فشل الحكومة فى تطوير العشوائيات
شهدت الاثنان والعشرون سنة الماضية برنامجين قوميين لتطوير ما يسمى بـ«العشوائيات»، وأكثر من ثلاثة برامج للإسكان المدعم، وقيام الحكومة بتأسيس أكثر من خمسة أجهزة مختلفة معنية بالإسكان والتنمية العمرانية، بخلاف المليارات من الإنفاق العام الذى تم توجيهه لبرامج هذه الأجهزة. رغم هذا، تحتج مجتمعات كاملة على حالة المرافق وارتفاع أسعار السكن، وتشتكى الأجهزة الحكومية من تعديات البناء على الأراضى الزراعية، وانتشار العقارات المخالفة، ويهول الإعلام من خطورة سكان القبور والعشوائيات.
فهل منظومة إدارة وتخطيط العمران فى مصر تدار بمهنية بناء على عملية بحث وتحليل دقيقة، أم هى عشوائية مثل العمران الذى تتظاهر بتحسينه؟
غياب تعريف لـ«العشوائيات» المراد تطويرها
بين عامى 1993 و2008، كانت العشوائيات هى المناطق «صعب السيطرة عليها أمنيا بسبب طبيعتها العشوائية»، وذلك حسب دراسة أعدها مجلس الشعب ضمن أول مشروع حكومى لتطوير العشوائيات. فهذا الاهتمام الرسمى كان رد فعل لكارثة عمرانية، وهى زلزال أكتوبر 1992 الذى راح ضحيته أكثر من 500 شخص، وتشردت نحو 10 آلاف أسرة، بالإضافة إلى كارثة سياسية عقب مبالغة الإعلام فى دور الجماعة الإسلامية الاجتماعى فى حى إمبابة عقب الزلزال، والذى وُصف بجمهورية إمبابة أو بإمارة إمبابة. فيهدف مشروع تطوير العشوائيات الأول إلى فرض سيطرة الدولة من خلال مشاريع لمد خدمات مياه الشرب والصرف الصحى ورصف الطرق لـ1201 منطقة تم تحديد أنها عشوائية، بالإضافة إلى إزالة 20 منطقة أخرى تقرر أنها غير قابلة للتطوير.
بعد مرور 14 عاما، وتطوير فقط ثلث عدد المناطق، تغير تعريف المناطق العشوائية، وأوقف المشروع. فأدى مقتل أكثر من 115 شخصا بعد انهيار صخرة الدويقة فى سبتمبر 2008، إلى تركيز الحكومة على ما أسمته بـ«المناطق غير الآمنة»، والتى تمثل خطورة على قاطنيها لتواجدها بمناطق جبلية غير مستقرة، أو لتهدم أكثر من نصف مبانيها، أو لتواجد مصادر للتلوث أو لغياب أمن الحيازة. فيما منعت المادة 62 من قانون البناء الموحد، القانون رقم 119 لسنة 2008، مد المرافق للمبانى غير الرسمية، أى جميع المبانى التى كانت فى نطاق عمل مشروع تطوير العشوائيات الأول. تم وضع خريطة قومية للمناطق غير الآمنة 2008ــ2017 تضم 850 ألف شخص يسكنون فى 208 آلاف وحدة بـ404 مناطق غير آمنة، وتم تناسى نحو 12 مليون شخص يقطنون بـ871 منطقة عشوائية «غير مخططة».
رغم نطاق عمله المصغر، قام الصندوق بتطوير فقط 14% من المناطق غير الآمنة (حسب عدد الوحدات) خلال الأعوام الستة الماضية، حسب تقرير أهداف التنمية الألفية لوزارة التخطيط. فالسبب الأكبر وراء تدنى وتيرة التطوير هو رفض سكان معظم المناطق التى عمل الصندوق على تطويرها، لخططه التى اقتصر أغلبها على تهجير السكان، ثم بيع الأراضى لأغراض الاستثمار العقارى تحت آلية استعادة التكلفة. أكثر هذه المناطق شهرة هى مثلث ماسبيرو، ورملة بولاق بالقاهرة، والتى كانت أيضا ضمن المخطط النيوليبرالى لمدن القاهرة والجيزة – مخطط القاهرة 2052/2050، ومنطقة الحمام بالأقصر والتى كانت تعترض فتح طريق الكباش السياحى.
بدأ التغير الثالث فى عام 2014 عندما نص الدستور الجديد فى مادته الـ78 على الحق فى المسكن الملائم والتزام الدولة «بوضع خطة قومية شاملة لمواجهة مشكلة العشوائيات تشمل إعادة التخطيط وتوفير البنية الأساسية... وتحسين نوعية الحياة للمواطنين...». فكان ذلك يعد أول ظهور لمصطلح «العشوائيات» فى مصدر تشريعى به ثمة من التعريف بالمشكلة وقدر من الإلزام بحلها. فصرحت وزيرة التطوير الحضرى بعدم إخلاء أى مواطن قسرا وعملت على تعديلات تشريعية لضمان أمن الحيازة لسكان المناطق غير الرسمية. ولكن مع إلغاء الوزارة تم إيقاف العمل على هذا القانون وإرجاء التعديلات التشريعية إلى أجل غير مسمى.
