التمويل في كوب 27: انتصار ينتظر تغييرًا نظاميًا، فلننتزع جهود التغير المناخي من براثن الممولين
بعد ما يقترب من ثلاثة عقود من تدشين مؤتمرات الأطراف "COP" لمكافحة التغير المناخي في إطار الأمم المتحدة، اعترفت الدول المتقدمة أخيرًا في شرم الشيخ بمسؤوليتها التاريخية عن الخسائر والأضرار التي لحقت بالعالم النامي والدول الفقيرة بسبب التلويث الذي تسببت، وتتسبب فيه، منذ الثورة الصناعية. خرج المؤتمر السابع والعشرون في شرم الشيخ المصرية خلال نوفمبر/تشرين الثاني الماضي بقرار تاريخي، ولو على المستوى السياسي والرمزي، يؤسس صندوق للخسائر والأضرار البيئية والمناخية بعد مواجهات استدعت مد أيام التفاوض. وبرغم أهمية القرار إلا أن تنفيذه يبقى معلقًا على العديد من التفاصيل، بالذات مع استمرار المواجهة الاجتماعية الاقتصادية السياسية، على السياق العالمي، بين اعتبارات العدالة والرفاه وحتى الوجود البشري، وبين أولوية الأرباح والسوق وسيطرة قطاع المال.
كان التطلع من نسخة شرم الشيخ أن يتحول إلى مؤتمر التنفيذ بعد أن كان المؤتمر السابق عليه في جلاسجو هو مؤتمر التعهدات، لكن باستثناء النص على تأسيس صندوق الخسائر والضرر، وهو نجاح كبير ولو رمزي على الأقل بسبب أنه أوقف محاولات الدول المتقدمة في المفاوضات تحجيم القرار عند مجرد آلية وهو ما يجعل القرار أكثر غموضًا وأقل إلزامًا، فإن المؤتمر لم يرق إلى مستوى التطلعات، بل لم يقترب حتى من ذلك ولو قليلًا. فقد خلت الوثيقة النهائية للمؤتمر من الإشارة إلى الوقود الأحفوري كأحد مسببات زيادة درجات الحرارة، في ظل الاقتراب شبه المؤكد للعالم من تجاوز سقف الدرجة ونصف درجة مئوية، وهو ما قد يستتبعه عواقب كارثية بالذات على الدول النامية. كما زاد التمثيل المباشر للشركات الملوثة وشركات الغاز الطبيعي العالمية، التي وقعت للمفارقة عددا هائل من اتفاقات الغاز مع إفريقيا وغيرها. لكن التمويل ظل كما هو عائقًا جبارًا أمام جهود تخفيف والتكيف مع آثار التغير المناخي التي تجتاح العالم، مما يعني أننا بعيدون عن "التنفيذ"، ولو حتى للتعهدات والالتزامات قليلة الطموح التي لدينا حتى الآن.
وضع التمويل ما قبل الكوب
فيما يخص الاحتياجات التمويلية، ووفقًا للتقارير الأممية فإن احتياجات مواجهة التغير المناخي في الدول الفقيرة كانت تقدر بحوالي تريليون دولار سنويًا، رفعها تقرير للباحث العمدة في الاقتصاد المناخي، نيكولاس شتيرن، مع إطلاق مؤتمر كوب 27 إلى تريليوني دولار سنويًا بحلول عام 2030. ثم جاءت خطة التنفيذ الصادرة عن اجتماع شرم الشيخ لتقدر الاحتياجات للتحول إلى اقتصاد منخفض الكربون بما بين 4 إلى 6 تريليونات دولار سنويًا، وإن الوفاء بهذا التمويل الهائل "سيقتضي تحولًا سريعًا وشاملًا في النظام المالي"، بحسب نص الخطة. وعندما تتم مقارنة هذه الاحتياجات بالوضعية الحالية، يظهر هول الفجوة.
فمن مائة مليار دولار تم التعهد بتقديمها من الدول المتقدمة سنويًا للدول النامية، كشفت لجنة المتابعة الرسمية الخاصة بهذا الالتزام أن المبلغ لم يتجاوز 68.3 مليار دولار خلال عام 2020، يذهب معظمها لجهود تخفيف الانبعاثات وهي أولوية الدول المتقدمة على حساب التكيف، مطلب الدول الفقيرة العاجل، كما تغلب عليه القروض واستثمارات شركات النقل الكبرى، مما يرتب أعباءً إضافية على الدول الفقيرة، التي هي بالفعل في أزمة ديون سيادية بفعل تداعيات وباء كورونا والأزمة العالمية الاقتصادية المتفاقمة. وذهبت منظمة أوكسفام في تقرير لها أن القيمة الحقيقية لهذا التمويل لا تتعدى 21 إلى 24 مليارات دولار فقط خلال العام ذاته.
