في ذكرى محمد محمود: جدل المسائلة والمصالحة - رسالة للمولعين بتجربة المصالحة في جنوب إفريقيا

بيان صحفي

19 نوفمبر 2012

مع حلول ذكرى محمد محمود, يتزايد عدد القائلين بأن السبيل الوحيد لاكتمال التحول الديمقراطي في مصر هو "العفو والمصالحة" والاهتمام بإعادة البناء. وأنا على العكس أؤمن تماما أن السبيل الوحيد الذي لا نملك أن نسلكه هو تجاهل الماضي بدافع الالتفات إلى مهام بناء الوطن. فبداية, لا يملك شخص واحد قرار الصفح عن جرائم الماضي والتخلي عن مطلب القصاص. فلا يمكن أن يحدث هذا إلا بمشاورات مجتمعية واسعة لا بد أن يكون أهالي الضحايا والشهداء طرفا رئيسيا فيها، ويشمل هذا التعريف أهالي الضحايا والشهداء في الفترة التي سبقت الثورة أيضا من ضحايا تعذيب وممن ماتوا في العبارات الغارقة والقطارات المحترقة. كما أننا لا نملك ترف تجاهل تجارب الدول الأخرى التي أثبتت في أكثر من حالة أن العفو بمفهومه المتعسف — أي التحصين والإفلات من العقوبة — لن يحقق الاستقرار المنشود، بل على الأكثر لن يحقق إلا استقرارا هشا مؤقتا لن ينجح إلا في تأجيل اليوم الذي تنكأ فيه الجراح مجددا والذي قد يدفع المجتمع فيه ثمنا أكبر من الثمن الذي يحتاج إلى أن يدفعه الآن.

لم يعد خافيا على أحدا أن منظومة العدالة الجنائية المصرية الحالية لم ولن تنجح في إصدار أحكام تحقق العدالة في ظل الإطار التشريعي الذي وضعه النظام السابق نفسه. وهو ما يؤكد ضرورة إحالة التعامل مع جرائم الماضي والفترة الانتقالية إلي آليات انتقالية متخصصة— تختلف كثيرا عن المحاكمات السياسية التي يخشى الكثيرون منها. فاللجوء الى آليات العدالة الانتقالية —أي المؤقتة بطبعها— هو النموذج الذي طبق في الكثير من الدول الديمقراطية، مع اختلاف نطاق التطبيق ومدى الفاعلية. فقد قامت دول أوروبا الشرقية بإجراءات تطهيرية شديدة التوسع على سبيل المثال، ولا تزال المحاكمات والتحقيقات مستمرة في دول أمريكا اللاتينية، في حين تعثرت في جنوب إفريقيا والتي يعتبرها الكثيرون نموذجا غير ناجح لإدارة التحول الديمقراطي. وعلى الرغم من ذلك، فدستور جنوب إفريقيا الانتقالي الذي أقر في 1993 أسس لآليات انتقالية تهدف إلى المصالحة الوطنية قوامها الحقيقة والمكاشفة— وهو ما يختلف كليا عن الدعوة إلى النسيان أو التحصين— وحدد ولاية تلك الآليات في مدة زمنية معينة تنتهي ببدء التجربة الديمقراطية، بحيث لا يُسمح بإساءة استخدامها وقت الحكم الديمقراطي.

العدالة الانتقالية شق رئيسي من عمليات التحول الديمقراطي، وهو الشق الخاص بالتعامل مع جرائم الماضي بما يحقق العدالة ويساهم في تعزيز الديمقراطية. وتقوم فلسفة العدالة الانتقالية على أن التعامل مع موروث الماضي لا يحقق العدالة فقط وإنما يضمن في المستقبل الشفافية والالتزام بمبادئ الديمقراطية من قبل المؤسسات العامة. إذا فهي ليست فلسفة "انتقامية"، ولها دور فاعل في بناء مؤسسات حكم على أسس جديدة وفي إطار لا يسمح بالإفلات من العقاب.