تأسيس وإلغاء الأجهزة الحكومية حسب الأهواء
تم إقرار قانون البناء الموحد رقم 119 لسنة 2008 فى شهر مايو، ونص على تأسيس المجلس الأعلى للتخطيط والتنمية العمرانية برئاسة رئيس مجلس الوزراء ويضم الوزراء المعنيين بالعمران من بينهم الدفاع، والاستثمار، والإسكان، والذى يختص فى إقرار الأهداف والسياسات العامة للتخطيط والتنمية العمرانية والتنسيق بين الوزارات (المادة 3)، وتأسيس صندوق لترميم وإعادة بناء المساكن الآيلة للسقوط، من خلال منح وقروض ميسرة للسكان غير القادرين (المادة 97). ولكن انتظرت الحكومة حتى وقوع كارثة صخرة الدويقة فى سبتمبر من العام نفسه لتأسيسهما، حيث صدر قراران جمهوريان رقمى 298 و305 فى شهر أكتوبر 2008؛ الأول بإنشاء المجلس الأعلى، والثانى لإنشاء صندوق تطوير المناطق العشوائية ليتبع رئاسة مجلس الوزراء، وهو صندوق يختلف تماما عن صندوق الترميم المذكور فى قانون البناء.
فى أغسطس 2012، مع تشكيل حكومة محمد مرسى، تم فصل ملف مرافق مياه الشرب والصرف الصحى عن وزارة الإسكان، وهو ملف ضخم يستحوذ على نحو نصف ميزانية الوزارة، وتأسيس وزارة المرافق ومياه الشرب والصرف الصحى بدون أى سبب معلن. عملت الوزارة لأقل من عام حتى أول حكومة لعدلى منصور فى يوليو 2013، حين تم إلغاؤها وإعادة ملفها لوزارة الإسكان، أيضا بدون سبب.
فى مايو 2014 أصدر عدلى منصور قانون الإسكان الاجتماعى، قانون 33 لسنة 2014، والذى نص على إنشاء «صندوق تمويل الإسكان الاجتماعى» برئاسة وزير الإسكان، ليتولى تمويل وإدارة وإنشاء الوحدات السكنية لبرنامج الإسكان الاجتماعى (المادة 8). هذا رغم وجود صندوق آخر مختص بالإسكان وتابع لوزارة الإسكان، وهو صندوق دعم وضمان التمويل العقارى الذى يختص «بالتنسيق مع الأجهزة الحكومية لإقامة مساكن اقتصادية» (قرار رئيس الجمهورية رقم 4 لسنة 2003).
بعدها بشهر عند تشكيل حكومة عبدالفتاح السيسى الأولى فى يونيو 2014، تم استحداث وزارة الدولة للتطوير الحضرى والعشوائيات بدون مقدمات، وتم ضم صندوق تطوير العشوائيات لها، بالإضافة إلى ملف إدارة المخلفات الصلبة والذى كان من مهام وزارة البيئة. هل كانت مبادرة لتطبيق الدستور، حيث جاء أحد اختصاصات الوزارة حسب قرار رئيس الوزراء رقم 1252 لسنة 2014 مطابقا لنص المادة 78 على الحق فى السكن، أم هل كان نتيجة لمطالبات حملة «مين بيحب مصر لتطوير العشوائيات» أثناء الانتخابات الرئاسية؟ لن نعرف. ففى سبتمبر 2015، مع التعديل الوزارى الأخير، تم إلغاء وزارة التطوير الحضرى، مرة أخرى بدون مقدمات، وتم ضم صندوق العشوائيات إلى وزارة الإسكان.
خلال شهر أكتوبر الحالى صرح مصدر بوزارة التخطيط عن إعداد الحكومة قانون التخطيط الموحد ومن ضمن نصوصه إنشاء المجلس الأعلى للتخطيط والتنمية ليحل مكان المجلس الأعلى للتخطيط والتنمية العمرانية المنشأ فى عام 2008. هذا بهدف «انهاء التضارب والازدواجية فى الإطار التشريعى بين التخطيط القطاعى والتخطيط المكانى واستخدامات أراضى الدولة».
منظومة للتنمية العمرانية العادلة، أو استمرار الفشل
نحو ثلثى المصريين محرومون من الحيازة الآمنة، مما يعرضهم لتهديد الإخلاء أو التهجير. أكثر من نصف المصريين محرومون من الصرف الصحى، مما يعرضهم لمشاكل صحية وتهديد منازلهم بالانهيار. توجد أكثر من مليون أسرة غير متصلة بمصدر مياه آمن (حنفية بمنزلها)، مما يفرض على أفرادها العمل الشاق لجلب المياه للمنزل. توجد أكثر من مليون أسرة تسكن بمساكن شديدة الازدحام وتستخدم نسبة كبيرة منها دورات المياه المشتركة. توجد أكثر من مليون أسرة تسكن بمساكن آيلة للسقوط، حيث تسفر الانهيارات عن مقتل 200 شخص وتشريد أكثر من 800 أسرة كل عام.
هذه كلها أعراض، أما السبب فهو سوق السكن غير المراقب، حيث الزيادة المطردة لأسعار السكن، التمليك منه والإيجار، لا تواكبه زيادة فى الأجور، ما دفع هذه الأعداد من السكان إلى اللجوء لمساكن محرومة من المقومات الإنسانية. لذا أى برنامج لتطوير ما يسمى بـ«العشوائيات» لا يعمل على جميع هذه الجوانب، الأساسية منها، والأعراض، سيفشل. وليعمل برنامج متكامل مثل هذا، لابد وأن تتاح له منظومة إدارية تعمل بكفء، وشفافية وبمشاركة ديمقراطية للمجتمعات التى تعمل لتحسين ظروف معيشتهم. حتى الآن لا يوجد برنامج يهدف لتحسين أية من هذه الجوانب بشكل متكامل ونهائى، ولا منظومة إدارية تعمل على إدارته.
تم نشر هذا المقال في 29 أكتوبر 2015 عبر بواية الشروق الإلكترونية وفي إطار المبادرة المصرية مع عشرة طوبة لدراسات تطوير العمران