ليست هذه سكة السلامة إلى الضبعة حول متطلبات وإجراءات الأمان للطاقة النووية
تواترت أخيرًا أنباء عن قرب الانتهاء من مراجعة عقود مشروع الضبعة النووي واحتفت تلك الأنباء باقتراب تحقيق "حلم" الدخول إلى العصر النووي، إلا أن البحث في البنية التنظيمية وإجراءات الأمان النووي التي تتخذها الحكومة، يثير شكوكًا عميقة حول هذا "الحلم" ويثير أيضًا القلق الشديد من عواقب هذا الأداء. تختلف الطاقة النووية عن كافة مصادر الطاقة الأخرى اختلافًا كبيرًا من ناحية كونها مصدرًا محتملًا لأخطار هائلة، ولهذا فبغض النظر عن اختلاف الرأي حول مدى ملاءمة الطاقة النووية لمصر حاليًّا، سواء من الناحية الاقتصادية أو استقلالية الطاقة أو أي نواحٍ أخرى، فالذي لا خلاف عليه، هو الدرجة الفائقة المطلوبة من البناء والقدرات التنظيمية الضرورية للأمان في المفاعلات النووية.
المقصود بالأمان النووي هو "حماية الناس والبيئة من المخاطر الإشعاعية وأيضًا ضمان أمان المرافق والأنشطة المسببة لمخاطر إشعاعية". ويُعرِّف القانون المصري الأمان النووي بأنه: "توفير الظروف التشغيلية السليمة ومنع وقوع الحوادث أو التخفيف من آثارها على نحوٍ يحقق وقاية العاملين والجمهور والبيئة من المخاطر الإشعاعية غير المبررة". ولأن المخاطر الإشعاعية عابرة للحدود الوطنية، فهناك ثمة نظام عالمي للأمان النووي، الذي تشكل معايير الأمان الصادرة عن الوكالة الدولية للطاقة الذرية حجر الزاوية فيه، والتي تعكس توافقًا دوليًّا في الآراء حول ماهية العناصر التي تشكل مستوًى عاليًا من الأمان.
توصي المعايير الدولية بأن توفِّر الدول والحكومات بنية مؤسسية وقانونية لتنفيذ متطلبات الأمان النووي، تتولى المسئولية الرئيسية في هذه البنية "هيئات رقابية مستقلة"، تتوفر لها القدرة المادية والعلمية والاستقلالية في اتخاذ القرار، وهي التي تتولى الأعمال التنظيمية والرقابية المتعلقة بالأنشطة النووية. فهذه الهيئات الرقابية هي التي تضع شروط التصاريح وتمنحها للمنشآت النووية وتلغيها أيضًا، وهي المسئولة عن التفتيش والرقابة على المرافق والأنشطة وضمان امتثالها للمعايير، وهي أيضًا المسئولة عن إصدار اللوائح ووضع معايير الأمان والإرشادات والتواصل مع الجمهور والإعلام، والهيئات الرقابية لها وظائف فيما يتعلق بالتأهب لحالات الطوارئ، وفي الاتصال بالهيئات الدولية عند الحاجة، ويجوز لها أن تقوم بالرصد الإشعاعي وأعمال البحث والتطوير المتعلقة بالسلامة وغير ذلك من الأعمال الرقابية.
فما هو وضع الهيئة الرقابية في مصر؟
تشير الكثير من القرائن إلى قصور كبير في قدرات هيئة الرقابة النووية والإشعاعية، بوضعها الحالي، يعوقها عن القيام بمهامها في ضمان أمان الطاقة النووية. فقد أنشأ القانون رقم 7 لسنة 2010 "هيئة الرقابة النووية والإشعاعية" لتكون المسئولة عن "كافة الأعمال التنظيمية والمهام الرقابية المتعلقة بالأنشطة النووية والإشعاعية". لكن على أرض الواقع، نكاد لا نعلم أي شيء تقريبًا عن هذه الهيئة التي تعمل في إطارٍ من غياب الشفافية العميق. إذ ليس معروفًا للجمهور البنية المؤسسية لهيئة الرقابة النووية، ولا تشكيل مجلس الإدارة، ولا السلطة العليا فيها، ولا عدد العاملين أو الإمكانيات العلمية والخبرات المتوفرة لديهم، كما لا نجد أي تقارير عن أنشطتها الرقابية في مجالات الطب والأبحاث والغذاء مثلًا، ولا عن الميزانية المتاحة لها، ولا عن برامج التدريب أو التعاون الدولي... إلخ.