والحقيقة أن غلبة الحلول التي توجهها السوق، والتي تنبني على إعمال منطق كفاءة السوق لمواجهة التغير المناخي عبر ترشيد سلوك الشركات بجعل إيقاف التلوث نشاطًا ربحيًا، قد فشل فشلًا ذريعًا في إنتاج أي تقدم في الوفاء باحتياجات الأرض واحتياجات الشعوب. فلم تنجح أسواق تداول الكربون إلا في تحويل التلوث لمجال جديد لتحقيق الأرباح على حساب الدول النامية، وغلبت أولويات ربحية صناعة التمويل العالمية عبر الإقراض على أشكال التمويل، لدرجة أن بلدًا كباربادوس توشك على الإفلاس بسبب اضطرارها للاقتراض، مرة تلو الأخرى، للتعامل مع الكوارث المناخية، التي تتحمل المسؤولية التاريخية والحالية عنها الرأسمالية المتقدمة. بل إن تصدر قطاع التمويل لقيادة جهود مواجهة التمويل المناخي هو تناقض مع ضرورات العدالة المناخية والاجتماعية، بالإضافة إلى ضرورة تغليب اعتبارات المدى الطويل، وهو معكوس ميل التمويل كنشاط ريعي يسعى للمكاسب السريعة قصيرة الأجل. لقد اختطفت صناعة التمويل مجهودات التغير المناخي وفي الوقت ذاته لم تتوقف عن تمويل النشاطات الملوثة المتوسعة باضطراد، بالذات مع الحرب الروسية على أوكرانيا. هذا بالإضافة لعمليات الطلي الأخضر للأنشطة الربحية البنية، وإعادة تقديمها كاقتصاد أخضر على غير الحقيقة.
مازال التمويل مختطفًا لأولويات الربح
لم تفشل الدول المتقدمة فقط في الوفاء بتعهداتها الخاصة بالمائة مليار دولار السنوية، لكنها فشلت في تقديم تحديث للرقم، وهو التزام سابق يجب ان يبدأ من 2025، وتم تأجيل القرار للمؤتمر القادم في الإمارات. وغلبت اتفاقات التفاهم الثنائية في مجال الطاقة على الاستثمارات في مجال الطاقة المتجددة، بالذات في مجال الهيدروجين الأخضر، بغرض التصدير لأوروبا للوفاء باحتياجاتها، فيما يعد امتدادا للمنطق الاستخراجي لهذه الاستثمارات الذي يحدد أفق السياسات في المنطقة وفقًا لاحتياجات أوروبا من الطاقة. ناهينا عن المزيد من اتفاقات التنقيب عن الغاز، بدفع من الشركات العالمية، وبضغط من دول الخليج، التي منعت ظهور أي إشارة للوقود الأحفوري في مخرجات القمة.
كما شهد الكوب أيضًا عددًا من مبادرات الحلول التي توجهها الأسواق مرة أخرى، وعلى رأسها مبادرات التبادل الطوعي للكربون في أفريقيا، وهو مد لآلية ربحية غير ناجحة لأسواق جديدة. كما نوقشت مبادرات لتبادل الديون من أجل المناخ، مما يعني اسقاط الديون مقابل استثمارات صديقة للبيئة أو تساهم في التخفيف. لكن هذه الآلية هي الأخرى محل انتقادات عميقة المجتمع المدني في الدول النامية. حيث تؤكد الدراسات أنه لكي تعمل هذه الآلية بكفاءة لابد وأن تحدد بدقة نوعية الاستثمارات وجدواها واستبعاد الطلي الأخضر للمشروعات الملوثة ونوعية الأصول والموارد التي ستنتقل ملكيتها للمستثمرين الدوليين وغيرها من المحددات، لكن أيضًا أن دروس التجارب السابقة تشير إلى أن نجاحها فيما تعد به من تقليل الاستدانة يقتضي، بجانب التصميم الفني الحذق، أن يشمل حجمًا كبيرًا من الديون، وأن تشمل الآلية إسقاط قدر لا بأس به منه.
أما فيما يتعلق بصندوق الخسائر والأضرار، فما زال هناك العديد من العقبات. فيظل من غير الواضح ما هي قيمة الالتزامات المستهدفة في الصندوق، الذي لا يتعدى رصيده الحالي الصفر. لكن أيضًا ما إذا كانت دول كالصين، وهي مصنفة كدولة نامية وفي الوقت ذاته من الدول الأعلى تلويثًا، ستساهم في الصندوق أم لا. كما غاب الاتفاق على المعايير التي تحدد الدول والحالات المؤهلة للاستفادة من الصندوق، وهو عمل مستقبلي شاق للغاية.
ويثبت مؤتمر كوب 27 مرة أخرى حاجة الدول النامية، وفي الحقيقة الحاجة العالمية، للبحث عن أطر سياسات مغايرة وعاجلة لأطر الرأسمالية الريعية المالية حتى وإن كست نفسها بالأخضر كالحرباء. هناك ضرورة قصوى للبحث في إمكانات اسقاط الديون، وفي تبني سياسات توسعية عوضًا عن التقشف، وتصور نماذج بديلة للإدارة الاقتصادية القائمة على العدالة الاجتماعية/المناخية، توجه بوصلتها المصلحة العامة. كما أن جهود الضغط على العالم المتقدم للاضطلاع بمسؤوليته التاريخية عن التغير المناخي من ناحية وللتوقف عن استخدام المناخ لنصب المزيد من فخاخ الديون، يجب وأن تتوازى مع عودة الإنفاق العام ليلعب الدور الرئيسي في تمويل وتوجيه جهود التكيف والتخفيف. العدالة الاجتماعية والعدالة المناخية شرطان لا ينفصمان لإنقاذ الحياة على الأرض.
*هذا المقال منشور بالأصل على موقع شبكة المنظمات العربية غير الحكومية للتنمية