****

يستشهد الكثيرون من المهتمين بإنجاح التجربة الديمقراطية في مصر بتجارب الدول الأخرى في التحول الديمقراطي، ولسبب ما تستهويهم تجربة جنوب إفريقيا أكثر من غيرها. ولنا ملاحظات عدة على هذا الاستشهاد. بداية فإن قوانين المصالحة في جنوب إفريقيا لم يتم تمريرها من موقع ضعف أو يأس. كانت فلسفة مانديلا والتي مهدت الطريق من أجل تمرير "قانون المصالحة" في 1995 هي "المصالحة وإعادة البناء". ولا يعني هذا أنها حازت على رضاء شعبي واسع، ففور تمرير قانون المصالحة انهالت الدعاوى التي حاولت الدفع بعدم دستوريته كونه يُحجِّم امكانيات المسائلة الجنائية، وهو مازال محل جدال حتى هذا اليوم. وعلى رغم من أن الكثير من أدبيات العدالة الانتقالية توجه انتقادا حادا لتجربة جنوب إفريقيا وتنتهي إلى أنها فشلت على المدى البعيد في تحقيق السلم الاجتماعي، إلا أنه لا سبيل لمقارنة تجربة جنوب افريقيا في المصالحة بما يطرحه البعض في مصر، أي العفو المجاني المنطلق من اليأس.

أسس قانون المصالحة لجنة للحقيقة والعفو من ضمن لجان أخرى، اشترطت قبل أي شيء أن يتقدم الشخص المتورط في جرائم فترة الفصل العنصري بطلب للصفح، وأن يكشف عن مدى تورطه في جرائم الماضي في جلسات معلنة. وجدير بالذكر أن دي كليرك— اخر رؤساء الفصل العنصري قبل انتخاب مانديلا— حاول أن يحصن أربعة آلاف ضابط شرطة من المساءلة قبل الانتخابات وهو ما رفضته حكومة المؤتمر الإفريقي والتي أصرت على أن يخضعوا لقانون المصالحة ويمروا بمكاشفات لجنة الحقيقة. تقدم أكثر من سبعة آلاف شخص بطلبات عفو للجنة المصالحة، ولم يحصل إلا 1167 منهم فقط على عفو شامل، بعد أن وثقت اللجة ما يقرب من ثلاثين ألف انتهاك لحقوق الإنسان، وهو ما ينساه الكثير من المولعين بتجربة جنوب إفريقيا.

ولم تتوقف عملية التصالح مع الماضي عند انتهاء عمل لجنة الحقيقة والمصالحة في 2001، فبناء على التشريع المؤسس لها أحيل عدد من الحالات المرفوضة أو التي لم تستوفي شروط المصالحة إلى النيابة المختصة وبدأت المحاسبة الجنائية ولكن بإيقاع بطيء جدا وبصورة مسيسة، وهو أمر يحسب على وليس لصالح حزب المؤتمر الوطني الذي انشغل بالسلطة، وبسياساته التي توقفت منذ زمن بعيد عن الانحياز للشعب الذي ناضل من أجل تحرره.

****

لا يتفق الكثيرون اليوم على أن عملية المصالحة نجحت أو اكتملت في جنوب افريقيا ومازال هناك الكثير من المطالبين بالعدالة التي يعتبرونها مفقودة، بالرغم من أنها تجربة بها شيء من الشفافية والمكاشفة. ومن الانتقادات الموجهة إليها أنها باشرت عملها بصورة انتقائية، وأنها سمحت بإفلات البعض من العقاب. فبسبب اطمئنان الكثير من أفراد الأجهزة الأمنية لضعف امكانية ورود أدلة تدينهم لم يشعر أغلبيتهم بالحاجة للتقدم بطلب للصفح. ومن الانتقادات أيضا أن لجنة المصالحة لم تؤسس لآلية تحقيق بجانب لجنة الحقيقة. والأهم هو أنها فشلت في المساءلة الجنائية بعد 2001 وهو ما أظهر عدم جدية حكومة المؤتمر الوطني في عصر الرئيس ثابو مبيكي في التعامل مع جرائم الماضي (بل إن مبيكي كان يتدخل مستغلا سلطاته الرئاسية محاولا تحصين بعد أرباب النظام السابق من المحاسبة). ومازال الكثير من ضحايا النظام السابق يبحثون عن العدالة المفقودة في جنوب إفريقيا.

لم تكن تجربة جنوب إفريقيا في التحول الديمقراطي تجربة ناجحة، بخلاف تأسيس نظام يسمح بتداول السلطة، خاصة عندما نقارنها بتجارب دول مثل تشيلي أو الأرجنتين والتي أسست لآليات انتقالية حققت قدرا أكبر من العدالة والقصاص، وهو ما ساهم في تعزيز ديمقراطيتها بصورة أكبر. كما أنها نماذج أكثر نجاحا في تعزيز حكم الشعب وتحقيق العدالة الاجتماعية التي مازالت بعيدة المنال في جنوب إفريقيا. من حقنا إذا في مصر أن نحلم بما هو أفضل بكثير.

--------------------

* نشر بجريدة الشروق في عدد 13 نوفمبر 2012