدان حصة التصدير.

ما تحتاجه مصر ليس دراسة لتنافسية صادراتها في الأسواق الأوروبية، بل سياسة صناعية خضراء تضع العدالة المناخية، وتوطين التكنولوجيا، وحماية العمال والبيئة في قلب هذا الانتقال الأخضر.

تعكس مشروطية التحول الأخضر في القرض استمرارًا للنزعة التكنوقراطية في مقاربة هذا المحور المهم. وبشكل عام يكشف الاتفاق عن تصور "انتقال أخضر" يدار من أعلى لأسفل في محاولة لطمأنة المانحين، أكثر من كونه يعكس رؤية تنموية وطنية. ويغيب التركيز على الأبعاد الاجتماعية لهذا التحول الأخضر، مما يمكن معه القول أن هذا التحول يستهدف حشد التمويل الأخضر، وهو ما يتفق مع رؤية الحكومة المصرية، بدلًا من البحث عن عدالة مناخية حقيقة وإجراء حوار مجتمعي لإشراك أصحاب المصلحة المهمشين تاريخيًا في مصر، مثل المجتمعات الريفية المتأثرة بالتغير المناخي والشركات الصغيرة والمتوسطة في قطاع الطاقة المتجددة وغيرها.