كما لا يوجد لهيئة الرقابة النووية والإشعاعية أي "موقع إلكتروني للتواصل العلني مع الجمهور"، أو أثر لأى نشاط في مجال "توعية الجمهور بالعملية التنظيمية للأنشطة النووية" أو في "إجراءات إشراك الجمهور في العملية التنظيمية"، ولا في مجال "اتخاذ التدابير اللازمة لنشر ثقافتي الأمن والأمان النووي"، رغم أن هذا كله من مهامها التي يُلزمها بها القانون واللوائح.
كما لا تلتزم هيئة الرقابة النووية أيضًا بنشر "تقارير ربع سنوية للجمهور عن الموقف الإشعاعي" بالجريدة الرسمية وبالصحف ووسائل الإعلام، ولا تلتزم بإتاحة ونشر ما يصدر عنها من "اشتراطات والتزامات ومعايير ونظم تتعلق بالترخيص شاملة النماذج والجداول حول المعايير الفنية ومتطلبات الأمان الواجب اتباعها"، كما يلزمها القانون واللوائح.
ينص القانون على أن هيئة الرقابة النووية هيئة مستقلة إلا أن كثيرًا من ضمانات هذا الاستقلال تكاد تكون غائبة، فلا يوجد لهيئة الرقابة النووية مقر مستقل، لكنها تحتل حيزًا داخل مبنى هيئة الطاقة الذرية، وهو ما يسمح بتداخل الأعمال بين مختلف الإدارات، كما تعاني الهيئة من نقصٍ في التمويل وغياب كادر مالي ملائم، كذلك لا ينص القانون على حماية منصب رئيس الهيئة من العزل العشوائي، ولا يتضمن أيضًا التأكيد على قدرة رئيس الهيئة على الوصول إلى أعلى سلطة في الدولة كما توصي المعايير الدولية.
من المفهوم والمتوقع ألا يكون لدى هيئة الرقابة جميع الكوادر المتمرسة في المهام الرقابية، خصوصًا على المفاعلات النووية، وقد تحتاج الهيئة إلى الاستعانة بخبراء أو هيئات محلية أو أجنبية أو هيئات رقابية في بلدان أخرى أو لجان استشارية لتقديم الدعم والمشورة إلى الهيئة، ولكن هذا لا يعفي هيئة الرقابة من مسئوليتها الأساسية ويجب أن تمتلك الهيئة عن طريق كوادرها القدرة على تقييم هذا الدعم وهذه المشورة، فهل تم ذلك؟
كما أنه من مسئولية هيئة الرقابة أن تضمن عند الاستعانة بجهات خارجية، عدم تعارض المصالح بأن تمتنع مثلًا عن أن يكون القائمون على تقديم المشورة أو التدريب نفس الجهات التي تنفذ المشروع. ولقد تعاقدت وزارة الكهرباء، بصفتها الجهة المنفذة للضبعة، بالفعل مع شركة دولية هي "وارلي بارسونز" للقيام "بالأعمال الاستشارية والاستلام الفني لمحطة الضبعة النووية"، ويتضمن ذلك قيام الشركة بأداء التقييم الفني وإعداد الدراسات وتقييم ومراجعة المواصفات وإجراء اختبارات التشغيل، وعلى هيئة الرقابة التأكد من عدم تعارض المصالح في هذه الحالة خصوصًا مع غياب الشفافية فيما يتعلق بهذه الموضوعات، فهل تم ذلك؟
إن مقارنة بين أداء هيئة الرقابة النووية والاشعاعية مع مثيلاتها في دول مجاورة، مثل الهيئة الاتحادية الإماراتية للرقابة النووية، في دولة الإمارات العربية المتحدة وهامش الشفافية الواسع الذي تتيحه من معلومات حول هيكلها التنظيمي والكوادر المحلية والأجنبية فيها وتقارير الرقابة والتفتيش ودورات التدريب وأدلة ونماذج وإرشادات وثقافة حول الأمان والأمن النووي، وكذلك النطاق الواسع من التعاون الدولي مع الهيئات العالمية وما عقدته من اتفاقيات دولية وثنائية وتعاون مع الهيئات الرقابية من دول أخرى وغير ذلك، يوضح بجلاء حجم القصور في الهيئات التنظيمية والرقابية في مصر. ومع ذلك فلا يبدو أن أولويات المسئولين عن القرار في الموضوع النووي تتبع التوصيات والمعايير الدولية، حيث يتوجه الحماس والاهتمام نحو الإسراع في البناء والتنفيذ عوضًا عن أو قبل أو حتى بالتوازي مع الإسراع في استكمال بناء القدرات التنظيمية والرقابية.
ويجب بناء هذه القدرات قبل السير حثيثا في بناء مفاعلات نووية، فهذا الأداء، في المجال النووي يؤدي إلى عواقب وخيمة.
تم نشر هذا المقال عبر موقع الشروق الإلكتروني بتاريخ 31 أكتوبر 2017